بداية كلام

كيف تتذكر ليالي الشتاء؟

مَنْ سيغلق زجاج النافذة؟
إياد مراد ـ استشاري تسويق ـ بيروت
في ليالي الشتاء الهائجة بصوت الرياح والمطر الغزير، كنَّا أنا وإخوتي وأهلي نجتمع في غرفة الجلوس. وكان هناك سباق للجلوس قرب مدفأة الحطب. وكالعادة لا يخلو سطح المدفأة من عدَّة أباريق، واحد دائماً للماء الساخن، وآخر للـ”زهورات” التي جمعتها جدَّتي لتصنع لنا شراب الشتاء الدافئ المعتاد ذا المذاق الرائع.
تدور الأحاديث في هذا الجو الدافئ وتتناثر القصص والصور. وكأنَّ هذا التجمع حول المدفأة الذي نسميه “كنكنة”، أي تقارب الجميع من بعضهم بعضاً، مكان مثالي لتبادل القصص وتمضية الوقت، بانتظار نضج الكستناء أو البطاطا الحلوة الغنية بالنشويات والسكر الذي يدفئ أجسامنا. وفي هذه الأثناء، تضرب الريح خشب النوافذ الخارجية بالحائط، مُحدثة قرقعة عالية. فتصدر الوالدة أمراً حاسماً يقضي بغلق النوافذ الخشبية، وكان اختيار الجميع يقع دائماً عليَّ للقيام بهذه المهمة. فتبدأ عملية ارتداء الملابس المضادة للبرد والهواء، ويبدأ حشد الشال والسترة والقبعة للتوجه إلى المعركة، وتنهمر النصائح الغزيرة بارتداء هذا وذاك، فأنا الجندي المقاتل، والآخرون في أماكنهم يحافظون على دفئهم، ويتحضرون لمشاهدة حدث إغلاقي للنافذة. فتتحوّل جلساتنا الشتوية إلى لحظات لعب ولهو نصنعها من لا شيء.

 

مكتبة أبي وخبز أمي
منصورة الجمري ـ ناقدة سينمائية ـ المنامة
حين أذكر ليالي الشتاء، أتذكَّر والدتي وهي تسخن الخبز على مدفأة الكيروسين، فيما نتقافز أنا وشقيقي الذي يكبرني بعام حولها. نحاول الالتصاق بالمدفأة فتبعدنا هي خوفاً من أن يحرقنا لهيبها.
ليالي الشتاء تعني أن تنتقل وجبة العشاء من المطبخ إلى مكتبة والدي التي كانت الغرفة الداخلية الدافئة في منزلنا. وهذا ما يعني التلذذ، بعد الانتهاء من تناول وجبة الطعام، بمطالعة كتاب يشرح أحكام الإرث في الإسلام مثلاً أو قصص من عوالم خيالية. قطعاً لم تكن تفاصيل تلك الأحكام هي ما تغريني، لكنها المجسمات الورقية الملوَّنة الجميلة التي يمتلئ بها الكتاب. ليالي الشتاء تعني دفء مكتبة أبي وحرارة الخبز الذي تناولني إياه أمي، وحميمية الأسرة مجتمعة حول العشاء، لكنها أيضاً تعني لي برودة قارسة نخرت قلبي وروحي يوماً، قبل أن تنخر عظامي عندما وقفت خارج منزل والدي لساعات طويلة أنتظر عودة جثمانه.

 

اللعب تحت المطر
رندا صادق بركات ـ كاتبة ـ لبنان
أعتقد أنني كائن شتوي يعشق المطر والبرد. وحكايتي مع الشتاء بدأت منذ تعلّمت الإصغاء لصوت الطبيعة من حولي، ومنذ أن بدأ وعيي يتشكَّل وحواسي تتفتح.
في بيتنا الحنون والمتواضع يكون شهر ديسمبر شديد البرودة. وكنت أقضي الليل أصغي لصوت المطر وهو يرتطم بزجاج نافذتي، وأتلذَّذ بلسعة البرد التي تسري في داخلي وكأنها الحياة تدخل في جسمي. وعندما أخرج، كنت أتحين الفرصة لأخلع حذائي وأسابق الماء الذي يسيل فوق مدارج حارتنا القديمة، والمطر يتساقط على وجهي وشعري، وعلى الرغم من أنني كنت أعرف أن جلسة تأنيب تنتظرني من والدتي -رحمها الله -، إلا أنني لم أكن أقاوم اللعب والركض حافية في مياه الأمطار.
الشتاء نبض الفصول بالنسبة لي، فهو فصل الأناقة، ورائحة الكستناء والحكايات ومرح العائلة. وكلما لمع البرق واشتد الرعد كنت أفرح وأنظر إليه. في فصل الشتاء أكون في ذروة حيويتي، وأتمنى لو يكون نصف السنة شتاءً.

 

أهزوجة طلب المطر وحساء الحريرة
أمينة الريش ـ محامية، مستشارة هجرة ـ المغرب
كلما دخل الشتاء ترّن في ذاكرتي أهزوجة طلب المطر التي كنَّا نردِّدها ونحن صغاراً «تاغنجا تاغنجا ياربي تصب المطر.. السنبلة عطشانة غيثها يامولانا»، (تاغنجا: هي المغرفة التي نغرف بها الطعام). وكنَّا نكسو هذه المغرفة لتبدو كعروس متزينة. كان والدي في كل شتاء يأخذنا إلى زيارة جدَّتي في البادية، فتعدُّ لنا الخبز المغربي اللذيذ ونأكله مع العسل والعصيدة والزبدة، وبعد الظهر نخرج وأطفال القرية، وننشد (تاغنجا..تاغنجا) ونلوح بالمغرفة ونرقص. وفي المساء يكون البرد قارساً، فنرتدي القبعات وقفازات الصوف والمعاطف الثقيلة، وتكون جدَّتي قد أعدت لنا حساء الحريرة والعدس ونوعاً من الفطائر نسميه «فتات الشطبة»، إلى جانب طاجن السمك والفول المشرمل (المظبط). ثم نحتسي الشاي بقرب المدفأة وتحكي لنا جدَّتي الحكايات.
الشتاء هو الجدة وكنفها والطعام الذي تدفئنا به.

 

حين أمطرت السماء شهباً
رامي مصلح الثقفي ـ مهتم بالظواهر الطبيعية ـ الطائف
الشتاء فصل له روحه الخاصة، حتى الملابس في هذا الفصل تتسم بالأناقة، والسهر يحلو في الليالي الباردة أمام المدفئة أو نار الحطب. كنَّا في المنزل نرتدي الملابس الشتوية ونقفل الأبواب والنوافذ والمنزل ليصبح دافئاً مع تشغيل الدفَّايات. حتى المأكولات في هذا الفصل تصبح ألذ وأشهى، وخاصة الساخنة منها.
أذكر حدثاً غريباً لم ينلْ حظّه إعلامياً، وقع في شتاء العام 1998 في الطائف. كنت في سهرة شتوية، وأثناء عودتي وقت الفجر إلى المنزل والطقس شديد البرودة، شاهدت نزول نيازك من السماء. كانت متقطعة في البداية، وبعد قليل بدأت تتزايد حتى أصبحت أشبه بمشهد عظيم للألعاب النارية. كانت ألوانها مختلفة، حمراء وزرقاء وخضراء، إضافة إلى البيضاء. ولتوثيق المشهد، أيقظت والدتي وإخوتي كي يروا المشهد، ويكونوا شهوداً على ذلك، فشاهدوا ما شاهدته. وقد أثار دهشتي عدم اهتمام وسائل الإعلام بهذا الأمر. ولكن هذا الحدث بات مرتبطاً بالشتاء في ذاكرتي، والشتاء مرتبط به أيضاً.

أضف تعليق

التعليقات