في نهاية شهر يونيو، أعلنت شركة “فيسبوك” أنها أوقفت عن العمل الإنسان الآلي لديها المعروف باسم “آل”، لأن نموذج أحدهما المسمى “بوب” والآخر “أليس” أصبحا يتحدثان مع بعضهما بلغة غير مفهومة، وصفها بعض المسؤولين في الشركة في البداية بأنها “مخيفة”، قبل أن يهدأ روعهم ويقولون في وقت لاحق “إن الحوار بين هذين الإنسانين الآليين “لم يكن سيئاً، وإن مثل هذه الحوادث معروفة في عالم الذكاء الاصطناعي”. وهذا الحادث ما هو إلا جرس إنذار ينبّه إلى أن التقدم التقني بات أقرب من أي وقت مضى إلى الخروج عن سيطرة صانعيه، حتى عندما يكون هؤلاء من صفوة العلماء والمخترعين. فماذا عن التقنية المتقدِّمة بين أيدي ملايين المستهلكين عبر العالم ممن هم أقل قدرة على التحكم بها؟
الحوار الذي دار بين الإنسانين الآليين في شركة “فيسبوك”، ونشرت جريدة “الإندبندنت” فقرات منه، لم يكن بلغة جديدة، بل بكلمات إنجليزية، غير أنها ذات معانٍ غير مترابطة بالنسبة لفهمنا، مع تكرار كبير لبعض الضمائر. ولكن ما أثار القلق هو أن “أليس” و”بوب” كانا متفاهمين، في حين أن البشر الذين كانوا يستمعون إليهما لم يفهموا شيئاً مما كان يُقال.
ومن دون القول إننا بتنا على قاب قوسين مما شاهدناه في فيلم “ترمينايتور”، فإن الجدال حول طبيعة هذا التطور وما يمكن أن يمثِّله من خطورة لا يزال قائماً. وهو يتغذَّى من تصريحات سبق أن صدرت حتى عن بعض كبار العلماء مثل ستيفان هوكينغ الذي توقَّع أن يخرج الرجال الآليون عن سيطرة الإنسان في المستقبل، كما أن هذا الحادث أتى بعد أيام معدودة من جدل بين عملاقي الصناعة الذكية إلون ماسك، ومارك زوكربرغ. فالأول رأى في الرجل الآلي “آل” الذي تطوره “فيسبوك” مصدر خطر، في حين أن الثاني دافع عنه نافياً احتمال خروجه عن السيطرة.
إن التطلع إلى هذه القضية في عمقها، يكشف لنا أن المسألة ليست في طبيعة الأبحاث حول الذكاء الاصطناعي، بل في السرعة المحمومة التي يجري بها تطوير التقنية الحديثة، والتي اتخذت شكل سباق بين الشركات الصناعية، لأن الجائزة الكبرى هي عادة ودائماً من نصيب الواصل أولاً إلى هذا الابتكار أو ذاك.
يتكشف عمق هذه المشكلة في عالم مستهلكي التقنيات الحديثة والأجهزة الذكية أكثر منه في مختبرات الباحثين. فالعامل التجاري – الاقتصادي الذي يحفِّز سباق الشركات المنتجة هو نفسه الذي يقذف كل يوم بمنتجات جديدة إلى الأسواق تفوق قدرة المستهلك على التعامل السليم مع هذه المنتجات والاستفادة منها بشكل كامل.
فلو أخذنا واحداً من أبسط الأمثلة التي نعرفها جميعاً، وهي الهواتف الذكية في جيوبنا، لتوجب علينا الإقرار بأننا لا نستخدم منها إلا جزءاً محدوداً من قدراتها. وما هو أدهى من ذلك وأخطر، هو أن هذه الأجهزة قُذفت في وجهنا من دون أي تحضير مسبق لاستقبالها والتعامل معها. فالقدرة على الاتصال بأي كان في أي وقت وضيق هامش المتلقي على الرد من عدمه، وإمكانية عرض الآراء الشخصية في أخطر القضايا مجاناً وبسهولة فائقة عبر هذه الأجهزة، وغياب التقاليد الاجتماعية والسلوكية التي يجب أن تضبط التعامل مع هذه الأجهزة الجديدة، حوّل وسائل ما يسمى “التواصل الاجتماعي” إلى “ديناميت اجتماعي”. وقضية الفتاة الأمريكية التي حوكمت وأدينت بتهمة القتل غير المتعمد لأنها شجعت صديقها في رسالة نصية على الانتحار، ما هي إلا مثلاً متطرفاً عن ملايين الحالات الأقل تطرفاً، التي كانت وسائل “التواصل” الاجتماعي فيها ميدان خلافات وتقطع العلاقات.
حتى العقدين الأخيرين من القرن العشرين، كان الباحثون يفتشون عن حلول تلبي احتياجات الإنسان. أما اليوم، فصارت مهمتهم ابتكار حاجات جديدة وتلبيتها على أيديهم. والأمر ليس بالضرورة خطأً أو مشكلة بحد ذاته. ولكن لكي يكون سليماً، عليه أن يبقى مصحوباً بترقية دائمة لمدارك المجتمع وثقافته ومعارفه، كي يبقى هذا المجتمع بحاجاته الفعليــة وسعيه إلى التقدم والرفاهيـة، هو سيّد التقنيــة، وليس العكس.