الثقافة والأدب

ناقد موسوعي ذو منهج فريد
عبد الوهاب المسيري

  • 72a
  • 72b
  • 72c
  • 72d
  • 73a
  • 73b
  • 73c
  • 74a
  • 75a
  • 70a
  • 71a
  • 71b

عرف العرب الدكتور عبدالوهاب المسيري الذي توفاه الله خلال شهر يوليو من هذا العام، من خلال موسوعته الشهيرة عن الصهيونية أكثر من أي مؤلَّف آخر من مؤلفاته. وعلى الرغم من أن المديح الذي كيل لهذه الموسوعة هو مديح مستحق، وعلى الرغم من أن إعدادها استهلك القسم الأكبر من جهود المسيري وسنوات عمره، فإن عطاءات هذا المفكر هي على درجة من التنوع تدفع بالجميع إلى اعتباره ناقداً موسوعياً بالمعنى الدقيق للكلمة.
أحمد أمل* يحدِّثنا عن عطاءات المسيري ورحلته الفكرية من خلال عرض فصول هذه الرحلة ومنهج المفكر الراحل في الدراسة والبحث.
لعل الكثيرين من القرَّاء العرب لا يعرفون الدكتور المسيري إلا باعتباره مؤلف موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وهو العمل الأبرز في المكتبة العربية بين جميع الدراسات التي تدور حول موضوع التأصيل النظري للظاهرة الصهيونية.

وبالرغم من أن عملاً بضخامة هذه الموسوعة وشمولها ودقتها يضمن لمؤلفه مكانة رفيعة بين الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية، إلا أن إسهامات المفكر الراحل فاقت هذه الموسوعة بكثير سواء تلك التي كتبها في تحليل الظاهرة ذاتها، أو التي ألفها متناولاً فيها موضوعات أخرى من بين الموضوعات والمجالات العديدة التي ألمَّ بها وأحسن الكتابة فيها.

يمكن أن نقسِّم كتابات عبد الوهاب المسيري إلى ثلاثة مجالات رئيسة. وتُعد مؤلفاته في موضوع الصهيونية أشهرها وأكثرها. بدأ المسيري الكتابة في هذا المجال في عام 1972م بكتاب «نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني»، واستمر في تحليل الظاهرة الصهيونية بكل أبعادها في أكثر من ثلاثين مؤلفاً، نشرت ما بين أعوام 1972 و2006م، يحمل ثلاثة منها لقب «موسوعة». فبجانب موسوعته الأشهر «اليهود واليهودية والصهيونية» بنسختيها الكاملة والموجزة، قام بتأليف كل من «موسوعة تاريخ الصهيونية» و«موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية». وكان آخر ما كتبه في هذا المجال هو كتاب «الصهيونية وخيوط العنكبوت» الصادر عام 2006م، والذي يتناول موضوع تفكك إسرائيل من الداخل.

أما ثاني المجالات التي اهتم بها المسيري فكان ترجمة الشعر الإنجليزي والدراسات النقدية المتعلقة به. فكتب في هذا المجال، وهو مجال تخصصه الأكاديمي، في مرحلتين متباعدتين من مسيرته. فكانت البداية مع كتاب «مختارات من الشعر الرومانتيكي الإنجليزي» الذي صدر عام 1979م، ويضم ترجمة لعدد من أهم قصائد الشعر الرومانتيكي مع تعليق نقدي على كل قصيدة. أما ثاني أعماله في هذا المجال فكانت ترجمته لمسرحية «افتتاحيات الهادئ» لستيفن سوندايم عام 1988م، بالإضافة إلى كتابته مقدمة لهذه المسرحية تناول فيها أوضاع اليابان أثناء مرورها بعملية التحديث. وانقطع المسيري بعد هذه الترجمة عن هذا المجال لأربعة عشر عاماً، إلى أن نشر كتاب «فلسطينية كانت ولم تزل» الذي يضم عدداً من قصائد المقاومة. ثم كان آخر كتبه المنشورة في حياته كتاب «دراسات في الشعر: القراءة النقدية المتمعنة».

كانت الحضارة الغربية والنموذج المعرفي الذي تعكسه، ثالث المجالات التي تناولتها مؤلفات المسيري. فقد تعرض في مجموعة من أعماله لمناقشة أبعاد الحضارة الغربية وخصائصها في مرحلة تطورها المعاصرة، محللاً الدور الكبير لنظريات الحداثة باعتبارها التفسير النظري لكيفية وصول هذه الحضارة لما هي عليه الآن من أبعاد إيجابية وسلبية. وقد توسع المسيري في دراسته لهذا الموضوع ليتناول انعكاس تبني منظومة الأفكار الحداثية في حالات أخرى غير غربية مع الاهتمام الخاص بالحالات العربية. ويعد عمله الأبرز في هذا المجال كتاب «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» بجزئيه الصادرين عن دار الشروق عام 2002م، الذي تناول فيه تحليلاً شاملاً لمفهوم العلمانية بكافة أبعاده النظرية والتطبيقية.

وبالرغم من أن غزارة إنتاج الدكتور عبد الوهاب المسيري، أحد الملامح المهمة التي تقدِّمه كرائد في الفكر العربي المعاصر، إلا أن الأساس الذي تقف عليه هذه الريادة، هو طبيعة المنهج الذي تبناه في بحثه وتناوله لموضوعات كتبه ودراساته. هذا المنهج هو الذي جعل مشروعه الفكري والمعرفي يصل إلى ما حققه من إثراء المكتبة العربية بمؤلفات رفيعة المستوى، والتأسيس لنظريات ورؤى جديدة في العلوم الاجتماعية.

منهجه في تناول الظاهرة الصهيونية
من أكثر المشكلات التي تواجه الباحثين في العلوم الاجتماعية -والتي تزداد آثارها بالاقتراب من فرع العلوم السياسية- هو الاحتمال أن يكون للباحث موقف مسبق من موضوع الدراسة، وهو ما يجعله يواجه خطورة الوقوع في خطأ التحيز ومحاولة إثبات افتراضات يؤمن بها. وحينما يفطن الباحث لإمكانية وقوع مثل هذا التحيز قد يكون أحد الحلول المتاحه أمامه هو عدم التعمق في تحليل الظاهرة خوفاً من ظهور نتائج «غير مرغوب فيها» تتناقض مع ما يؤمن به. وفي تناوله لموضوع الصهيونية، برزت قدرة المسيري الفذة على تبني منهج علمي لا يقع في خطأ التحيز، ولا يترك أية أسئلة دون إجابات كافية واضحة، وهو ما وصفه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في تقديمه لكتاب عبد الوهاب المسيري «الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ» عندما ذكر: «وهنا يجيء دور رجال من نوع الدكتور عبد الوهاب المسيري يملكون حكمة تجاوز اللحظة، وجسارة البحث عن الحقيقة، وشجاعة الاقتراب من آفاقها، والمشي بالفعل على تخومها وتضاريسها».

وحتى في الأوقات الحرجة التي تتوالى فيها أحداث ومستجدات قد تجعل من العسير على الباحث الاحتفاظ بحياده والتزامه بالمنهج العلمي، أكد المسيري ضرورة الحفاظ على هذا الحياد وهذا المنهج. ففي كتابه «الصهيونية والعنف» الذي صدرت طبعته الأولى بعد مرور أقل من عام على اندلاع انتفاضة الأقصى، انتقد المسيري الدراسات العربية العديدة التي تناولت جرائم الإرهاب والعنصرية الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب باعتبارها تميل إلى السرد التاريخي ولا تتناول أسباب هذه الجرائم ولا أنماطها، وهو ما يؤدي إلى إغفال دراسة النموذج الكامن وراء الأحداث واتجاه حركة التاريخ.

وفي كتابه «في الخطاب والمصطلح الصهيوني» أشار المسيري إلى أهم ملامح منهجه، وهو تبنيه لأسلوب الخطاب التحليلي التفسيري، الذي يختلف عن كل أنواع الخطاب الأخرى. وقد تبنى المسيري الخطاب التحليلي التفسيري، لأنه رأى فيه الأداة الصحيحة لتناول الظاهرة الصهيونية، بطريقة تؤدي إلى تعميق رؤيتنا للعدو حتى نعرفه في كل تركيبته، وبالتالي، تزداد قدرتنا على تفسير الظواهر اليهودية والصهيونية وتوقعها، ومن ثم مقدرتنا على التصدي للعدو. فهو الخطاب الذي يجعلنا قادرين على إدراك الوقائع لا كحقائق متناثرة لا يربطها رابط، وإنما ككل متكامل.

وتقوم التفسيرية التي ينطلق منها هذا الخطاب، على إيمانه بقدرة العقل البشري الإبداعية. فهو ليس سلبياً ولا متلقياً بل له قدرة توليدية كبيرة. كما أن الواقع ليس بسيطاً ولا جامداً. لهذا يرى المسيري أن الأرقام والإحصاءات ليست نهائية، وأن آراء الآخرين وأفكارهم عن أنفسهم هي مجرد مواد خام لا محددات نهائية للسلوك، يتعامل معها الفاعل الإنساني الذي لا يستجيب مباشرة للمثير وإنما يستجيب له كما يتصوره هو نفسه.

وإلى جانب قدرته على تبني منهج يضمن الحياد وعمق التحليل، ظهرت واحدة من أهم مميزات عبد الوهاب المسيري في دراساته المرتبطة بموضوع الصهيونية، وهي القدرة على الجمع بين جانبي النظرية والواقع. فهو في معظم هذه الدراسات لا يكف عن تأسيس بنائه النظري القائم على تحليل المصطلحات والأفكار والنماذج، وربطها في الوقت نفسه بالوقائع والأحداث الجارية داخل إسرائيل وفي علاقاتها بفلسطين والعرب والعالم. وهو ما يعكس تجاوز اهتمام المسيري للنصوص التاريخية والدينية والأفكار المجردة – التي يجيد التعامل معها كأكاديمي- إلى الاهتمام بمتابعة أدق المستجدات في الحالة موضع اهتمامه. وهو ما أكده في أحد لقاءاته التلفزيونية، إذ أكد على قيامه بمثل هذه المتابعة بالطريقة الصعبة من خلال القراءة اليومية للصحف الاسرائيلية ، بدلاً من الاكتفاء بمتابعة ما تنقله الصحف العربية والعالمية عنها من أخبار وتقارير، قد تغفل بعض التفاصيل والوقائع التي قد تمثل له أدلة ثابتة على واحدة من نظرياته.

وتبرز هذه القدرة على الربط بين النظرية والواقع في كتابه «من هو اليهودي؟» الذي يتناول قضية تعدد الهويات داخل إسرائيل وغياب الأصل الواحد لليهود الذي تقوم عليه الفكرة الصهيونية. ويقوم الكتاب على تتبع تاريخ الجماعات اليهودية منذ نشأتها قبل الميلاد، وصولاً إلى تاريخ الجماعات اليهودية في أوروبا الحديثة باستخدام منهج تاريخي دقيق. وبالرغم من العمق النظري للدراسة، إلا أن السطور الأولى للكتاب انطلقت من الآتي: «أوردت وكالات الأنباء الخبرين التاليين في شهر إبريل 1997م: 1 – تتوقع السلطات الإسرائيلية أن تشهد مدينة القدس اضطرابات وعمليات إلقاء حجارة في أحد الشوارع الرئيسة بحي «مياشعاريم» الذي يعيش فيه اليهود الأرثوذوكس.
2 – أكدت الإذاعة الإسرائيلية أن جندياً يهودياً إثيوبياً تابعاً لإحدى الوحدات الخاصة في الجيش الإسرائيلي قد طُرد من عيادة من قبل ضابط أدلى بعبارات عنصرية». فهذا النوع من الأخبار أثار لديه الإحساس بضرورة إعداد دراسة تتناول قضية الهوية في إسرائيل التي يشار إليها في الإعلام الإسرائيلي والغربي بعبارة «من هو اليهودي»، والتي يرى أنها ليست مجرد توسع في الدراسة الأكاديمية بل أساساً للفعل السياسي فيما بعد.

منهجه في تناول الحضارة الغربية
في مؤلفاته التي تناول فيها موضوع الحضارة الغربية، تتسم رؤية عبد الوهاب المسيري بقدر كبير من الموضوعية والإنصاف. فهو من ناحية لا ينكر فضل الحضارة الغربية وإسهامها الكبير في عملية التقدم الإنساني، ومن ناحية أخرى يجتهد في إبراز نقاط الضعف والقصور التي سادت النموذج المعرفي الذي تبشر به من خلال ما أثبته واقع هذه الحضارة. ففي كتابه «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، أكد المسيري على وجوب الاعتراف بالقيمة الإنسانية لإبداعات الإنسان الغربي لأنها بتعبيره «إبداعات مهمة وإسهامات حقيقية للتراث الإنساني معروفة لدى الجميع»، لكنه في الوقت نفسه ينتقد رؤية هذا النموذج المعرفي للتاريخ الإنساني باعتبار أنها «نقطة القصور الرئيسة» به. إذ يتصور النموذج المعرفي الغربي، في تحليله للإنجازات الحضارية غير الغربية، أن قيمتها الوحيدة تكمن فيما نجحت في تقديمه للحضارة الغربية التي تمثِّل ذروة التطور الانساني.

ولعل هذه الرؤية الشاملة لعملية التقدم الإنساني هي ما دفعته إلى الاهتمام بالنماذج الحضارية المختلفة، لمحاولة كسر التصور الذي وضعه النموذج الغربي وراج كثيراً بين عدد من المفكرين غير الغربيين المتبنين لنموذج الحداثة. وقد استغل دراسته الأدبية في عرض رؤيته، ففي عام 1989م قام بالاشتراك مع يسري حلمي بترجمة مسرحية «افتتاحيات الهادئ Pacific Overture» التي ألَّفها ستيفن سوندايم وجون ويدمان وتتناول المقارنة بين وضع اليابان القديمة أثناء حكم الإقطاع العسكري، واليابان الحديثة. وفي مقدمة كتاب «الغرب والعالم» لكافين رايلي الذي قام بترجمته بالاشتراك مع زوجته الدكتورة هدى حجازي، عاد المسيري ليشير إلى النموذج الياباني باعتباره نموذجاً لدولة لها تراث حضاري نجحت في الدخول للعصر الحديث وتحقيق معدلات تنمية أذهلت الغربيين أنفسهم، من دون أن تطرح تراثها أو هويتها الخاصة جانباً.

وعلى الجانب الآخر اتجه عبد الوهاب المسيري لتحليل المشكلة بصورتها الشائعة بين المفكرين العرب، والتي تتمثل في استيراد معجم الكتابات الفكرية العربية من الغرب، وهو ما أسفر عن دخول مفاهيم ومصطلحات ذات طبيعة متحيزة على الحركة الفكرية العربية. وقد تعرض لهذه المشكلة في عدد من مؤلفاته كان أهمها «اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود». حيث تناول فصله الرابع مشكلة استيراد المصطلحات الغربية. ولعل المثال الأشهر على ذلك هو تقسيم التاريخ العالمي لمرحلة العصور الوسطى والتي يطلق عليها الغرب أيضاً عصور الظلام، والتي جاء بعدها عصور النهضة والتنوير. ويسأل المسيري عن كيفية وصف هذه العصور بالمظلمة بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية، التي تتابع عليها في هذه الفترة حكم الخلفاء الراشدين ثم الدولتين الأموية والعباسية وهي الدول التي حققت قدراً عظيماً من المنجزات الحضارية. وكذلك هو الحال في واحدة من أعظم الحضارات الشرقية في الصين، والتي بلغت قمة ازدهارها في نفس العصر الذي عاشت فيه أوروبا ذلك الظلام.

ويلفت المسيري الانتباه إلى بُعد آخر متعلِّق بمشكلة استيراد المفاهيم والمصطلحات، ويتمثل في إغفالنا لمصطلحات عربية دقيقة لتحل محلها تلك المفاهيم المستوردة التي لا جذور لها في بنائنا المعرفي. ومن الأمثلة على ذلك دروج المؤلفات التاريخية العربية الحديثة على الحديث عن «الحروب الصليبية»، وهو ما يخالف الاسم الذي أطلقه عليها المؤرخون العرب المعاصرون لها وهو «حروب الفرنجة» الذي يأتي إشارة «للفرانك» أو الفرنسيين الذين شكلوا النسبة الأكبر من جيش الغزاة. أما وصف «الصليبية» فهو ما حاول قادة ممالك أوروبا الترويج له ليسهل عليهم حشد أكبر عدد من الجنود والأموال بإضفاء القداسة على حربهم غير المشروعة. ومن أثر تطبيقات هذا الاستيراد خطورة ما يتعلق باستيراد المفاهيم المتعلقة بإسرائيل والصهيونية وتعريبها لتكتب كما هي بحروف عربية.

بين النظري المجرد والواقع المعاش يومياً
على الرغم من قدرته الكبيرة على التعامل مع المفاهيم والأفكار في صورتها المجردة، إلا أن البعد الإنساني طالما ظهر بوضوح في كتابات المسيري. ويتضح ذلك من خلال حرصه الدائم على ربط نظرياته بانعكاساتها على الواقع الإنساني مع الاهتمام الشديد بكل ما يمس الحياة اليومية والخاصة للأفراد. ففي كتابه «دراسات معرفية في الحداثة الغربية»، يطرح رؤيته الفكرية، ممتزجة مع اهتمامه بمستقبل الحضارة الإنسانية ورغبته في وقف الإنجراف نحو تيارات الحداثة المنفصلة عن القيمة. وكان الطعام أحد أهم الأمثلة التي استشهد بها في تأييد وجهة نظره. حيث رأى أن انتشار أشكال الطعام الفورية جاء ليكسر عدداً من مظاهر الترابط والتراحم بين أفراد الأسرة. فهذا الطعام الفوري يتم إعداده في دقائق ثم يقوم أفراد الأسرة «بقذفه» في أفواههم وهم متراصون جنباً إلى جنب أمام التلفزيون لا ملتفين حول المائدة، فهم
لا يتحدثون سوياً، ولا يأكلون من الأطباق نفسها. وفي الكتاب نفسه قام برصد ظاهرة الانفصال عن القيمة في الثقافة المصرية من خلال تحليل واحدة من مظاهر الثقافة الشعبية المصرية ذات الانتشار الجماهيري الواسع وهي الأعمال الدرامية السينمائية والتلفزيونية. فنجده يرصد هذه الظاهرة من خلال تناوله لفلم «خلي بالك من زوزو» والمسلسل التلفزيوني «مغامرات عماشة» وما ورد بهما من مؤشرات على التحول الذي شهدته الثقافة الشعبية في مصر في السبعينيات، وأخذ يحلل أدق تفاصيل هذه الأعمال الدرامية في حوالي عشرين صفحة ليربطها بما تقدم في الكتاب من تحليل لنظريات فلسفية شديدة التجريد.

وبالرغم من صعوبة المهمة التي كَلِّف بها الدكتور عبدالوهاب المسيري نفسه، إلا أن إنجازه لهذا المشروع المعرفي على هذا الوجه لا يفسره سوى ما رآه هو من ضرورة توضيح الحقيقة فيما يتعلق بالعدو وبالخطر وباحتمالات الهزيمة والانتصار، أو بموقف أمته من الحضارة الغربية التي فرضت سيطرتها بشكل كبير كنموذج أوحد على الكل التسليم به واتباعه. وهي الحقائق التي رأى أهمية توضيحها ليس في وقتنا الحاضر فحسب، ولكن لأجيال قادمة سوف تتولى مسؤولية عظيمة، سواء في دفاعها عن قضيتها أو عن إرثها الحضاري. يقول المسيري في مقدمة كتابه «الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ» إن أهمية دراسته تكمن في «دعوة الأجيال الشابة لألاَّ تلحق بأحد، وألا تسير في ركاب أحد، وألا تهرول نحو أحد، وأن تنفض عن نفسها غبار الهزيمة ووهم الموضوعية المتلقية المنكسرة وأن ترفع لواء النصر والموضوعية الاجتهادية». وهي المهمة الثقيلة التي لا يتصدى لها إلا رجال مثل الدكتور عبدالوهاب المسيري، يرحمه الله.

المسيري في سطور
• وُلد في دمنهور 1938م وتلقى فيها تعليمه الابتدائي والثانوي. التحق عام 1955م بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الأسكندرية وعُين معيداً فيها عند تخرجه، ثم سافر إلى الولايات المتحدة عام 1963م.
• حصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن عام 1964م من جامعة كولومبيا، ثم على درجة الدكتوراة في الأدب الإنجليزي والأمريكي عام 1969م من جامعة رتجرز، بالولايات المتحدة الأمريكية.
• عند عودته إلى مصر عمل أستاذاً للأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس، ثم في جامعة الملك سعود، وجامعة الكويت. كما عمل أستاذاً زائراً في جامعة ماليزيا الإسلامية في كوالالمبور وفي أكاديمية ناصر العسكرية.
• على مدار رحلته شغل عدداً من المناصب المهمة. فكان عضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام (1970 – 1975م)، ومستشاراً ثقافياً للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك (1975 – 1979م). وكان حتى وفاته عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بليسبرج، بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، والمستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، ومستشار التحرير في عدد من الحوليات التي تصدر في مصر وماليزيا وإيران والولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا.
• بدأ رحلته في الكتابة عام 1972م بصدور كتابه «نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفـكر الصهيوني»، ليمتد بعدها مشروعه الفكري المتميز، الذي تتوجه «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية». وقد قدَّم الدكتور المسيري سيرته الفكرية في كتاب بعنوان «رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر.. سيرة غير ذاتية غير موضوعية» (2001م).
• نال الدكتور المسيرى عدداً من الجوائز من بينها جائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام (2000م) عن موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ثم عام (2001م) عن كتاب رحلتي الفكرية، وجائزة العويس عام (2002م) عن مجمل إنتاجه الفكري. كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام (2005م). وكان آخر ما تلقاه من جوائز جائزة القدس من الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب (2008م).
• صدرت عدة دراسات حول أعماله من أهمها «فى عالم عبدالوهاب المسيرى» (2004م) وهوكتاب حواري من جزءين، اشترك فيه عدة مفكرين من بينهم: الأستاذ محمد حسنين هيكل، محمود أمين العالِم، محمد سيد أحمد، جلال أمين. وكتاب تكريمي بعنوان الأستاذ الدكتور عبدالوهاب المسيرى في عيون أصدقائه ونقاده، ضمن سلسلة «علماء مكرمون» لدار الفكر بسوريا يضم أعمال مؤتمر «المسيرى: الرؤية والمنهج» الذي عُقد في المجلس الأعلى للثقافة في فبراير 2007م. كما ظهر عدد خاص من مجلة أوراق فلسفية (2008م) يضم دراسات لعدد من العلماء والباحثين العرب في الجوانب المتعددة للدكتور عبد الوهاب المسيرى. وسيصدر هذا العام كتاب من تحرير الأستاذة سوزان حرفي الإعلامية المصرية، تحت عنوان حوارات مع الدكتور عبدالوهاب المسيرى، وهو يغطي كل الموضوعات التي تناولها الدكتور المسيرى في كتاباته ابتداءً من رؤيته في المجاز ونهاية التاريخ وانتهاءً بأفكاره عن الصهيونية.

أضف تعليق

التعليقات