قائد الأوركسترا فنان يعرف الجميع بوجوده، ولكن قلَّة قليلة تدرك حقيقة دوره وأهمية وجوده أمام الفرقة الموسيقية. لا بل يذهب البعض إلى حد القول بإمكانية الاستغناء عنه جملة وتفصيلاً، ويضرب هؤلاء مثلاً بالإشارة إلى أم كلثوم التي كانت تغني أجمل الغناء أمام فرقة موسيقية طويلة عريضة من دون قائد أوركسترا.
فكيف أصبح هذا القائد ضرورياً للفرقة الموسيقية؟ وأي فضل له على استمتاعنا بسماع الموسيقى؟
هنا ثلاثة إسهامات تسلِّط الضوء على هذه المهنة الفنية الغامضة بالنسبة إلى الكثيرين. الأولى، ويتناول فيها إتيان كوبليان توضيح الدور الذي يقوم به قائد الأوركسترا بشكل كامل، والثانية يحدثنا فيها
الدكتور فيكتور سحَّاب عن تقنيات القيادة قبل أن يقدِّم لنا ترجمته لمقتطفات من مقالة صدرت في
مجلة ذي نيويوركر الأمريكية وتتطرق إلى ميزَّات أشهر قادة الفرق الموسيقية في القرن العشرين.
ضبط العزف، وإضفاء لون
خاص، والأمانة للأصل
قيادة الأوركسترا، هي أن تقود، أن تشير، أن تُلهم وتنسِّق عمل مجموعة موسيقيين يؤلفون الأوركسترا، من أجل إضفاء شيء من التناسق على العمل الذي يؤدّى. والأداء، هو أن تنحت العمل المقصود أداؤه، وتضعه في قالب، وتقيسه، وتعايره وتعطيه شكلاً، من دون أن تخون روح المؤلف. فتصبح المقطوعة نوعاً من الصورة الصوتية، فيحسّها القائد بأُذُن في داخله، ليفك رموزها وينقلها إلى كل الأوركسترا.
والأوركسترا مدى صوتي هائل تتحرك فيه وتتشكل موسيقى تقتضي الكثير من الطاقة، وتجتذب الأُذُن. وكأنها مغناطيس. ويوقظ سماع قطعة موسيقية من التراث الرفيع مشاعر من القوة ما يستوقف الأذن لتتذوق متعتها في حال من النشوة.
مثل المخرج بالنسبة إلى المسرح
أيمكن تخيّل مسرحية تؤدَّى من دون إخراج؟ إن ما ينتج عنها هو فوضى لا توصَف، لا سيما إذا أراد كل ممثل أن يعمل ما يحلو له. ذلك حال الموسيقيين في الأوركسترا: تصوّروا مئة موسيقي (في فرقة سمفونية) يعزف كلٌ على هواه، حينما شاء وكيفما يشاء، فلا يلتفت إلى الآخرين. مثل هذا لا يُحدث سوى فوضى لا تُسمع، ولا تُطاق، فوضى بعيدة عن الموسيقى التي صنعها الموسيقيّ وهو يؤلف مقطوعته.
إن قائد الأوركسترا مثل المخرج. فهو يضع مقطوعة المؤلِّف في صورة صوتية. وعليه أن يجعل كل عازف في الأوركسترا يتذوق ويفهم كل ما كتبه المؤلف حتى تتمكن الأوركسترا بدورها من نقل الموسيقى بيسر وأمانة إلى الجمهور.
لقد أخذ دور قائد الأوركسترا يتعاظم، منذ أن صارت الموسيقى شائعة للجماهير العريضة. فحتى نهاية القرن الثامن عشر، كانت الموسيقى حكراً على مجتمع لاهٍ بل مسرفٍ لا مبال. كانت الموسيقى تُعزف في غرف داخل قصور وقلاع. ولم تكن الأوركسترا تتعدَّى اثني عشر عازفاً. وكان يقودها في المعتاد المؤلف نفسه، أو عازف الكمان الأول. ولكن، حين انتقل عزف الموسيقى إلى الصالات الكبيرة التي تتّسع لمئة ضعف جمهور الغرف، برزت مشكلات هندسة الصوت: ولذا كان لا بد من زيادة عدد العازفين (أربعين ثم ستّين، وهكذا). بل إن أسلوب التأليف تبدّل، فظهرت السمفونيات الرومانسية الشهيرة. وصار لا بد من موسيقي ينسِّق عزف جميع الموسقيين في الفرقة. هكذا ولدت مهنة قيادة الأوركسترا.
لكل قائد بصمته الخاصة
تتالّف الأوركسترا السمفونية الكبيرة من ثلاث مجموعات:
– في الأمام تتقدَّم الآلات الوترية: الكمان والفيولا والتشيلو (الفيولونسيل) والكونترباص.
– خلف الوتريات مباشرة، آلات النفخ الخشبية: الفلوت والأوبوا والكلارينيت والزماخر.
– وعلى جانبي خشبة المسرح تتوزع آلات النفخ النحاسية: الأبواق والترومبون والتوبا.
وأخيراً آلات الإيقاع، ويجلس العازفون عليها في الصفوف الخلفية: الطبول والصنوج والمثلثات والزيلوفون وغيرها.
ويتضح من كثرة هذه الآلات وضخامة الفرقة أن قائد الأوركسترا يصبح حاجة ماسَّة. وتكون مهمته الأساسية في أثناء التدريب، وهي جعل كل مجموعة موسيقيين (الوتريات، والنفخ، وغيرها) تعزف، ثم محاولة تنسيق كل هذا من أجل تظهير شكل الموسيقى. ومثلما يقف الرسَّام أمام ألوانه ليتخير منها ما يجب، هكذا على قائد الأوركسترا أن يعرف كيف يولف عزف الموسيقيين، ويضفي لوناً صوتياً للجملة الموسيقية، من دون أن يتجاهل روح المؤلف. ولكل قائد صوره الصوتية الخاصة. وهي تتباين بشدة بين قائد وآخر، لأنها تتكون من عناصر أداء شخصي وحسّ فريد بالصوت. فإذا اختلف قائد الأوركسترا، فإن أداءه مع الفرقة ذاتها يختلف عن أداء غيره في عزف المقطوعة الموسيقية ذاتها، مثلما نحصل من مخرجَيْن، على نظرتين مختلفتين للمسرحية ذاتها.
إن قائد الأوركسترا هو الذي يحضِّر مقطوعة المؤلف، حتى إذا آن أوان العرض الموسيقي، سار كل شيء على ما يرام. وعليه أن يكون واضحاً في حركاته. هنا دور العصا (التي تثير حيرة كثير من المشاهدين) في ضبط ضرب الإيقاع ودخول الآلات المتدرِّج بحسب المقطوعة، وابتداء الجملة الموسيقية وانتهائها، وقوة الصوت وحركة الموسيقى قوةً وضعفاً، وهكذا.
كذلك على قائد الأوركسترا أن يكون مدركاً لكل المصاعب التي يواجهها كل عازف في أثناء عزفه هذا المقطع أو ذاك. وواجبه أن يسهِّل مهمة العازف، ويجد الصيغة المناسبة ليُشعره بالراحة، ويحول دونه وأي شيء قد يزعجه. ويصح هذا الأمر في قائد الجوق الغنائي أيضاً. فالعمل نفسه منتظر منه، بل في الغالب مع الحاجة إلى انتباه أكبر، لأن الصوت البشري أداة موسيقية أشد حساسية في الأداء، من الكمان والفلوت.
وحين يكون على عازف منفرد أن يؤدي كونشرتو (للبيانو أو الكمان أو أية آلة أخرى)، فعلى قائد الأوركسترا أن يعمل ما وسعه ليكون العازف المنفرد على راحته في أدائه. وهو يتابع خطوة خطوة عزفه المنفرد، ويترقَّب الخطوات التي ينويها، فينقلها مباشرة إلى الفرقة الموسيقية. ودوره أكبر أيضاً عند قيادة الأوبرا. فعليه حينئذ تنسيق عزف العازفين المنفردين والجوق والأوركسترا عموماً.
وقائد الأوركسترا يؤدي المقطوعة الموسيقية وفقاً لرؤيته الشخصية، فيظهر عندئذ وضوح الصورة داخل نفسه، وتبدو للجمهور قدرته على تظهير هذه الصورة في أثناء الأداء.
فكيف يقيِّم القارئ هذا الأداء؟ بالسؤال:
هل أحببتَ هذه الحفلة؟
واذا أجاب الجمهور بالإيجاب عن هذا السؤال فيكون قائد الأوركسترا قد أدَّى أداءً جيداً، لأنه أعطى الجمهور ما كان يبتغيه.
وإذا ظلَّ الآلاف من عشَّاق الموسيقى يردون بالإيجاب لسنوات طويلة، عندئذ يكون قائد الأوركسترا مستحقاً للتقدير والإعجاب.
تقنيات القيادة الجسدية
في الأساسيات البدائية، تفترض قيادة الأوركسترا أن يُظهر قائد الأوركسترا، بحركة يدوية للعازفين وتيرة الإيقاع الموسيقي، فتبدو عصاه، وكأنها تتحرك داخل علبة وهمية، إلى أسفل. ثم إلى اليسار، فإلى اليمين، فإلى الأعلى. ثم تعود إلى الأسفل وهكذا. وفي الإيقاع الثلاثي تذهب عصاه إلى الأسفل أولاً ثم إلى اليمين فإلى اليسار.
الإشارات سهلة، أما الأحاسيس..
ولا شك في أن تعلُّم هذه الإشارات سهل. أما ضبط الإيقاع طوال عزف السمفونية، فأمر أشد تعقيداً. ففي الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية ينضغط الوقت ويتمدَّد من دون أن يفقد بنيته الأساسية الناظمة للعمل كله. فإذا ظلَّت المقطوعة من أولها إلى آخرها على الوتيرة ذاتها، لظهرت وكأنها تسير سيراً آلياً مملاً، لا نبض فيها ولا حياة ولا حرارة. أما إذا بولغ في تواتر السرعة والبطء من دون منطق تعبيري مقصود، فإنها تظهر وكأنها فوضى غير مقنعة. والقائد الناجح هو الذي ينطوي في داخله على إحساس مرهف بوتيرة الزمن، وضرورة الإسراع والإبطاء ومتى يحدث هذا، وهل الإبطاء أبطأ من اللازم والإسراع أسرع من المطلوب، وهكذا. وهذه كلها أمور لا تُدرس في المعاهد، إنما هي من طبيعة الإحساس البشري الذي يمتاز بتفوقه الفنانون الكبار من فطرتهم.
ففي بعض المقطوعات الموسيقية، يبلغ من عظمة القائد أنه يُبطىء من إيقاع العزف شيئاً فشيئاً، وكأنّه يقود إحدى عربات السكة الحديد في مدينة الملاهي، وهو صاعد إلى القمة. فإذا وصل إلى هذه القمة بلغ بطؤه أشدّه. فإذا أخذ يجتاز هذه القمة أخذت وتيرة العزف تتسارع، ليحس المستمع، وكأنه ينزلق في هذا القطار إلى قعر سحيق. كل هذه الأحاسيس وغيرها ممكنة، من دون أن يتحرك المستمع على كرسيه. وأداة هذا الإحساس هي الأُذن. وكلَّما كان القائد بارعاً وحساساً، استطاع أن يؤثر في المستمع أكثر. ويقول قائد أوركسترا سمفونية وأوبرا، إن المشاعر التي تعبِّر عنها الموسيقى ينبغي أن تنشأ عند القائد، فينقلها إلى الفرقة بالحركات والتعابير المناسبة، فتؤدِّيها الفرقة لتنقل هذه المشاعر إلى الجمهور.
لغة اليدين والوجه والعصا
ومن أسرار هذه الحركات والتعابير التي تعني الكثير من دون أن يقول القائد شيئاً، أن اليد اليمنى إذا كانت ترفع العصا وتخفضها في حركة عمودية، فإنما يعني هذا أن العزف يجب أن يكون متقطعاً، غير ليِّن ولا مترابط (Staccato)، أما تحرك يد القائد من اليسار إلى اليمين، فيوحي بوضوح بطئاً وانسياباً وليونة في العزف. أما إبعاد اليدين عن جسم القائد في الاتجاهين، اليمين واليسار، مثل طائر يفرد جناحيه، فيعني أن يزيد العازفون قوة الصوت واتساعه، فيما يقتضي خفضه أن يضم القائد يديه قريبتين من جذعه. وإذا عبس القائد وضمَّ قبضة يده اليسرى وحركها بعصبية، فهذا يعني بالطبع أنه يريد عزفاً حازماً نشيطاً وقوياً. وإذا فرد يده اليسرى وقرَّبها من وجهه، وأمال رأسه، فهو يقصد حتماً عزفاً عاطفياً رقيقاً مؤثراً. وحين يرفع القائد سبَّابة اليد اليسرى، في سياق المعزوفة، ويرفع حاجبيه ويوزِّع نظراته على العازفين، فلا شك أنه يريد أن ينبه العازفين إلى قرب حدوث تبدُّل دراماتيكي في المعزوفة، حتى يستعدوا للأداء المطلوب.
لكل قائد لغته الخاصة
لكن الاعتقاد أن هذه قواعد صارمة غير قابلة للنقاش، أو لا تتبدل بين قائد أوركسترا وقائد آخر، خطأ أكيد. ذلك أن التعبير البشري، باليدين أو الوجه أو حتى بحركة الجسم، شديد التنوع، حتى يمكن القول إن لكل قائد أوركسترا مجموعة خاصة به من أساليب التعبير. ويروي قائد الأوركسترا روبرت سبانو أن العلاقة بين القائد وفرقته، تصبح بعد مضي سنوات، مثل العلاقة بين الزوجين، إذ يفهم كل منهما أية نبرة أو إشارة تصدر عن الآخر. ولذا، فالقائد مرشَّح لتقليل حركته وإشارته مع مضي الوقت، إلى الحد الأدنى، لأن غرضه صار مفهوماً، فلا يعود بحاجة إلى كل ما كان يؤديه في بداية عمله مع هذه الفرقة. ويقول سبانو إن البشر يتفاهمون بالحركات وتعابير الوجه أكثر من الكلمات، وهكذا في القيادة. ويضيف: أستطيع أن أنقل الكثير من مشاعري حيال هذه الموسيقى بمجرد النظر إلى العازف . ويؤكد أن القائد يأمر الموسيقيين بأن ينتبهوا إلى طلباته بمجرد أن ينتبه هو لهم.
استكشاف أسرار القيادة وألمع أبطالها
بتصرف من مقالة جستين دافيدسون في مجلة ذي نيويركر 21 أغسطس 2006م
نشوء قيادة الأوركسترا
لا يزيد عمر مهنة قيادة الأوركسترا على مئتي سنة. ففي الأصل، لم تكن الفرق الموسيقية كبيرة وتستحق أن يتفرغ أحد في مهنة مستقلة لقيادتها. في أوروبا القرون الوسطى، كانت الفرق الموسيقية محصورة في عدد من العازفين لا يتجاوز عدد أصابع اليدين في غالب الأمر. وأخذت الفرق تكبر عدداً، مع تطور آلات العزف الموسيقي ولا سيما أسرة الكمان، التي صارت تضم الكمان والفيولا والتشيلو (فيولونسيل) والكونترباص. وفي القرن الثامن عشر الميلادي، كان عازفو الكمان أو البيان القيثاري يتولون قيادة الفرقة الموسيقية، وهم يعزفون. أما في الأوبرا الفرنسية، فكان أحدهم، وهو في الغالب الملحن، يقف خلف الستارة في المسرح ويوجه الفرقة بصوت مسموع، أو بضرب رجله على خشبة المسرح لضبط الإيقاع. ومن المآسي التي يرويها تاريخ الموسيقى الأوروبية في هذا المجال أن الموسيقي الفرنسي جان باتيست لولي، مات بعدما انغرست في رجله خشبة من أخشاب المسرح، فيما كان يقود من خلف الستارة إحدى مقطوعاته. وقد توفي بعدما تفاقم التهاب جرحه.
وفي القرن التاسع عشر كفَّ قائد الأوركسترا عن إصدار أي صوت مباشرة، بل أخذ يلف ورقة في شكل لفافة طويلة ويقود بها، أو يقود بقوس كمان. ويدَّعي قائد الأوركسترا الألماني لودفيغ شبور أنه أول من استخدم سنة 1820م عصا القيادة. وبعد ذلك، حوَّل قادة الأوركسترا مهنتهم من مجرد منظمي إيقاع عزف الفرق إلى فنانين حقيقيين ذوي إسهام أساس في الأداء الموسيقي.
ولا يعرف كثير من الناس، أن بيتهوفن، الذي يرى فيه معظم النقاد الموسيقار الأول في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، مات سنة 1827م، فيما كانت مهنة قيادة الأوركسترا في بدايتها. وقد شهد بنفسه من يقود سمفونياته، في كهولته، وحاول أن يتولى القيادة في بعضها، على الرغم من صممه المتفاقم في سنواته الأخيرة. ويقال إنه وقف مرة إلى جانب القائد ليقودا معاً، وكانت الأوركسترا تلتزم عصا القائد، ولا تلتزم إشارات بيتهوفن، لأن سمعه ما عاد يتيح له أن يساير إيقاع العزف.
وكان فيليكس مندلسون موسيقياً كبيراً وشخصاً جذاباً في الوقت نفسه ولذا اشتهر على خشبة المسرح في قيادته أيما اشتهار. كذلك كسب هكتور برليوز وريتشارد فاغنر شهرة ومالاً من وقوفهما على منصة القيادة. واكتمل نضج مهنة قيادة الأوركسترا مثلما نعرفها اليوم، في ثمانينيات القرن التاسع عشر (نحو سنة 1880م)، إذ كتب الناقد إدوارد هانسليك يقول إن أفضل قادة الأوركسترا هم الذين يسيطرون على كل نبرة وتعبير موسيقي يصدره العازفون تحت قيادته.
الرشاقة والجمال
في النصف الأول من القرن العشرين، كان أشهر قادة الأوركسترا السمفونية فيلم منغلبرغ، وفيلهلم فورتفنغلر. وهما من أعظم القادة في التاريخ. بل إن فورتفنغلر كان يعد مفكراً ، وتنم قيادته عن عمق فلسفي ووجداني واضح. لكن قيادة هذين الاثنين تبدو الآن أقل رشاقة وجمالاً من قيادة هربرت فون كاريان، الذي ينتمي إلى الجيل التالي من القادة الأوروبيين. فقد مات هذا الأخير سنة 1989م، وكان اسمه يتصدر الأسماء في النصف الثاني من القرن العشرين مع أرتورو توسكانيني وغيرهما.
كانت قيادة فون كارايان رشيقة وجميلة في حركة الجسم أيضاً، حتى شبهت حركته بحركة هر متسلل، من شدة رشاقتها وجمالها. وشارك ليوناردو بيرنشتاين في رسم صورة المايسترو المتألق الذي صار نجماً في ذاته، مع أنه لا يعزف ولا يغني. لكن في مقابل رشاقة فون كارايان وجمال حركته على المسرح كانت حركة بيرنشتاين تمتاز بالانضباط والوضوح. وكان نقاده يتهمونه بالرقص على المنصة.
حركات القيادة تعوِّض قلَّة التمارين
قبل سنة 1920م، كانت قائمة المعزوفات التي يتوقع مرتادو المسارح سماعها من الفرقة السمفونية محدودة. ولذا كان قادة الأوركسترا يطلبون من العازفين التمرُّن على هذه القطع عشرات المرات. ولكن بعدئذٍ، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، أخذ القادة يوسِّعون قائمة معزوفاتهم، حتى تعذَّر على العازفين أن يمكثوا على عاداتهم القديمة، وصاروا مضطرين إلى التمرن مرات أقل. وأسهم في تقليل عدد التمارين قبل الحفلات، أن الطائرة مكنت كثيراً من القادة أن يزوروا فرقاً ليست فرقهم، في بلدان أخرى. فكان القائد مثلاً يحضر إلى البلد المضيف أسبوعاً أو عشرة أيام فلا يتاح له سوى ثلاثة أيام أو أربعة للتمرين.
مع تعقّد التأليف السمفوني في القرن العشرين، ولا سيما في إدراج إيقاعات معقدّة في المؤلفات الحديثة، ابتكر قائد الأوركسترا بيار بوليز، مجموعة هائلة من حركات اليدين للإعراب عن هذا الجديد في حركة الموسيقى. حتى أنه تمكن من إعطاء نوعين مختلفين من الإيقاع في آن، بكل يد إيقاع.
بعض الطعون في حداثتها
لكن النقاد لا يجمعون على أن هذا كان أمراً جيداً للموسيقى. ويقولون إن فورتفنغلر كان على العكس، يتعمد بعض الغموض، ليترك مجالاً للتعبير الإنساني. ويقول بعضهم إن القيادة الحديثة مثل ناطحات السحاب الزجاجية تثيرك في البداية لكنها تغضبك بعدئذ.
ومن قادة الأوركسترا المعاصرين الذين رفضوا الأسلوب الحديث الشديد الوضوح في القيادة، هناك كارلوس كلايبر. ويقول عنه قائد الأوركسترا روبرت سبانو، إنه أشبه بمستمع مستمتع، منه بقائد أوركسترا. وهو لا يوضح الإيقاع على الدوام، لكنه قادر على مسك هذا الخط المدهش. إنه قائد مجيد .
دور النفس والمزاج
وعلى صعيد تفاعل قائد الأوركسترا مع العازفين والمعزوفة نفسياً ومزاجياً، نشير إلى أن الباحثة تيريزا مارين ناكرا المتخصصة في دراسة قادة الأوركسترا من الناحية النفسية والوجدانية، أحصت بالوسائل الطبية دقات قلب فون كارايان وهو يقود الافتتاحية الثانية ليونورا للودفيغ فون بيتهوفن. وفي منتصف الافتتاحية، حين تقترب المقطوعة من ذروتها الموسيقية الانفعالية، تبلغ دقات قلب فون كارايان 150 نبضة في الدقيقة، وهذا غير عادي أبداً لرجل كان آنذاك في الستين من العمر. وكان فون كارايان يحب قيادة الطائرات النفاثة. فاختبرته هذه الباحثة مرة وهو يقود الطائرة ويغوص بها نحو الأرض، ليعاود الصعود بها نحو الفضاء. لم يخفق قلبه للمغامرة الطائرة مثلما خفق لموسيقى بيتهوفن. وابتدعت ناكرا عصا رقمية، وسترة رقمية، واختبرتهما مع عدد من القادة، لترصد علاقة الحركة، حركة يد القائد وحركة جسمه بالموسيقى والتعبير الموسيقي. وخلصت دراستها إلى أن عظمة العرض الموسيقي الحي، هي أنك لا تستطيع أن تتكهن سلفاً بالانفعال الذي يحتمله.
ويتفوق قائد الأوركسترا لورين مازل على غيره من القادة في أن النقاد كانوا يشتكون من أنهم لا يستطيعون أن يتوقعوا بأي مزاج سيقود هذه المقطوعة أو تلك، مع أنهم يعرفونها عن ظهر قلب. لكن أحداً منهم لم ينكر على مازل قدرته الفائقة على جعل الأوركسترا تؤدي التعبير الذي يريده. يقول مازل: القيادة من الذاكرة أمر مهم جداً. أمامك مئة موسيقي، ولا بد من أن تعرفهم بالمشاهدة. في مرحلة ما، يكون على البوق الثاني أن يعزف جملة ما، لكنه لا يرفع بوقه استعداداً. إذا كان بصر القائد مركزاً على النوتة أمامه، فلن يشاهد هذا الأمر .
وذات مرة زار قائد الأوركسترا الفنلندي ميكو فرانك إحدى الفرق السمفونية الكبرى. وكان يمرِّن الفرقة على كونشيرتو كمان. وبعد عزف أجزاء من الكونشيرتو، سألته عازفة فلوت: بأية طريقة تريدني أن أعزف هذا المقطع؟ ثم عزفت المقطع بأسلوبين مختلفين، ليقول رأيه، فأشار إليها بالعزف بواحد منهما، فقالت له: غريب. لقد عزفته في التمرين بالأسلوب الآخر ولم أسمع ملاحظتك. فقال لها مبتسماً: نعم، لكن من الآن ستعزفيها كما قلت لك.
من طرائف الأوركسترا
• يروى عن قائد أوركسترا، أنه كان كلما همَّ بإعطاء إشارة البدء لفرقته الموسيقية، أخرج ورقة صغيرة من جيب سترته ونظر فيها، قبل رفع عصاه، إيذاناً بالبدء. ولما سأله العازفون عما كتب في الورقة، رفض بشدة أن يقول وتكتم على الموضوع. فأخذ الشك والتكهن ينتشران بين الموسيقيين، وتنوعت الروايات، إلا أن أحداً لم يصل إلى نتيجة شافية. وذات يوم، سقط قائد الأوركسترا مغشياً عليه فيما كان يقود، فهجم الموسيقيون على الفور، وآخر همهم إسعافه، إذ سارعوا إلى إخراج الورقة الغامضة من جيب سترته، فقرأ أحدهم: مجموعة الكمان إلى اليسار، ومجموعة الإيقاع إلى اليمين .
• في حقبة سابقة من القرن الماضي، حضر موسيقي عربي إلى بغداد، ليقدِّم بعضاً من مؤلفاته ويقود الفرقة السمفونية العراقية في عزفها.
وأراد هذا الموسيقي أن يبهر العازفين في الفرقة السمفونية، فبدَّل تدوين نوطة في إحدى المقطوعات، في كراس التدوين الذي يخص أحد العازفَين اللذين يعزفان على آلة الكلارينيت، ثم وضع علامة في كراس القيادة يستدل به على موضع هذا الخطأ المفتعل.
وفي يوم بدء التمارين أخذت الفرقة الموسيقية تعزف، وهو يقودها، إلى أن وصل إلى المكان المعلوم. حينئذ، ضرب بعصاه على كراسه طالباً وقف العزف، وقال بصوت مرتفع: الكلارينيت الأولى، هنا النوطة: لا بيمول، وليست: لا بيكار مثلما عزفتها .
فوقف عازف الكلارينيت الثانية، وقال: صحيح يا مايسترو، ولكن عازف الكلارينيت الأولى مريض اليوم، ولم يحضر للتمرين .
• يروى عن قائد أوركسترا سمفونية أنه كان في يوم يدرِّب فرقته فلاحظ أن عازف الكمان الأول، وهو أشبه بمساعد قائد، يبدي تشنجاً في وجهه كلما همَّ قائد الأوركسترا برفع عصاه للبداية. وظن القائد أن العازف مصاب بألم في بطنه، أو بانزعاجٍ ما، فتوقف قليلاً. فلما انفرج وجه العازف، عاود القائد رفع عصاه، وعاد وجه العازف إلى التشنج. فلما تكرر الأمر سأل القائد عازف الكمان: هل تشعر بألم ما؟ . فردَّ عليه العازف: لا أبداً، لكنني أكره الموسيقى منذ صغري .
اقرأ للموسيقى
قصة الأوركسترا
بقلم روبرت ت. ليفين، وميرديث هاميلتون. صدر الكتاب عن دار بلاك دوج آند ليفينثال عام 2001م.
يأخذ قصة الأوركسترا القارئ معه في رحلة موسيقية مبهجة. وقد قُسِّم الكتاب إلى جزأين. الجزء الأول عن الموسيقيين العظام أمثال فافيلدي وبيرنستين، والجزء الثاني عن أدوات وآلات الأوركسترا. ويحفل الكتاب بقصص مثيرة للاهتمام عن هؤلاء الموسيقيين، وموسيقاهم، بالإضافة إلى الأحداث التاريخية التي حدثت في حياتهم.
ويتضمن الكتاب أقوالاً مأثورة، وتعاريف في كادرات منفصلة، وصوراً ملونة بالإضافة إلى رسوم كارتونية تعزز وتدعم النصوص الواردة.
وبالإضافة إلى ذلك، يأتي مع الكتاب قرص مدمج يحتوي على مقطوعات موسيقية، يطلب إلى القارئ الاستماع إليها كأمثلة أثناء قراءة الكتاب. هذه المقطوعات قصيرة نوعاً ما، وذلك لأن الكتاب موجه إلى صغار السن، ممن تناسبهم المقطوعات القصيرة.
ميلاد الأوركسترا
يسرد هذا الكتاب للمؤلِفَين جون سبيتزر ونيل زاسلو الصادر عن جامعة أوكسفرد للنشر عام 2005م, قصة الأوركسترا، من القرن السادس عشر عصر الفرق الوترية إلى الأوركسترا الكلاسيكية لـهايدن، موزارت، وبيتهوفن.
كما يستعرض المؤلفان التنظيم الأوركسترالي، والتوزيع الموسيقي، والأدوار الاجتماعية, وتمرينات الأداء في أوروبا والمستعمرات الأمريكية، من حوالي عام 1800م، عام الوعي الذي انتشر حول مركزية الأوركسترا كمؤسسة في الحياة الأوروبية.