في أوائل القرن الميلادي الواحد والعشرين، ظن البشر أن السباق إلى الفضاء قد انتهى أو أنه على الأقل سيستمر على نار هادئة. لكن حمّى السباق تبدو أنها عاودت الدول العظمى، منذ سنة 2007م، فقد استبدّت هذه الحمّى من جديد بعدد من هذه الدول العظمى، وعاد القمر إلى الواجهة في هذا السباق. ما هي الحوافز وما هي الأهداف؟ إنه البحث عن الطاقة.
ولنبدأ القصة من أولها.
العالم عطش للطاقة. الوقود الأحفوري، من فحم ونفط وغاز، سينضب في يوم من الأيام. وأسعاره إلى ارتفاع.
والتقدم الاقتصادي والصناعي يعني اليوم، مزيداً من الإقبال على مصادر الوقود، لا سيما في دول صاعدة، مثل الصين والهند، اللتين تؤويان مليارين ونصف مليار كائن بشري. إن مشكلة الحاجة المتزايدة إلى الطاقة واحتمال اختلال التوازن بين العرض والطلب ينبئ بأزمة متسارعة كونية، تحتاج إلى حل شامل وسريع.
هناك لحسن الحظ، حل يمكن أن يكون شاملاً وسريعاً، إذا سارعت البشرية إلى اعتماده في الوقت المناسب، وهو: الانصهار النووي (عكس الانفلاق النووي)، ووقوده المنشود هو الهليوم – 3. هذا الانصهار قادر على إنتاج مقادير هائلة من الطاقة، من دون التسبب بإنتاج مخلّفات مشعّة كالتي تخلّفها محطات الطاقة النووية المستخدمة اليوم على نطاق واسع.
اتّجهت الأنظار إلى القمر، لا لإنشاد القصائد الرومانسية الرقيقة، والاستمتاع بسهرة ليلية هانئة في ضوئه الجميل. بل اتّجهت إليه من أجل التعدين
لكن ثمة مشكلتين تعترضان مسار هذا الحل البيئ: إنتاج الطاقة بالانصهار النووي. المشكلة الأولى، هي أن أحداً اليوم من علماء الدول الصناعية الكبرى والمتقدمة، لم يُفلح بعد في صنع محطة لإنتاج الطاقة بالانصهار النووي. والمشكلة الثانية هي أن الهليوم – 3 معدن نادر الوجود في الطبيعة على سطح الكرة الأرضية، أو في متناول التعدين.
لقد تراجع التفاؤل بالسفر في الفضاء، منذ سنة 2010م على الخصوص، مع تقليص وكالة الفضاء “ناسا” موازنتها لهذا الغرض
لذلك اتّجهت الأنظار إلى القمر، لا لإنشاد القصائد الرومانسية الرقيقة، والاستمتاع بسهرة ليلية هانئة في ضوئه الجميل. بل اتّجهت إليه من أجل التعدين… التعدين على القمر، نعم، من أجل استيراد الهليوم – 3 إلى الكرة الأرضية. والعلماء والمهندسون في وكالات الفضاء الحكومية، وكذلك الشركات الخاصة بالسفر في الفضاء، بدأوا العمل الجاد في هذا الاتجاه.
الهليوم – 3 الوقود
في محطات الطاقة الذريّة، تنفلق ذرّات اليورانيوم، فيصدر عن انفلاقها مقدار كبير من الطاقة. لكنها تخلّف نفايات مشعّة لا بد من طمرها، وإبعادها عن البشر والمياه الجوفية، والكائنات الحية والنبات والبحار والهواء… ألوف السنين. أما محطات الانصهار النووي، فتنصهر فيها الذرّات، فيصدر عن انصهارها نوع الطاقة التي تشعل الشمس والنجوم مليارات السنين. ولا تخلّف هذه الطاقة نفايات مشعّة ضارة بالبيئة وحياة البشر وسائر الكائنات الحية عموماً.
لقد عمل العلماء عشرات السنين لصنع محطة لإنتاج الطاقة بالانصهار النووي، ولم يُفلحوا بذلك حتى الآن، إذ يبدو أن فلق الذرّات أسهل كثيراً من صهرها. والعلماء يركزون على وقودين أساسيين: الهليوم – 3 والديوتيريوم. والانصهار النووي يُنتج، مع الطاقة، الهليوم العادي وبروتون واحد، وهما مادتان لا مشكلة في احتوائهما.
الهليوم – 3 نادر جداً على سطح الأرض في الطبيعة، وهو وفير في الرياح الشمسية. لكن طبقات الجو المحيط بالكرة الأرضية تمتص معظمه، قبل أن يصل إلى سطح الأرض. ولما كان القمر بلا غلاف جوي يحيط به، فقد تراكمت على سطحه، منذ مليارات السنين من أشعة الشمس، مقادير كبيرة من الهليوم – 3.
الدول المتسابقة
إذن، فلنأت بالهليوم – 3 من القمر! القضية ليست بهذه السهولة. فإذا تخيّلنا أن هذه الفكرة، فكرة تعدين الهليوم – 3 من على سطح القمر، قد وجدت يوماً سبيلها إلى التحقيق، فلا بدّ من معامل على سطح القمر، لأن كل مليون طن من تراب القمر سينتج 70 طناً فقط من الهليوم – 3. ثم لا بد من نقل هذه الأطنان إلى الأرض. فهل العملية اقتصادية؟
يتوقّع العلماء، أنهم ما إن يتوصّلوا إلى إنتاج الطاقة بالانصهار النووي، حتى يشتد السباق بين الدول الكبرى، من أجل التعدين على القمر.
فالولايات المتحدة، حسب مشاريع وكالة الطيران والفضاء «ناسا»، يُفترض أن ترسل رواداً إلى القمر ثانية، في سنة 2020م، وأن تقيم محطة دائمة هناك في سنة 2024م. ومع أن الوكالة لم تفصح عمَّا يشير إلى رغبتها في تعدين الهليوم – 3، إلا أنها عيّنت في مواقع نافذة، علماء ومهندسين ممن يتوقون بقوة إلى تحقيق هذا المشروع.
أما روسيا، فقد أعلنت أن الغرض المنشود لأي مشروع إطلاق روّاد إلى القمر، هو المشروع نفسه، بقيمته العلمية وغير العلمية. غير أن شركة «إنيرجيا» الروسية التي بدأت تنشط أخيراً على الطريقة السوفياتية، تقول إنها ستنشئ محطة قمرية دائمة، بين سنتي 2015 و2020م، وأن هذه المحطة ستعدّن الهليوم – 3.
ويؤمن الصينيون أيضاً على ما يبدو، بأن الهليوم – 3، من على سطح القمر، يمكن أن يغذي محطات إنتاج الطاقة بالانصهار النووي على سطح الأرض. ويُنتظر هذا الخريف، أن تطلق جمهورية الصين الشعبية محطة فضائية تدور حول القمر، ضمن حصتها في السباق. ثم ستهبط فيما بعد مركبة صينيّة غير مأهولة على سطح القمر.
ولن تتخلّف الهند عن الاشتراك في السباق. فقد ألقى رئيسها أ. بي. جي. عبد الكلام، ورئيس حكومتها مانموهان سينغ، خطباً مهمة أكدا من خلالها أن الهند، بالإضافة إلى عزمها على إطلاق محطات فضائية ضخمة تدور حول القمر لالتقاط الطاقة الشمسية، تنوي كذلك استخراج الهليوم – 3 من على سطح القمر. تلك كانت المهام التي أطلقت من أجلها المركبتان الهنديتان: تشاندرايان – 1 وتشاندريان – 2 في بداية المسيرة الهندية إلى القمر.
أما اليابان وألمانيا فتبديان رغبتهما كذلك في المشاركة، بإطلاق مركبات إلى القمر، من أجل اختبار إمكان تعدين الهليوم – 3 واستيراده إلى الأرض لأجل أغراض الطاقة.
حساب الربح والتكلفة
بين سنتي 1969 و1972م، أحضر رواد الفضاء الأمريكيون من القمر، على مركبات أبولو، 382 كيلوغراماً من تربة القمر وحجارته، واستطاع البشر بذلك أن يكتشفوا كم أن هذه التربة غنية، وكم أنها متنوّعة. وتشير الأبحاث، استناداً إلى هذه المواد المكتشفة، إلى أن القمر يمكنه أن يوفّر للبشر المادة الأولية الضرورية لإنتاج ما يلزمهم لمزيد من الأسفار الفضائية، إلى المريخ وغيره.
لقد تراجع التفاؤل بالسفر في الفضاء، منذ سنة 2010م على الخصوص، مع تقليص وكالة الفضاء «ناسا» موازنتها لهذا الغرض. لكن المحلّلين الذين يلاحظون اليوم عودة الروح إلى سباق الفضاء، يرون ستة أسباب تجعل من مشروع التعدين على القمر، مشروعاً مربحاً في نهاية الأمر.
• ففي القمر موارد يمكن أن تسد نفقات السفر
• ويسهّل التعدين على القمر السفر إلى المريخ
• وقد أصبحت ملامح التعدين على القمر معروفة بدقة، بل رُسمت لها خرائط
• ترحب «ناسا» الآن بمشاركة القطاع الخاص، في التعدين على القمر
• ثمة اتفاق دولي عام على أن القمر ليس ملكاً لأحد، أي أنه للجميع
• لقد نضجت تكنولوجيا التعدين إلى حد يجعل المشروع قابلاً للتحقيق
مشاركة القطاع الخاص
لم تكن الأزمة الاقتصادية الأمريكية وحدها سبب تقليص موازنة «ناسا» لمشاريع السفر في الفضاء، بل عُزي الأمر كذلك إلى انسداد آفاق السفر إلى أماكن جديدة في الفضاء، بواسطة الموارد التكنولوجية المتاحة. وهذا يفسّر الحافز الذي يدفع وكالة حكومية مثل «ناسا»، إلى فتح المجال للقطاع الخاص، كي يدخل في المشروع الفضائي، ومن ثم يجلب موازناته إلى هذا القطاع. لقد فتحت المجال فعلاً، لكنها أكدت أنها لن تدفع مالاً لقاء أي إسهام من الشركات الخاصة.
يُفترض أن ترسل الولايات المتحدة، حسب مشاريع وكالة الطيران والفضاء “ناسا”، رواداً إلى القمر ثانية، في سنة 2020م
وبذلك تنشأ مشكلة الملكية الخاصة. فالشركات الخاصة، مثل شركة «بيغلو إيروسبيس» أو شركة «إيلون مسك»، لن تخوض غمار المغامرة الفضائية، إذا لم تضمن ملكية خاصة لموقع العمل على القمر، وحقوق ملكية خاصة تتيح استعادة التكلفة، ومنع الآخرين من منازعتها في امتلاك الموقع الذي تعمل فيه. غير أن «معاهدة الفضاء الخارجي» الدولية، تحظر على الدول، وبالأحرى القطاع الخاص، ادعاء ملكية خاصة في الفضاء الخارجي.
ومع هذا، فإن «ناسا» أعلنت السنة الماضية، أنها تريد أن «تأسر» كويكباً صغيراً في الفضاء الخارجي و«تسوقه» إلى مدار حول القمر سنة 2021م. وسارعت شركة «بيغلو» إلى إعلان استعدادها للمشاركة في مثل هذه المشاريع.
إذن فالمسألة عالقة تكنولوجياً ومالياً وقانونياً، والسباق يبدو في أوله، فهل يبقى القطاع الخاص الأمريكي وحده مع الدول العظمى في الميدان، أم أن روسيا والصين والهند ستشهد كذلك إقدام قطاعها الخاص، ليشتد السباق ويحمى وطيسه؟
الجواب ليس معروفاً اليوم بعد. لكن المؤكد أن القمر، الذي ظل معشوق الشعراء والمحبين والسامرين منذ أجيال وأجيال، سيشهد نمطاً جديداً من البشر ينظرون إليه بتوق واشتياق. إنهم رجال الأعمال والمال وأصحاب المشاريع الفضائية التجارية… عشاق القمر الجدد.