طلب الروائي الكوبي خوسيه ليثاما ليما من خورخي لويس بورخيس أن يقرأ روايته “باراديسّو” قبل نشرها، فرد بورخيس برسالة، يخبره فيها “باقترابه الوشيك من فهم الرواية رغم صعوبتها وتعقيدها”. وتكرّر الأمر نفسه في رسالة كتبها خوليو كورتاثار إلى “ليما” عن الرواية نفسها، وقال إنه شعر بعد قراءة أجزاء من الرواية أنها أشبه بمذكرات “أبي الهول”، إشارةً إلى الغموض البالغ الذي اتصفت به، وحذّر من احتمال ألا يفهم القارئ أي شيء منها على الإطلاق. وإذا كان الشعور نفسه قد انتاب أيضاً بورخيس، فكيف الحال بالقارئ العادي؟
يَعُدُّ النقاد الأديب الكوبي خوسيه ليثاما ليما (1976-1910)، واحداً من أعظم كتاب الشعر والنثر في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين وأكثرهم تأثيراً على مسار الواقعية السحرية في أدب أمريكـا اللاتينية المعاصر، على الرغم من قلّة أعماله الأدبية وعدم ذيوع صيته، مقارنة بنظرائه مِن كبار أدباء أمريكا اللاتينية.
سيرة شعرية
كان ليما في التاسعة مِن عمرِه حين توفي والده الذي كان ضابطاً في الجيش، مما عمّق شعوره بالوحدة، وضاعف إصابته بالربو المُزمن (مثله مثل سلفـه مارسيل بروست)، مما دفعه إلى لزوم المنزل والانغماس في القراءات الطويلة المعمّقة. فبدأ بقراءة “دون كيخوته” لسيرفانتس وهو في سنّ التاسعة، وأتبعها بقراءة أعمال مارسيل بروست وفرانز كافكا وجيمس جويس.
لم يبرح ليما وطنه كوبا إلا لفتراتٍ قصيرة في رحلاتٍ إلى الولايات المتحدة والمكسيك وجمايكا. وفي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، بدأت فترة التوّهج الإبداعي لديه، فكتب عدداً مِن القصص القصيرة ذات الطابع الحُلمي السيريالي، يسيطر عليها الولع الغامض بالأمطار والموج سيطرة لافتة، ولم يُترجم من قصصه إلى العربية غير قصة واحدة بعنوان “الهاربون”، نشرها الشاعر والمترجم اللبناني عيسى مخلوف في مجموعة ضمت عدداً من القصص من أمريكا اللاتينية وصدرت عن سلسلة “ذاكرة الشعوب” في لبنان.
يَعُد ليما نفسه شاعراً بالدرجة الأولى، وقال إنه لم يرَ في نفسه غير شاعر كتب قصيدة تحوّلت إلى رواية. وبالتالي، يمكننا أن نَعُد رواية “باراديسّو” قصيدة نثرية طويلة، ذات أسلوب فني “باروكي” مليء بالتفاصيل. ولم يترك سوى روايتيْن ضخمتيْن، هما “باراديسّو” (1966)، ورواية “أوبيانو لوكاريو” (1977)، التي ينظر إليها كجزءٍ ثان مِن رواية “باراديسّو”، نُشِرت في المكسيك بعد وفاته.
“باراديسّو” وتهويماتها
يُقال إن من السذاجة بمكان أن يبدأ المرء حديثه عن رواية “باراديسّو” بالعبارة المكرّرة: تدور أحداث الرواية عن…”.
صحيحٌ أنَّ ليما اتكأ على سنوات طفولته المعتلة وفقدانه المبكر لأبيه ومعشوقه الأول وطنه كوبا متخذاً إياها نقاط ارتكاز، يشيّد فوقها عالمه الروائي، إلا أنه كلما تقدَّم القارئ في القراءة، يكتشف أن الزمام يفلت مِن يديه تدريجاً، فـيـتيه في أروقة عوالم مُعتمة.
في هذه الرواية، تحتل القصة مرتبة ثانوية إذا ما قورِنت بلغة السرد الشعرية. لا يختلف ناقد ولا قارئ على حقيقة أن ليما كان يستعرض عضلاته اللغوية والسردية والمعرفية الموسوعية من دون مبالاة بالقارئ والناقد. فما كان يعني ليما في المقام الأول هو شعرية السرد وهيمنة الخيال في محاولة لاستعادة فردوسه المفقود، أي سنوات الطفولة والصبا ووطنه كوبا، استعادةً قوامها الأساطير. وسيّان إن أتى المعنى أم إن لم يأتِ أبداً.
بالمفهوم الكلاسيكي، يمكن وصف الرواية بأنها من الروايات التي ترصد تطوّر شخصية البطل ونموها منذ سنوات الطفولة حتى مرحلة الشباب، وأطوار اكتشاف الصداقة واللذات الحسية وصولاً إلى مرحلة النضج واكتشاف الذات الأدبية. إلا أنها في الوقت نفسه تخرِق سفينة النوع الأدبي الذي تنتمي إليه، فيغيب البناء السردي التصاعدي المُحـكـم، وتختفي الحبكة، لتسبحَ الرواية في عوالم حُـلْمية سريالية، تفتقد الترابط المنطقي للأحداث، ولا تهتم بالمسار الزمني ولا بالحبكة الدرامية، بقدرِ اهتمامها بمحاولة استعادة الفرودس المفقود، وكأن المؤلف لا يعنيه القارئ التقليدي المبتذل الجالس على مقعده منتظراً هبوط المعنى من السماء، بقدر ما يعنيه القارئ الذي يقفز محاولاً التقاط روح التجربة ليعيد تخيلها، وليصنع المعنى بنفسه ولنفسه.
طفولة في كوبا
بطل الرواية هو خوسيه ثيمي الذي يستعرض سنوات الطفولة مع أسرته في كوبا ما قبل كاسترو، حيث يأتي على ذكر الثورة الكوبية ذكراً هامشياً بين الأحداث. ومع تقدَّم الأحداث يتحول كل فصل مِن فصول الرواية إلى طقس شعائري ذي ملامح أسطورية، حيث يخلع ليما على شخوص روايته، الذين هم في الأساس أفراد عائلته، أسماء رمزية. ثم يلبّس كل شخصية قناعاً وراء الآخر، ينسجُ منهم وعنهم حكاية وراء الأخرى، فتتحول الشخصيات، أي أفراد العائلة، في نهاية المطاف إلى أنماط بدائية أولية بالمعنى الذي أشار إليه عالم النفس الألماني كارل يونج. ويعيدُ المؤلف سرد مراحل تكوين بطله خوسيه ثيمي في محيطه العائلي وتأثره بفقد والده في سن مبكرة، ثم في سنوات التلمذة ومحاولات كتابة الشعر.
يدور محور الرواية فوق عجلة اسمها الميلاد والموت والبعث، وترتدي شخوصها أثواب الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا الإغريقية، وتستدعي تفاصيل حياة الكاتب الشخصية لرسم ملامح كل شخصية روائية. وهكذا على مدار الرواية، تتحوُّل محطات حياته العائلية وعلاقته بأسرته إلى عـقــد ينتظم في حباته أبطال الأساطير ويوظفها داخل نصه في محاولته كمؤلف، أو كبطل متخفٍّ في الرواية تخطى الصعوبات والمشكلات التي واجهها في رحلته.
رواية “باراديسّو” رواية معقَّدة ومُـرهـقـة، تعتمد على الصور الشعرية والبلاغية في سرد الأحداث، أكثر مِن اعتمادها على الخطاب المنطقي، ولا تبوح بأسرارها ورموزها من القراءة الأولى ولا الثانية، إلا أنها تهب نفسها للقارئ الصبور الذي ينـحي المؤلف جانباً، ليقوم بدوره، في تشييد عالم موازٍ لعالم الرواية، كأن يتخيل القارئ طفولة أخرى. وهي رواية المستحيل، والمستحيل هنا هو المعنى المفقود المراوغ، غير القابل للظهور، لا عن طريق قراءة النص، ولا عن طريق تأويله. هو المعنى الذي يخلقه القارئ بنفسه ولنفســه. ولكن…أين الفردوس في كل ذلك؟
الفردوس حسب مفسري خوسيه ليثاما ليما، هـو حلم يـتـلقـفه القارئ بيديه، بعد سقوطه من عقل المؤلف، فيحلم القارئ الحلم بطريقته، والأدب العظيم غير قابل لتأويل واحد.
يبدو أن قدر كل أدب عظيم، وغاية كل فنان حقيقي أن يترك بِـضعة من فردوسه المفقود يوماً قبل مغادرة الحياة. أتحدث هنا عن “يوليسيس” لـجويس، و”طائر الليل البذيء” لخوسيه دونوسّو، و”البحيرة” لكاواباتا، و”القصر” لكافكا، وبالطبع “البحث عن الزمن المفقود” لبروست.
رواية “براديسّو” تنتمي إلى ذلك الأدب الذي يأتي فيه المؤلف بالكلمات، بينما يأتي فيه القارئ بالمعنى إذا استعرنا تعبير أومبرتو إيكو.