الثقافة ليست ترفاً، بل هي وسيلة أساسية من وسائل إعادة بناء الإنسان.
يقول ابن خلدون في مقدمته: لا يكفي أن تصف موج البحر وظهور السفن حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر.. لا بد لك أن تفهم ما في القاع.. قاع البحر الملئ بالغرائب والتيارات والوحوش.. وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملة يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً، وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت السياط .
هل يمكن أن نتحدث عن وجود أزمة ثقافية عربية دون أن نربط وجود هذه الأزمة بعوامل عديدة، لا بد من النظر إليها ودراستها وتحليلها، حتى يمكن أن نفترض حلولاً لمعالجتها.
إذا افترضنا وجود أزمة ثقافية عربية، فلا بد أنها أزمة من أزمات المشروع النهضوي العربي، الذي لم يتحقق منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن. إن الأزمة الحقيقية هي أزمة إبداع، وهي أزمة الوطن العربي ككل. فالصراع الفكري بين الاتباع والإبداع صراع عميق لم يحسم حتى الآن، والموقف تجاه الحداثة لم يحسم بعد، والعالم العربي يواجه واقع التخلف والتجزئة واتساع الهوة بينه وبين العالم المتقدم، وهذا ما يجعل الثقافة العربية تواجه مهمة شديدة التعقيد، فالثقافة، كانت، ولا تزال ، تسلك طريقاً شديد الوعورة في مواجهة ظروف صعبة: هجرة عشرات الألوف من الأدمغة العربية مما أفرز واقعاً متخلفاً، كما خلَّف القهر والحرمان الذي يعيشه الإنسان في عديد من الدول العربية تطرفاً متعدد الأوجه، إضافة إلى أن الاهتمام تركَّز في معظم الدول العربية على مطالب التنمية المرتبطة بالاحتياجات اليومية للإنسان، لذا كان على الثقافة، في معظم الأحيان، أن تتنحى عن الطريق أمام زحف المطالب التنموية. ونذكر على سبيل المثال، بناء المجمعات التجارية الضخمة والفنادق وأماكن الترفيه والتسلية، التي تتطلب أيضاً تحسينات في البنية التحتية من طرق ومواصلات وخدمات وغير ذلك، في الوقت الذي لا يلتفت إلى تحسين البنية التحتية للثقافة في كثير من الدول.
مشكلة الثقافة أنها لم تكن أبداً ضمن أولويات النمو الاقتصادي والاجتماعي، لذا كانت ولا تزال، تعاني من الإهمال والقصور، فما دمنا لا نعترف بأن مجرد النمو الاقتصادي لا يعني الحضارة والتقدم، وأنه لا سبيل إلى تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بكل مقوماتها، بدون التنمية الثقافية، فستظل الثقافة في أسفل قائمة الاهتمامات.
إن جوهر الثقافة هو الإبداع، وأداتها تنمية قوى الإبداع لدى الإنسان، وإفساح المجال أمام تفتحها وازدهارها، والثقافة في معناها العميق تعني انطلاق الخيال والتجديد في شتى الميادين، على أن الإبداع الثقافي كي ينطلق لا بد من أن يتوافر له مناخ ييسر الإبداع ويحفزه ولا يعيقه ولا يكبله، وعلى رأس عوامل المناخ الملائم الثقافة، الحرية، حرية المبدع، وتوفير الأمن والطمأنينة له.
إن الإبداع إما أن يكون طليقاً حراً وإما لا يكون. لذا لا بد من حماية الإبداع الثقافي الصحيح من منافسة الثقافة الرخيصة، ولاسيما ثقافة الاستهلاك التي تبثها وسائل الإعلام والفضائيات، وما تؤدي إليه غالباً من تسطيح الثقافة ونشر الثقافة المبتذلة. ولا بد من نقل الثقافة من مراكز الاهتمام الثانوية إلى المراكز الأولى، لأن الثقافة هي الاقتصاد الآخر لكل أمة، لكل شعب، ولأن القوى الثقافية عديلة القوى الاقتصادية، ومكملتها في القوة والأثر والإنتاج، هي الأصل في كل عمل تنموي، وفي كل مردود للتنمية.