الأسد في الطبيعة مجرد مخلوق يستخدم قوته الكبيرة في تأمين غذائه وسلامته من الضواري الأخرى. لكن الشعر جعل الأسد في الذهن صورة للسمو والعظمة، ورمزاً للبطش والتسلط، وعنواناً للسيطرة.
الدكتور فواز أحمد طوقان يتناول هنا بعض الصور المختلفة لعلاقة شعراء الأمس بملك الغاب، متوقفاً بشكل خاص أمام البحتري.
أسد بشر بن عوانة
عندما اقتحم بشر بن عوانة العبديّ الآجام طلباً لمَهر يقدمه لابنة عمه، استغلّ دافعه الوحيد هذا ليقف بتحدٍّ وجهاً لوجه أمام الأسد ويصدّه ويثنيَه عن خَوْض المعركة الفاصلة:
نصحتُك، فالتمس يا لَيْثُ غيري
طعاماً، إنّ لحمي كـان مُرّا
وأنتَ تروم للأشبـال قُوتاً،
وأطلبُ لابنةِ الأعمـام مَهْرا
فكلاهما بطل اللقاء الباسل المجرَّب، ولكن أيّهما له النصر؟! هُوَذا الشاعر البطل يخطّ بدم الأسد قصيدته الملحمية، ويرسلها إلى ابنة عمّه. آخر أبياتها تبريرٌ وتعزية للأسد على هزيمته :
فلا تجزعْ فقد لاقيتَ حُرّاً
يُحاذِرُ أن يُعابَ، فمِتَّ حُرّا
نلاحظ هنا عناية الشاعر الفائقة في المحافظة على هيبة الأسد، وتقوية رمزه كسيّد مملكة الحيوان. ففي ختام القصيدة، وجّه الشاعر كلامه إلى خصمه -أي البطل الضحية وكأنه يخاطب بطلاً لم يهزمه الشاعر- أي البطل المنتصر، وإنما هزمه الموت الذي هو أقوى من الضحية ومن المنتصر. ولذلك فالأسد الضحية بعد المنازلة، لا يزال حيّاً يرى ويسمع:
فإن تَكُ قد قُتِلتَ فليس عاراً
فقد لاقيتَ ذا طَرَفَيْن حُرّا
وإن ساوى الشاعر في نهاية القصيدة بينه وبين الأسد مما يوحي لنا بأنه رفع الأسد إلى منزلته، لكن في الواقع أضحى الشاعر نفسه هو الأسد البطل.
أما أسد المتنبي الذي جاء ذكره في مدح الأمير بدر ابن عمّار بن إسماعيل، بالرغم من براعة الشاعر ودقّة صنعته في صياغة الصورة، فقد ظهر لنا الأسد المجرد من الحياة الذي لا يسمع ولا يرى ولا يتحرك وكأنه تمثال حجريّ طفِق الشاعر ينحته نحتاً من رخام اللغة الصلدة. والمنازلة التي تمّت بين الممدوح وبين الأسد لم تكن منازلة بين بطلين قط. هذا هو الأمير بدر يهاجمه الأسد وهو غافل عنه. والأسد هنا يحامي عن فريسته التي كان يلِغ فيها مع أسد آخر ولّى هارباً لحظة سمع وقع حوافر حصان الممدوح، وكأن الأسدين، المهاجم وأخيه الهارب كليهما من عامة الحيوان، يأكلان على قارعة الطريق. ويتّسمان بالجبن. أين هذه المواجهة الهزيلة من أسد كعب بن زهير في رائعته: بانت سُعاد ؛ فهو ضَيْغم من ضِراء الأُسْد يحمي غابه، وله أشبال عيشهم في كل يوم لحم من القوم ، حتى انقطع الناس عن المرور بمنطقته: ولا تمشّى بواديه الأراجيلُ ، أي السائرون على أرجلهم. وهذا دأبه وعادته:
ولا يزال بواديـه أخو ثِقَةٍ
مُطرّح البَزّ والدرسان مأكولُ
يريد كعب بن زهير أن يقول إن هذا الأسد الشجاع لا يمرّ بواديه أحد إلا أكله وترك سلاحه وثيابه (البزّ والدرسان) مضرّجين بالدماء.
البحتري.. الفتح بن خاقان للأسد
اشتُهر البحتري بالوصف المتميّز ذي الموضوعات الفريدة. فقد وصف منازلة بينه وبين الذئب في أُخريات الصبح ببيداء مقفرة وكلٌّ يبغي افتراس الآخر. ووصف البحتري البركة العجيبة في قصر الخليفة جعفر المتوكل، ووصف الربيع الطلق الضاحك من الحسن حتى يكاد يتكلّم. ومن مشهور شعره قصيدته العصماء في وصف إيوان كسرى. وتتجلّى براعته في دمج مقاطع الوصف الرائق بجسد القصيدة مما يزيد من شاعريتها وينوّع من صورها. من الشخصيات التي أُعجب البحتري بها وتعددت مدائحه فيها، القائد الهمام: الفتح ابن خاقان.
قال يمدحه، ويذكر منازلته الأسد في متنزّه الحيوان الكبير الذي بناه المتوكل ملحقاً بقصره في سامرّاء فكان أشبه بمحمية طبيعية للحيوانات الضارية وغير الضارية كالغزلان والمها وحمار الوحش والنعام. وقد سمّي هذا المتنزه بـ: الحائر . وكان الخليفة وحاشيته يخرجون للتنزه وسط أسراب الحيوان، إما للصيد وإما التمتّع بمباهج الطبيعة. وفي إحدى النزهات، تبهنس أسد لموكب الخليفة، فانبرى الفتح بن خاقان ينازله. ولعل البحتري كان في معية الموكب، وشهد المنازلة المدهشة. فخلّدها من ضمن قصيدة المدح.
يبدأ الشاعر مدحه بالغزل على طريقة جديدة وهي وصف طيف زينب الحبيبة يزوره ليلاً ليزيد من تباريح العاشق الولهان:
أجَـدِّك مـا ينفكّ يسري لزَيْنَبَـا
خيـالٌ إذا آبَ الظّـلام تأوَّبا
سرى من أعالي الشام يجلُبُه الكَرى
هبوبَ نسيم الروض تجلبُه الصَّبا
ويسترسل الشاعر بعد المطلع الغزلي إلى مدح الفتح ابن خاقان بما هو أهل له من الكرم والخلق الحسن والفضل والشجاعة حتى إن الحسّاد ضجّوا ناقمين:
وما نَقَمَ الحسادُ إلا أصـالـةً
لديك، وفعلاً أريحياً مُهذّبـا
وقد جرّبوا بالأمس منكَ عزيمةً
فضَلْتَ بها السيفَ الحسامَ المجرّبا
فكان هذان البيتان كافيين مدخلاً لمشهد المنازلة.
ندخل مع الشاعر إلى الغابة التي زرعها الخليفة لتحتمي في أدغالها الوحوش المفترسة خلف نهر صناعي سماه نيزك احتفره عمال الخليفة يفصل بين عالم الضواري وبين عالم الحيوانات البرية الطليقة. وها هو الوحش الضاري يخرج باحثاً عن قوت لأشباله، وليحمي آجامه من المتطفّلين، فتقوده الأقدار عبر نهر نيزك إلى موكب الخليفة. لكن الفتح بن خاقان يمشي في ركاب سيد القصر والحائر والدولة بأكملها، فلا يهاب شيئاً، سواءً أكانوا بشراً ثائرين سبق أن أعادهم إلى حوزة الخلافة، أم كانوا وحوشاً ضارية.
غداةَ لقيت الليثَ، والليث مخدرٌ
يحـدّدُ نابـاً للّقـاء ومخلبـا
يحصّنه من نهر نيزكَ مَعقـلٌ
منيعٌ تسامى غابـه وتأشّبـا
وقد التفّت غابة هذا الليث وعلا العشب النابت تحت الأشجار ليتربص من بينها كي يقتنص فريسته.
يَرُودُ مغاراً بالظواهر مُكْثِبـا،
ويحتلّ روضـاً بالأباطح مُعشبا
يلاعبُ فيه أقحوانـاً مفضّضاً
يبصُّ، وحُوذاناً على الماء مُذْهبا
يدور الليث ويذهب ويجيء في طلب ما يريد، خارجاً من كهفه (عرينه) يعلو الكثبان وينزل إلى البطاح، ويتبهنس في مشيته مغروراً بين الورود والزهور (الأقحوان الفضي الابيضاض والحوذان الذهبي الاصفرار). ويبلغ الليث من غروره بنفسه أن الشاعر اختار له لفظ إذا شاء :
إذا شاء عادى عانةً أو عدا على
عقائل سرب، أو تقنّص ربربـا
يجرّ إلى أشبالـه كلّ شـارق
عبيطـاً مدمّىً أو رميلا مخضّبا
إذا شاء تكبّر على قطيع من الحُمُر الوحشية، أو هاجم قطيعاً من كرام الإبل (العقائل)، أو اقتنص ربربا (بقر الوحش). وما اصطياده هذه الحيوانات لظلم في نفسه أو شهوة البطش، وإنما لضرورة قوت أشباله التي لا تأكل الجيف، بل اللحم العبيط (الطازج) الذي ما برح الدم يقطر منه، دلالة على ملوكية الليث وأشباله… نلاحظ أن هذا الوصف الرشيق قد جعل من الأسد المزمجر القاسي ربّ عائلة مثله مثل الأب الرؤوف يطعم صغاره كل يوم خير ما يرزقه الرزاق الكريم. وهذا هو الممدوح يطعم من ماله الفقراء والمحتاجين كل يوم، وهو ما مرّ من المدح في القصيدة قبل هذا الموقف. فأين بطولة الممدوح التي نقمها الحسّاد؟ تكمن البطولة في المنازلة التي شهدها الشاعر، ولم يروِها له راوية، وهذا يزيد من قوة التصوير.
شهدتُ لقد أنصفتَه يوم تَنْبَري
له مصلتا عضباً من البيض مقضبا
والعضْب المصلت هو السيف القاطع، ليقابل مطلع المقطع حيث كان الليث يحدد نابا للقاء ومخلبا. ويزيد شخصية الفتح بن خاقان روعةً أنه أنصف الأسد برغم مخاطر هذا الإنصاف. والإنصاف من صفات الأبيّ، العادل، المتمكّن من قوته، وشيمه. وهكذا اكتمل المشهد بالمساواة بين المتنازلين:
فلم أرَ ضرغامين أصدقَ منكما
عراكاً، إذا الهيّابةُ النُّكسُ كَذّبا!
هزبرٌ مشى يبغي هزبراً، وأغلبٌ
من القوم يغشى باسلَ القوم أغلبا
لقد أنصف الشاعر هذا الأسد ورفعه إلى مرتبة القائد ابن خاقان: الواحد منهما هزبر (من أسماء الأسد)، وكلاهما أغلب (وهو المكتنز الرقبة دلالة على القوة)، وكلاهما باسل غلاّب. أما الليث فكان يتجرّأ بافتخار وزهوّ بإحداث زمجرة. لكن سرعان ما رأى أن منافسه أقوى منه قلبا وأشدّ زمجرة.
أدلّ بشَغْبٍ، ثم هالتهُ صولـةٌ
رآك بهـا أمضى جَناناً وأشغبـا
وتنشب المعركة. يبدؤها الأسد الذي لم يعرف أبداً إلا الهجوم والاندفاع. لكن الفتح بن خاقان ليس بالندّ السهل. فقد وقف أمام خصمه يحول دونه ودون النصر أو الانسحاب. لاحظ جدارة الفنان الشاعر: لم يلتفت إلى وصف الفتح، بل ركّز اهتمامنا على الأسد:
فأحجمَ لَمّا لم يجد فيك مَطمَعاً
وأقدمَ لما لم يجد عنك مهربـا
فلم يُغنِهِ أنْ كَـرّ نحوك مقبلاً
ولم يُنجه أن حـاد عنك منكّبا
من صفات المقاتل المخضرم أنه لا يترك فرصة لعدوّه كي يستجمع قواه بعد الصولة الأولى. فسارعه بما تعوّده الفتح من مقارعة الأبطال:
حملت عليه السيفَ، لا عزمكَ انثنى
ولا يدُك ارتدّت، ولا حدُّه نَبـا
إنها ضربة واحدة ليس إلا: سيف بتّار، وعزم لا ينثني، ويدٌ لا ترتدُّ… وشفرة سيف لا تنبو عن القطع… أفبعد هذه الصورة الشعرية المتواثبة بفعل مضمونه الإقدام (حملت عليه)، وثلاثة أفعال سلبية بإزاء الإقدام (انثنى، ارتدّ، نبا) تقلبها لا إلى أفعال إيجابية المضمون متساوقة مع حملت عليه .
انظر معي كيف اكتفى الشاعر بهذا ولم يدخل في وصف ما حدث للأسد بعد ذلك، فقد تركه لخيالنا المجنح مع أجواء متنزّه الحائر وآجامه وتلاله وخصبه، والوحوش بأنواعها، ونهر نيزك، والخليفة، والحاشية، والفتح بن خاقان صاحب الضربة الفتّاكة الواحدة، والشاعر المنتشي من صولة الممدوح.