سينما سعودية

“ممسوس”

رحلة وثائقية إلى أعماق الاكتئاب النفسي

لا أحد يستطيع التكهن بحقيقة الاضطرابات التي يتعرَّض لها المصاب بحالة “الاكتئاب”، تلك الكلمة التي قد نكرِّرها ببساطة عند إصابتنا بحالة ملل عابرة أو حالة خمول في أحد الأيام، فالاكتئاب علمياً وطبياً أعمق وأخطر من ذلك بكثير.
وما فعله فيلم “ممسوس” للمخرجة شذى مسعود الفائز بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان دبي السينمائي 2016، هو تقديم ثلاث حالات حقيقية لأشخاص يعانون من الاكتئاب الحاد المرتبط بنوبات الذعر والرهاب، والتقوقع والهذيان، والهوس الحاد. فيستعرض على ألسنة أصحاب الحالات تلك الأعراض المختلفة للنوبات المرضية التي تهاجمهم، وهو بذلك يأخذ المشاهد إلى تخوم قد تكون مباغتة له.

الأشخاص الذين يظهرون في الفيلم هم أمل الحربي وخالد يسلم وأفراح البلوي من السعودية، وعلى الرغم من قصر مدة الفيلم (24 دقيقة)، إلا أنَّ تأثيرهم على المشاهد يبدو واضحاً. إذ إنَّ عرض مشكلاتهم أمام عدسة كاميرا يعرفون أنها ستنقله إلى المشاهدين في كل مكان عبر السينما وربما عبر اليوتيوب يُعد جرأة ووعياً. كما أن التحرُّر من الإحساس بالخجل من الذهاب للطبيب النفسي في مجتمع يربط الاكتئاب بالجنون هو قفزة يحاول أن يحققها الفيلم.

شخصيات غير فاعلة
الشخصيات المستضافة في الفيلم تبدو ذات كفاءة علمية عالية وخلفية ثقافية واضحة. فالثلاثة يجيدون اللغة الإنجليزية، شبه عاطلين عن العمل ولكنهم لا يتذمَّرون من أي عوز لمتطلبات العيش الكريم، كما أنهم لا يتطرَّقون لعلاقتهم بالعمل أو معاناتهم فيه من أي ناحية من النواحي إلا بشكل خاطف من إحدى الشخصيات. لذا قد تكون مهنهم المعلنة في الفيلم (كاتبة ـ مدوّن ـ مصورة) مهناً صورية يواجهون بها المجتمع، وهم في قرارة أنفسهم لا يعملون شيئاً مهماً، لذا يمكن اعتبارها هوايات مزاجية، وليست أعمالاً بالمفهوم المتعارف عليه. فنراهم يخرجون من منظومة العولمة التي يقحمون أنفسهم فيها من خلال أدوارهم المصطنعة (كاتبة ومدّون ومصوِّرة) وهي مهن تتطلَّب بالضرورة الاحتكاك الممعن بالمجتمع، لأنهم لم يجدوا التقدير الذي توقَّعوه نتيجة لذكائهم وتميزهم المتجاوز (كما يعتقدون). فكان موقفهم الرفض الشديد لدرجة الإلغاء والكراهية الشديدة لكل  المجتمع .. إن علاقتهم بمفهوم العمل وعدم الانضمام إلى قافلته خلق منهم شخصيات انسحابية مدمرة تحت هلوسات وَهمٍ كبير اسمه التميّز والفردانية.

اللافت في شخصياتهم
لعل الشخصية اللافتة هي الشابة التي تقرأ سارتر وفوكو وتشاهد أفلام هيتشكوك وفيلليني. شخصية “أمل الحربي” وهي الأغرب بهيئتها وصوتها الذكوري وتدخينها الشره، ناهيك عن حديثها الذي ينم عن ثقافة أدبية واضحة، كما يكشف عن حساسية إنسانية رقيقة تجاه البشر. كذلك “خالد يسلم” الذي بدا مدركاً تمام الإدراك لمشكلته، بل إنه يحكي عن علاقته بالعلاج ويعرف تفاصيل حالته ويحاول أن يتغلـب عليها بالسخريــة والإرادة. لكنه لا يستطيع، فالأمر خارج عن سيطرته. وما يميّز خالد هو خفة ظله وحضوره الطبيعي وهو يحكي الأعراض التي ألمَّت به.. أما “أفراح البلوي” التي ظهرت لطيفة، فلا تخلو من الذكـاء والعمق في طرح معاناتها النفسية والوجودية.

لمسات المخرجة
والإيقاع المتوازن

أجادت المخرجة شذى مسعود في تقديم الدقائق الأولى للفيلم بمقدِّمة من الصور المتلاحقة والمتداخلة في تهويمات تشي بالاضطراب النفسي والعقلي. وصاحب الصور تعليق بصوت راوية تمهِّد لما يدور في داخلها، واصفة تلك المعاناة بأنها آخر مرَّة تعرَّضت فيها لنوبة اكتئاب، ولا ندري من هي على وجه الدقة، الأمر الذي يضلل المشاهد أو يوحي له بأنه كان صوت المخرجة.
ولكن الأهم في سياق الفيلم أن مضمونه يهاجم النظرة التقليدية للحالات الإنسانية الخاصة التي يعاني منها مرضى الاكتئاب في مجتمعاتنا الشرقية، وهذا ما نجحت فيه المخرجة نجاحاً واضحاً.
لم يفلت إيقاع الفيلم من المخرجة. إذ حافظت على توازن في المونتاج الزمني والسينوغرافي، عبر لقطاته وفترات ظهور المتحدثين.
يأتي في سياق الفيلم أن الراوية تأتي إلى جدة حيث تلتقي الشخصيات الثلاث وهم يعانون من نوبات مؤرقة من الشعور بالتشاؤم الدائم وقلة الحيلة في مواجهة مشكلات الحياة والشعور بالذنب وعدم القيمة وتلاشي الأهمية في المجتمع وعدم القدرة على إظهار العواطف للآخرين أو تقبلها منهم.
تتحدَّث الشخصيات عن مشكلات في النوم مثل الأرق أو النوم لساعات طويلة، أو الاستيقاظ المبكِّر، وعن مشكلات في تناول الطعام (شهية زائدة، انقطاع الشهية). إضافة إلى آلام جسدية مزمنة تستعصي على العلاج. والبكاء الكثير وسرعة التوتر والنشاط الزائد وعدم القدرة على الهدوء والارتخاء.
ثم يتحدّثون عن شعورهم بالتعب الدائم وعدم القدرة على بذل الجهد البدني. وكذلك نقص القدرة على التركيز والتذكر، واتخاذ القرارات السليمـة، وصــولاً إلى التفكير الفعلي في الانتحار أو محاولة الانتحار.

الثقافة النفسية غائبة
إن كلمة ممسوس “الشعبية”، التي اعتمدت اسماً للفيلم، يطلقها المجتمع على مَنْ به مسٌّ من الجان، وربما على من يعده “مجنوناً”.
تصف أفراح البلوي حالتها فتقول “تحس أنك راكب أسانسير (مصعد) وتحس بأنه ينزل بك بسرعة! شيء يضغط على صدري طوال الوقت. نوبات بكاء لا أعرف سببها..” وهكذا، فإن مريض الاكتئاب ليس كمن يكوّر نفسه في ركن، يُعتم غرفته، يبتلع كلماته، ويعتزل العالم. إنما هو من يحمل في جيوب قلبه شحنة آلامه، وغضبه، ورعبه..
يقول خالد يسلم: “إن ثقافة الذهاب إلى طبيب نفساني غير موجودة في مجتمعنا. أعتقد وأنا أسجِّل هذا الفيديو بأن أبي وأمي، إذا رأوه، سيقولون لي لماذا ياولدي عملت الموضوع هذا.. هذا الموضوع يعتبر عيب يعتبر تابو”..
وتقول أمل الحربي: “ميشيل فوكو كتب تاريخ الجنون، وحسب تعريفه للجنون فكلنا مجانين”..
الفيلم مناولة جريئة وشيّقة معرفياً، نستمع خلاله إلى تفاصيل مؤلمة تكشف معاناة حادة يعانيها ضيوف الفيلم، ربما شجاعتهم وقوة شخصياتهم في أنهم أرادوا عرض مشكلاتهم على الملأ يقود إلى تقدير كبير لهم، رغم ما فيها من فضح ومكاشفة قد يخجل كثير من البشر البوح بها.
ما مقدار الصفعة التي يجدها المشاهد من الفيلم؟ بشكل أو آخر، قد يجد كل مشاهد شيئاً من معاناته في طيات حديث إحدى الشخصيات الثلاث. وهي بالضرورة معاناة يتقاسمها الإنسان المعاصر في أي بقعة من هذا العالم المعولم.

حاز جائزة أفضل فيلم قصير بمهرجان دبي السينمائي 2016

إنتاج إماراتي سعودي، 24 دقيقة
الأبطال: أمل الحربي، خالد يسلم، أفراح البلوي
تمثيل: رؤى باسعد، شيخة آل علي
مدير التصوير: سعيد سالم
تصوير: شذى مسعود، عبدالله العامري
مونتاج: شذى مسعود، عتيبة يعقوب
ترجمة: نورة محمد
فكرة وإخراج: شذى مسعود

أضف تعليق

التعليقات