الرحلة معا

سوق عكاظ

من باب الاحتياط المعرفي إليكم هذه الديباجه:
جاء في سبب تسميته وأصل كلمة (عكاظ) بأنه سُمّي بهذا الاسم؛ لأن «العرب» كانت تجتمع فيه فيعكظ بعضهم بعضاً في المفاخرة أي يقهره ويغلبه، ويُقال: فلان يعكظ خصمه بالخصومة: يمعكه. إن بين تسميتها وبين ما يدور فيها من أوجه نشاط صلة قوية، فقد اشتق اسمها من المعاكظة وهي المحاجة في المفاخرة التي كانت ضمن نشاط ذلك السوق، ولقد تحدث عن ذلك اللغويون. «الخليل ابن أحمد»، مثلاً يقول: (وسُمّي به لأن العرب كانت تجتمع فيه كل سنة فيعكظ بعضهم بعضاً بالمفاخرة والتناشد: أي يُدعك ويُعرك، وفلان يعكظ خصمه بالخصومة: يمعكه). ويقول «ابن دريد»: (عكظت الرجل أعكظه عكظاً إذا رددت عليه وقهرته بحجتك، وعكاظ بهذا سُمّي، وهو موضع لمواسم العرب كانوا يتعاكظون فيه بالفخر). ويقول «ابن سيدة»: (عكظ دابته يعكظها: حبسها، وعكظ الشيء يعكظه: عركه، وعكظ خصمه يعكظه عكظًا: عركه وقهره، وتعاكظ القوم: تعاركوا وتفاخروا). ويقول «الليث»: (سُمّيت عكاظ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضاً بالمفاخرة أي يدعك، وعكظ فلان خصمه باللدد والحجج عكظاً).

وينقل ياقوت عن السهيلي قوله: (كانوا يتفاخرون في سوق عكاظ إذا اجتمعوا، ويُقال: عكظ الرجل صاحبه إذا فاخره وغلبه بالمفاخرة، فسُمّيت عكاظ بذلك) ثم يضيف: وقال غيره: (عكظ الرجل دابته يعكظها إذا حبسها، وتعكظ القوم عكظاً إذا تحبسوا ينظرون في أمورهم، قال وبه سُمّيت عكاظ). ويقول «الزمخشري»: (وعكاظ متسوق للعرب كانوا يجتمعون فيه فيتناشدون ويتفاخرون… ومنه قالوا تعكظوا في مكان كذا إذا اجتمعوا وازدحموا، قال عمرو بن معد يكرب: ولكن قومي أطاعوا الغواةَ حتى تعكظ أهلُ الدمِ. وكما شغلت لفظة (عكاظ) اللغويين فقد شغلت النحويين فنظروا إليها وهم مختلفون من ناحية صرفها وعدمه، وأدلى كل فريق بعلته مستنداً على
ما قيل فيها من شعر وخلاصة القول ما قاله اللحياني: أهل «الحجاز» يجرّونها، «تميم» لا تجرّها، قال أبو ذؤيب: إذا بُني القبابُ على عكاظ وقام البيعُ واجتمع الألوف.

وهكذا بقيت (عكاظ) في الذاكرة حتى وصلت إلينا بسهلها المنبسط بين مكة والطائف، وبصعوبتها الحالية حيث تنازع القوم وجاهة إحيائها أو إبقائها قتيلة التاريخ السحيق، حيث يموت كل ملمح جاهلي، كما يسمى ذلك العصر العربي الذي ازدهر شعراً وحكمة و(معاكظة): وممن برز فيه وعلا شأنه «النابغة الذبياني»، الذي ترأس سوق عكاظ، وفي ذلك يقول «الأصمعي»: «كان النابغة يُضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فيعرضون عليه أشعارهم».

وفيها كان يخطب كل خطيب مصقع، ومنهم «قس ابن ساعدة» الأيادي؛ إذ خطب خُطبته الشهيرة هناك، وهو على جمله الأورق؛ والتي جاء فيها: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليلٌ داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا أم تُركوا فناموا، يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه، إن لله ديناً هو أرضى له، وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكراً».

وفيه عُلِّقت «القصائد السبع» الشهيرة افتخاراً بفصاحتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل إلى غير ذلك، وكان كل شريف إنما يحضر سوق بلده إلاّ سوق عكاظ، فإنهم كانوا يتوافدون إليها من كل جهة، فكان يأتيها قريش، وهوازن، وسليم، والأحاشيش، وعقيل، والمصطلق، وطوائف من العرب.

كما اجتمع فيها في موسمها الأخير طوائف من حواضر العرب وممثلي أمصارهم التي تفرقت على كل شيء واجتمعت على الشعر والفن وممارسة النثر الحكيم: قصة ورواية ومسرحية. لقد كانت هامة الخنساء حاضرة في السوق التي نُفض عنها غبار القرون، وخيمتها جاورت خيمة النابغة الذبياني في تلاقح طبيعي ما بين الخيمتين التاريخيتين. قالت الأخبار المنقولة من هناك: «.. بدأت الأمسية التي أقيمت في موقع السوق وتم الربط ما بين خيمة الخنساء المخصصة للفعاليات الثقافية النسائية وخيمة النابغة الذبياني المخصصة للفعاليات الثقافية الرجالية صوتياً بحديث مفتوح مع الشاعرة حليمة مظفر حيث أكدت أن سوق عكاظ عزَّز مشاركة المرأة بداية من تسمية الخيمتين الخنساء والذبياني، لافتة إلى أن استحضار المرأة كرمز شعري وتاريخي يجسِّده سوق عكاظ الآن وهو تأكيد لدور المرأة الشعري».

مثل هذا الخبر يثلج الصدر العربي الثقافي، الذي نسي، أو تناسى، لزمن طويل إرثه العربي من الشعر والنثر والحِكمة وغيَّب رموز هذا الإرث حتى كادت هذه الرموز أو النجوم العربية القديمة تنمحي من أذهان أجيالنا الحديثة.

ليس هناك أمة على وجه الأرض تخجل من ماضيها كله، فلربما أخجلها بعضه واحتفظت ببعضه الآخر في ذاكرتها ونقلته إلى أجيالها، فلماذا إذن يراد لأمة العرب أن تخجل من كل عصرها ما قبل الإسلام؟ على الأقل يمكن أن نبقي ذاكرتنا مفتوحة على الجيد من القول والفعل السابق، وهو، بالمناسبة، كثير يصعب حصره.

إن فكرة سوق عكاظ الجديدة تستحق تحية عربية بالغة، كما يستحق من نظَّموا واجتهدوا وشاركوا كل التقدير والإعزاز نظير ما لاقوه من عنت التنظيم والتشكيك بنجاحهم. يكفينا إلى الآن نصف نجاح وسنصل قريباً بهذه السوق إلى النجاح الكامل، بإذن الله.

أضف تعليق

التعليقات