بخلاف الذين يعملون مكرهين في المهن الموروثة عن آبائهم ويكتفون بالحلم بأن يعملوا في مجال آخر يفضِّلونه، أحبَّ جواد الرمضان فن تطريز المشالح الذي ورثه عن والده، وأبدع فيه وعلَّمه للكثيرين، قبل أن ينصرف إلى مجال مختلف تماماً: التأريخ.. الذي كان من ثماره عدد كبير من المؤلفات، وكنز من المخطوطات. الأمر الذي دفع بالكاتبة السعودية شمس علي أن ترسم لنا الصورة الشخصية لهذا الرجل ذي الإبداعين
في مدينة الهفوف في الأحساء شرق المملكة العربية السعودية ولد جواد بن حسين بن محمد ابن الشيخ علي الرمضان عام 1355هـ بين خمسة من الأشقاء الذكور، وتجرَّع مرارة اليتم باكراً بوفاة والده عام 1363هـ، بيد أن العناية الإلهية تلطفت بالصغير اليتيم جواد لتحيك له حياة مطرزة بالإبداع، مكتنزة بالعطاء، مدموغة بالأسفار.
رحلاته
انطلق الرمضان في أولى رحلاته عام 1369هـ صبياً صغيراً إلى البحرين، بمعية أسرته وعائلها الشقيق الأكبر محمد الرمضان، صاحب ديوان «مائدة رمضان» أول ديوان شعري لشاعر أحسائي صدر عام 1385هـ عن مطبعة كرم بدمشق. ولأن إرث الأجداد الإبداعي والأب الراحل في صناعة المشالح ضارب بجذوره في التربة الخصبة للصغير جواد، فقد تشرب مهنة حياكة «البشوت» في عام 1370هـ رغم مشقتها، إلى جانب سعيه لنيل العلم في مدرسة «العامر» بالمنامة، حيث حفظ القرآن الكريم على يد رجلين فاضلين عُرف الأول بملا عبدالله بن صالح العامر وكان رجلاً كفيفاً والآخر ملا موسى بن سليمان، وفي عام 1371هـ قرر الرمضان الالتحاق بمدرسة ليلية أهلية تعنى بمحو الأمية ويديرها في ذلك الحين عدد من مثقفي البحرين. غير أنه لم يمكث بها طويلاً، إذ سرعان ما غادرها سعياً لتحصيل علمي أفضل، طارقاً بذلك أبواب عدد من المدارس.
نشأة علاقته بالكتاب
في مكتبة أخيه الشاعر محمد الرمضان، توطدت علاقة جواد بالكتاب، لتستحيل فيما بعد شغفاً استولى عليه ليحمله على ادخار ما يمتلك من نقود قليلة لابتياع ما يتطلع إليه من كتب. واستطاع بذلك اقتناء الكتاب الأول وهو دوان «شفق الأحلام» للمؤرخ الشاعر محمد سعيد القطيفي صاحب كتاب «ساحل الذهب الأسود».
وجره شغفه ذلك، مع قلة ذات اليد، إلى البحث عن مورد آخر لاقتناء الكتب يتناسب ومدخراته المتواضعة، فوجد ضالته تلك في سوق للأسعار المخفضة، أو ما يعرف شعبياً بالـ «حراج»، وكان يدعى بسوق «المقاصيص» كناية عن «الِمقصّ» وهو الشخص المعدم المفلس. ومذ ذاك تواترت زياراته إليه ليروي عن طريقه ظمأه إلى قراءة الدوريات الثقافية والكتب قديمها وجديدها. فشكّل بذلك مكتبة ضخمه ضمت بين رفوفها عدداً من الكتب القيمة.
من البحرين إلى العراق وسوريا
عندما حملته الظروف على حزم متاعه لمغادرة البحرين إلى العراق، تحيَّر بشأن مكتبته تلك. وشقَّ عليه حملها، فعمد إلى تخزينها في خمسة صناديق خشبية ضخمة طول الواحد منها 1.5 متر وركنها في غرفة مهجورة لأحد أقربائه، مودعاً فيها حصيلة ما اقتناه من كتب طوال مدة مكوثه في البحرين. بيد أنه سرعان ما غادر العراق بعد بضعة أشهر فقط من وصوله إليها متوجهاً إلى سوريا عام 1378هـ في رحلة امتدت عشر سنين.
وعندما طال به البقاء أرسل إليه أحد إخوته يستأذنه الانتفاع ببيع متاعهم المودع في البحرين فأذن له ولم يخطر بباله أنه سيتصرف أيضاً بصناديق الكتب المكدسة ويبيعها بثمن بخس في سوق «الحراج» نفسه، الذي اقتناها منه يوماً ما، مما أصابه بصدمة كبيرة عندما تناهى الخبر إليه.
ولأن الرمضان بات يتنازعه إبداعان، أحدهما صناعة «البشوت»، إرث أبيه وأجداده، التحق خلال إقامته في دمشق بمصنع لصناعة «المشالح» أسسه نبيه حمد الله معتمداً في ذلك على أيدي أمهر صنَّاع «البشوت» من الأحسائيين المهاجرين.
ظل الرمضان متمسكاً بتلك الصناعة طوال ثلاثة عقود لم يبخل خلالها بتعليمها إلى الأجيال حتى كلَّ البصر، فأمسك عنها عام 1400هـ. وانصرف إلى إبداع آخر ظل يتنازعه دون انقطاع وهو التأريخ، الذي تألق فيه بعد أوبته إلى مسقط رأسه «الأحساء».
علاقته بالتأريخ
ولعلاقة الرمضان بالتأريخ حكاية تبدأ في بحثه عن جذور نسب عائلته. وتوصل من خلال بحثه في كتاب «خزاعة» إلى أن رمضان هو أحد أبناء سلمان بن محمد باشا الثاني عشر الذي هو جد
آل رمضان، ويعود نسبه إلى سلمان بن عباس ابن محمد بن حسن بن داوود بن عبدالله ابن عبدالمنعم بن هديب بن رخا بن أثير بن جلال ابن رضا بن دعبل الخزاعي الشاعر المعروف. وانطلاقاً من بحثه ذلك عن أصول عائلته وآثارها العلمية والأدبية في عام 1388هـ ابتدأ مشواره في البحث التأريخي والتنقيب عن الأنساب الذي شمل بعد ذلك وطنه وامتد أيضاً ليطال دول الخليج، ليتشكل بذلك مساره البحثي التدويني لتاريخ أعلام المنطقة من أهل العلم والأدب منذ أربعة عقود ولم يزل.
طرقه في البحث عن المخطوطات
اتخذ المؤرخ الرمضان عدة طرق في البحث عن مخطوطاته:
1 – البحث لدى أسر الأعلام البارزين في المنطقة عما خلفوه بعد وفاتهم من مخطوطات.
2 – التفتيش في محاريب المساجد المهجورة ومغارات جبل القارة حيث اعتاد الناس إيداع الكتب والمصاحف العتيقة فيها.
3 – حضور تركات العلماء الراحلين.
وفي إحدى المرات اتفق أن زاره أحد الباحثين عن التراث الذين يترددون عليه للاستفادة من مخطوطاته وسأله عن كيفية حصوله على الوثائق؟
فأخبره بأن ثمة مساجد تتكدس في زواياها أكياس من الخيش المملوءة بالأوراق الصفراء مؤكداً أن تلك إحدى وسائله في تحصيل الوثائق، واتفق معه على القيام بزيارة لإحدى القرى التي كان الرمضان على علم من احتواء مسجدها على عشرين كيساً من الخيش، وحال وصولهما توجه الاثنان مباشرة إلى المسجد وأخذا يبحثان بين أكداس الورق وصادف أن انتبه لهما فتية القرية فهبوا راكضين إلى العمدة لإخباره بما شاهدوا من أمر غريبين يفترشان أرضية المسجد وينهمكان في التنقيب بين محتويات أكياس الخيش، فجاء العمدة ركضاً بمعية عشرين منهم وهو يمسك بعصا غليظة وحالما رأى هيئة الرجلين انتابه الخجل وتراجع مخبئاً العصا خلف ظهره وهو يسألهما عن غايتهما فأخبراه عنها فدعاهما إلى ضيافته وأمر بالمجيء لهما بماء للشرب ولغسل أيديهما مما علق بها من غبار.
ما في حوزته من وثائق ومخطوطات
يقدَّر عدد ما في حوزة جواد الرمضان من وثائق ومخطوطات بحوالي الألف مخطوطة. وأول مخطوطة تحصّل عليها هي كتاب «مقامات الحريري» المخطوطة على يد رجل أحسائي في القرن الثالث عشر الهجري. أما أقدم وثائقه فتعود إلى القرن العاشر الهجري، وبحوزته كذلك عدد من الوثائق العائدة إلى القرن الحادي عشر الهجري.
المستفيدون من مخطوطاته
على مدى عدد من السنوات استفاد من مخطوطاته عدد كبير من الباحثين والأكاديميين في تحضير أطروحاتهم وبحوثهم أو في تأليف كتبهم مثل صاحب كتاب «أعلام هجر» هاشم الشخص.
ويشير الرمضان إلى أن بعض الباحثين الذين استفادوا من مخطوطاته لم يشيروا إليها حتى مجرد إشارة على أنها مصدر لبحثهم.
من جهة أخرى ولد اهتمامه النظري بالتراث اهتماماً عملياً موازياً، فأصبح يجول على المواقع الأثرية في قرى الأحساء ليلتقط لها الصور على مدى عقود ليجمع بذلك ثروة فوتوغرافية.
أهم مؤلفاته
وضع جواد الرمضان حتى اليوم عدداً من الكتب، نذكر منها:
1 – «مطلع البدرين في تراجم علماء وأدباء الأحساء والقطيف والبحرين» وهو مكون من اثني عشر جزءاً طبع منها فقط جزءان بعدما تكفل بطباعتهما أحد رجال الأعمال الكويتيين ويدعى الحاج حسين القطان، ومن إيراد ما يباع من 3000 نسخة المطبوعة من كتابه «البدرين» مازال الرمضان يحاول طباعة ماتبقى من الأجزاء.
2 – معجم أعلام الأحساء في العلم والأدب.
3 – معجم أعلام أنساب الأحسائيين «معجم العائلات والأسر الأحسائية».
4 – قلائد الجمان في تراجم علماء وأدباء
آل رمضان.
5 – إسناء المغانم في تراجم أعلام آل أبي المكارم.
6 – كشكول نزهة الناظر وسلوة الخاطر، وهو في أربعة أجزاء.
6 – معجم المؤلفين الأحسائيين، سيطبع قريباً.
7 – نفائس الأثر في تاريخ هجر.
8 – ديوان الأحسائيات.
ولأن المبدع يظل في حال من التجدد الدائم، فالمؤرخ والفنان الرمضان لم يجفل من التقنية الحديثة بل سخَّرها لإبداعه واستفاد منها في تدوين وحفظ مخطوطاته. ويفكِّر حالياً أيضاً بإنشاء موقع إلكتروني يعرِّف من خلاله بما لديه من كنوز معرفية ليستفيد منها الأجيال والباحثون.