قد يكون واحداً من آلاف الأوروبيين الذين جذبهم جانب من جوانب الثقافة العربية، ولكنه يختلف عن الكثيرين من هؤلاء في أن اهتمامه الثقافي العربي تجاوز حدود الاستشراف ليصبح شأناً يستحق أن يعاش العمر لأجله. إنه الفرنسي جان لامبير، الذي يعيش منذ نحو ربع قرن مع الغناء الصنعاني، حتى أصبح جزءاً من مسيرته وتاريخه.
في سوق المِلْح -بكسر الميم وتسكين اللام- الشهير ببيع التوابل، أحد أشهر الأسواق القديمة في صنعاء، قد تصادف الباحث الفرنسي: د. جان لامبير يعزف على عوده الصنعاني الطربي ذي الأوتار الأربعة أغنيات مثل: صادت فؤادي أو رسولي قم أو سواهما من الكلمات التراثية الأصيلة، ولكأنه يريد أن يقدِّم شاهداً زائداً على الشاهد العمراني يعيد إلى الأذهان التسمية القديمة لهذه السوق المُلَح -بضم الميم وفتح اللام- أي سوق كل مليح، كما ورد في كتاب الإكليل للمؤرخ محمد بن الحسن الهمداني.
من الدراسة إلى الأداء
في بداية الثمانينيات قَدِمَ الباحث الفرنسي الدكتور جان لامبير إلى صنعاء للتحضير لأطروحته لنيل درجة الدكتوراة في الموسيقى اليمنية. فكان ارتباطه العشقي بالغناء الصنعاني على خطين متوازيين: خط عام يركِّز على البحث والتوثيق، وخط خاص في التدرب على الأداء. وقد أفلح في الثاني بعد جهدٍ ومثابرة، وكان هدفه كما يقول هو تحصيل السكينة، عندما تكتنفه آلام الحياة، وتناله قسوتها. وهو في خطه الخاص هذا لا يدعي احترافاً بل يمارس ارتباطه الوجداني بهذا الفن، وقد يشرك فيه آخرون في سوق صنعاء أو في الاجتماع الشهري الذي يعقده صديقه الفنان اليمني يحيى النونو ويدعو إليه عشاقَ الفن والأدب اليمنيين منهم والأجانب.
التقنية والتراث ..
أثمرت سنوات من البحث والتوثيق لعيون الموشحات والأغنيات والإنشاد الديني، عن إنشاء المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، وتولى الباحث الدكتور لامبير رئاسته منذ العام 2003م، ليحرص على أن تسهم في التوثيق التقنية العالية من أسطوانات وألبومات وأشرطة فيديو وأقراص مدمجة (CD) مستضيفاً جمعاً من المغنيين الصنعانيين في باريس لهذا الغرض. فضلاً عن الكتب والمطبوعات.
ويتعاون المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في اليمن مع معهد الموسيقى اليمني، بدعم من منظمة اليونسكو الدولية، ليجمع الجهود الفردية عبر السنين الفائتة، لتكوين قاعدة بحثية تقنية تمكن الباحثين والفنانين والمهتمين من اليمن وخارجها من الرجوع إلى هذا الفن اليمني شعراً ولحناً بيسرٍ وسهولة.
وهذا المشروع، من وجهة نظر لامبير، ليس مهماً لليمن فحسب، بل للعالم لأن اليمن ذا تراث غني جداً في مختلف الفنون الغنائية والفولكلور الشعبي المتنوع. ولذ أصبح لامبير في مرحلة لاحقة مهتماً بنشر التراث الغنائي اليمني في أوروبا والعالم. وفي هذا السياق جاء إعلان المنظمة الدولية للتربية والتعليم والثقافة اليونسكو رسمياً تسمية الأغنية الصنعانية ضمن التراث الإنساني الشفهي العالمي وغير الملموس. وقد أتى هذا الإعلان في إطار المحافظة على التراث غير المادي عبر العالم أجمع، وحمايته من التهديدات التي يواجهها في ظل أساليب العيش المعاصرة، ومسيرة العولمة، كما يقول كويشيرو ماتسورا مدير عام اليونسكو.
الطربي.. أوتار يمنية ..
يرى لامبير أن للغناء الصنعاني أبجديته الخاصة التي ينفرد بها، ومن أهمها مميزات تقنية إيقاعية وجمالية إضافة إلى تميز شعره الوجداني الرقيق فضلاً عن العود اليمني الذي يطلق عليه محلياً الطربي أو القنبوس . ويتكون من أربعة أوتار وبطن، وذراع مغطاة بجلد الماعز، وهو مرصع بالنحاس، وتوجد في أعلى ذراع العود مرآة كي يطمئن الفنان إلى هندامه. ويتحدث لامبير عن تأثره بالفنان اليمني الراحل قاسم الأخفش، وهو أكثر من اشتهر بالعزف على الطربي ، وبات لامبير لا يعزف الألحان إلا بشبيه عوده. ويتحدث عن تميّز اللون الصنعاني، قائلاً إنه ليس هناك ما ينافسه من الألوان اليمنية الأخرى سوى اللون اللحجي، نسبة إلى لحج وهي مدينة قرب عدن جنوب اليمن. وقد كان هذا الشغف بالغناء الصنعاني هو طريق لامبير لعلاقات إنسانية يتحدث عنها باعتزاز، وتحليلات اجتماعية ضمنها كتابه طب النفوس .
يتحدث لامبير عن علاقته الإنسانية الوطيدة بالفنان اليمني يحيى النونو، الذي تعرف إليه أثناء بحثه عن العود الطربي ، ليدرك بعد ذلك أن معرفته به أهم بكثير من شراء العود كما يقول، فالنونو صاحب تعليقات قيِّمة على الغناء الصنعاني لكبار الفنانين كصالح العنتري وعلي باشراحيل، وهي تتضمن ملاحظات دقيقة على كل نبرة صوت أو هزة عود، ولكأنه يلقي محاضرة في السوربون.
طب النفوس..
بين الموسيقى والاجتماع
ألَّف لامبير كتاباً بعنوان: طب النفوس: فن الغناء الصنعاني ضمن إصدارات الهيئة اليمنية للكتاب، وترجمه إلى العربية المؤرخ اليمني الدكتور علي محمد زيد، ويتحدث هذا الكتاب عن واقع الحركة الفنية في المجتمع اليمني، ويكاد يكون هذا الحديث هو الموضوع الرئيس في الكتاب رغم ثرائه بالمعلومات حول الأغنية الصنعانية، والتوثيق لبعض مراحلها، وحكاية تجربته معها.
واختيار عنوان الكتاب لم يكن منفصلاً عن ثقافة المجتمع الذي يتحدث عنه المؤلف. ففي صنعاء يطلق على الجلسة الموسيقية اليومية بعد الظهيرة: طب النفوس أو دواء الروح، إذ يتسم مقيل الظهيرة بالشجن والغناء العاطفي الرقيق. فالهدف المعلن كما يقول لامبير هو: رعاية موج النفس، وتدفق الروح، لذلك يمكن المراهنة على أن الموسيقى تساعد الإنسان عبر هذه العلاقة، على معرفة مكانه في العالم، وتمنح لوجوده معنىً.