أدب وفنون

العِرقُ لم يعُد شرطَ الفِلم الأسود

هوليوود تعتذر عن اضطّهاد قارّة

يتنامى شعورٌ عام لدى متابعي السينما الأمريكية، بأنها بدأت تعتذر عن اضطهاد قارّة بأكملها لأكثر من قرن ونصف القرن، عن عبودية مورست لعقود طويلة بحقّ الأفارقة الأمريكيين ذوي البشرة السمراء، هذه الفئة العضوية جداً في المجتمع الأمريكي، التي أثبتت أهمّيتها في صناعة الفنون والآداب والتاريخ والعلوم. ويتبدّى هذا الندم الإنساني واضحاً في طفرة الأفلام والإنتاجات السينمائية الخاصّة بالسود ومجتمعاتهم، وهي ليست أفلاماً عادية، وإنّما جيّدة ورفيعة حازت جوائز عالمية كان آخرها الأوسكار لأوّل مُخرج أسود منذ 40 سنة.

لم يكن مُفاجئاً عدد الأفلام التي يطلق عليها أفلام السود غير المسبوق الذي وصل إلى قائمة جوائز الأوسكار في دورتها لهذا العام 2017م، ذلك أنّ الإنتاجـات السينمائية الخاصّة بقضايا العبوديــة والعنصرية كانت كثيرة وبارزة في العام الماضي، وهي فرضت على هوليوود الاعتراف بالأنماط الثقافية والعرقية والدينية والجنسيّة، ومراعاة الأقلّيات وعدم تهميشها أيضاً، وذلك بعد أن وُجّهت انتقادات حادّة إلى جوائز أكاديمية فنون وعلوم السينما في السنوات الأخيرة، وَصَفتها بأنّها “بيضاء للغاية”.
لقد رفع من حظوظ هذه الأفلام عوامل عدّة أيضاً، أبرزها الأجواء السياسية المشحونة التي رافقت انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ولا تزال تُسيطر على السينما الأمريكية حتى اليوم. لكن اللافت في الأفلام الأخيرة، أنّها خرجت إلى حدّ ما من موضوعات العبودية والحقوق المدنية والعِرق، على الرغم من ارتكازها سردياً على مُجتمعات يتناسلُ فيها وجع الأفارقة الأمريكيين للأسباب العنصرية نفسها، إلّا أنّها استطاعت أن تنتقل إلى مستويات أخرى من الطرح يتّسم بقضايا إنسانية عامّة، مثل الحب والصداقة وغيرها، أيّ إن العِرق لم يعُد شرط الفِلم الأسود، ولم يعُد ذوو البشرة السوداء في أفلام هوليوود ضحيّة لونهم.

“في ضوء القمر يظهرُ الأولاد السود بلونٍ أزرق”
هكذا لم يكن ممكناً لفِلم مثل “مونلايت” (ضوء القمر) الذي يُناقش بحدّة الحياة الشخصية لصبي أسود، أن يستحوذ على الاهتمام ويصل إلى مرتبة الأوسكار وينال ثلاث جوائز، في حين كانت حظوظ فِلم “فنسز” (الأسوار) وهو من إخراج وبطولة الممثل دنزل واشنطن قليلة بالفوز، علماً أنه يُلخّص بمهارة عالية العثرات التي عاشها السود في مجتمعاتهم المغلقة قسرياً، وردّات فعل الأبّ العنيفة تجاه طموحات أبنائه الموسيقية وغيرها، خوفاً من أن يصطدموا بمجتمع سيُعاملهم بإهمال وعدم تقدير، وقد استند الفِلم إلى المسرحية التي كتبها أوغست ويلسون (توفي سنة 2005) وفازت بجائزة “البوليتزر”.
ومع أن “مونلايت” بدأ بحوارية شعرية تُمسك المُشاهد منذ اللحظة الأولى، وتطرحُ فكرة الاختلاف وكأنّها السيناريو الذي سيؤسّس لأحداث الفِلم، “لا مكان في العالم إلا ويوجد فيه السود، إنّهم في كلّ مكان يا بُنيّ، لكن في مرحلة ما أنت ستُقرّر ما هو لونك، ولا أحد يستطيع أن يقرّر بالنيابة عنك.. كلّنا نتغيّر تحت الضــوء، لكن في ضـوء القمر يظهرُ الأولاد الســود بلـونٍ أزرق، وأنت الآن أزرق، وبهذا الاسـم سوف أناديك”..
في ذروة انتشار الأفلام التي تتحدّث عن قضايا السود المُختلفة أيضاً، تبرز أفلام جيّدة لجهة انتقاء الموضوع وزاوية اشتغاله، مثل فِلم “هيدن فيغرز” (شخصيات مخفية) الذي حاز جائزة أفضل مُمثّلة مساعدة هي فيولا دايفيس، عالمة الرياضيات السوداء، وهو مقتبس عن قصّة حقيقية كتبتها مارغوت لي شيتيرلي، ابنة أحد العلماء السود الأوائل في وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، التي اكتشفت أثناء بحثها في أوراق والدها، وثيقة تُظهر وجود نشاط مُكثّف لمجموعة من النساء السود، اللواتي كُلّفن إجراء الحسابات الرياضيّة المعقّدة “ككمبيوترات بشريّة” ضمن برنامج الفضاء الأمريكي، وذلك قبيل الدخول في عصر التقنية. كما يبرز فِلم “مستر تشرش” (سيد تشرش) لإيدي مورفي، الذي تميّز بأداء مهمّ تحدث عنه النقُّاد السينمائيـون، فضلاً عن فِلم “كوين أوف كاتــووي” (ملكة كاتووي) ويتناول موضوع فتاة أوغندية فقيرة أذهلت العالــم بعبقريتها في لعبة الشطرنج.

السود في عيون البيض سينمائياً
تعيدنا الأفلام الأفرو- أمريكية بغالبيتها إلى تاريخٍ من المُمارسات العنصرية بحق السود، صوّرهم الأبيض في الماضي على هيئة وحوش، كما ظهروا في فِلم “مولد أمّة” الذي تمّ عرضه سنة 1915، أو على هيئة حيوانات ومجرمين، أو حتى من دون ملامح في بعض الأفلام، بعد أن غطّوا وجوههم حتى لا يظهر لونهم الأسود. لكنّ صورة الإنسان الأسود في الأفلام الأمريكية شهدت تحوّلاً جذرياً في العقود الأربعة الماضية، وتحديداً مع انطلاقة مسلسل “جذور” عام 1977م الذي وصل عدد متابعيه إلى أكثر من 30 مليون مُشاهد أثناء عرضه، وكان ثالث أكثر البرامج مشاهدة في تاريخ التلفزيون الأمريكي. لقد حوّل السود أنفسهم في ملحمة العائلة الأمريكية هذه إلى قوّة مؤثّرة، وهم ذهبوا إلى إفريقيا وفتّشوا عن جذورهم وروابطهم.

الرجل الأسود في البيت الأبيض
ارتقت السينما الخاصّة بالسود مع الترقّي الاجتماعي الذي حقّقته هذه الطبقة أيضاً، وتحديداً منذ عام 1968م، إذ تحوّلوا من فئات مسحوقة إلى طبقات متوسّطة وأحياناً عُليا، إلى أن وصل الرجل الأسود إلى البيت الأبيض قبل سنوات، حيث شهدت الإنتاجات السينمائية الخاصّة بالأفارقة الأمريكيين انعطافة مهمة، ظهرت نتائجها جليّة في العامين الأخيرين، لجهة كمّية الأفلام الغزيرة ونوعيّتها الجيدة. لقد طرحت هذه الأفلام بقوّة الفنّ وتأثيره الذي يفوق تأثير السياسة بالفنون في تلك البلدان، لكونه انعكاساً لأمزجة الناس ونظرتهم للآخر، هموم السود والعنف المعنوي والاجتماعي الذي تعرّضوا له، وهي لم تكتفِ بعرض مظلوميّتهم فقط، وإنّما أثارت أشكالاً عدّة من مقاومتهم، عبر المحاكم والصحافة والرأي العام الأمريكي أحياناً.

الخروج من الغيتوات العنصرية
يؤكد الكاتب والمُتخصّص في شؤون السينما إبراهيم العريس، أنه لطالما كانت هناك أفلام أمريكية عن السود، لكن في الفترة الأخيرة وبعد أن أصبحت أفلام السود مربحة، ارتفع عدد الإنتاجات السينمائية بشكل ملحوظ. في البداية، كان المُتفرّج على الفِلم الأسود هو الزبون الأبيض، لكن مع حركة أفلام الأكشن دخل المتفرّجون السود إلى صالات السينما، وخصوصاً بعد أن أصبحوا من الطبقات الاجتماعية الوسطى والعليا أحياناً. وقد طالت التحوّلات بدورها أدوار الممثّلين أيضاً. إذ لطالما كان الأسود في الأفلام هو الشخص الطيّب والمُسالم، ثم أصبح الشرير جداً، ثم انخرط في الأدوار كلها، أي أصبح يقوم بدور الطيب والشرير والعاشق والإنسان العادي، بمعنى أنه تكافأ مع الأبيض في نواحي الحياة كلها.
لقد كان البطل في أول فِلم ناطق بتاريخ السينما شخصاً أسود، وذلك في فِلم “مُغنّي الجاز”، لم يعطوا فيه الدور إلى ممثل أسود وإنما إلى ممثل أبيض غطّوا وجهه بالأسود. كما أن فِلم “هلّلويا” وهو أول فِلم تم إنتاجه بمشاركة ممثّلين سود عام 1927م أحدث صدمة أيضاً لدى المواطن الأمريكي، لأنه رأى الأفارقة في الأفلام لأوّل مرّة. وكان قد سبقه فِلم “مولد أمّة” سنة 1915 الذي ظهر فيه السود على صورة وحوش، وحظي بإشادة من المنتمين إلى اليمين المتطرّف الذين مجّدوا الفِلم، وحصلت حينها مظاهرات احتجاجية في الشوارع شارك فيها مواطنون بيض جنباً إلى جنب مع السود.

المُشاكسة كانت مع سبايك لي، الذي أخرج فِلم “مالكوم إكس” العنيف، الذي وضع أفلامه مقابل أفلام البيض، أي مقابل العنصرية البيضاء عنصرية سوداء

وأحدث المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ نقلة نوعية في فنّ السينما الخاصّة بالأفارقة الأمريكيين بفِلمه “اللّون القرمزي”، الذي أخرجه عام 1985م وكانت بطلته أوبرا وينفري وركّز فيه على قصّة عائلة من أصول إفريقية، ومن بعده فِلم “أمستاد”، وهي أفلام أعطت طابعاً عاديّاً للإنسان الأسود. منذ ذلك الحين، بدأت موجة الأفلام السوداء ولكن المشاكسة مع سبايك لي، الذي أخرج فِلم “مالكوم إكس” العنيف، وهو وضع أفلامه مقابل أفلام البيض، أي مقابل العنصرية البيضاء عنصرية سوداء. وراح المخرجون يفتّشون عن أفلام تتعلّق بالسود ولكن من منطلق العصابات والمافيات، ومع بدء حضور الزبون الأسود المحترم، بدأت الأفلام تأخذ طابعاً اجتماعياً، وأصبح من الممكن أن يكون عاشقاً أو عاملاً أو شرطياً أو غير ذلك.
من الواضح أن العقلية الأمريكية خرجت من الغيتوات العنصرية، وخصوصاً مع مجيء الرئيس الأمريكي أوباما. لكن قبل سنتين، بدا وكأنّ هذه الأفلام قد استُهلكت ونفدت وتراجعت نسبة إنتاجها، إلى أن اصطدمت هوليوود بعدم وجود فِلم أسود واحد بمستوى الترشيح، من هنا جاءت إعادة التفكير بإنتاجات نوعية وغزيرة. وها نحن نشهد اليوم طفرة في هذه الأفلام، يقول العريس، وطفرة في الترشيحات، ولأوّل مرّة منذ 40 سنة يفوز مخرج أسود هو بيري جينكنز صاحب فِلم “مونلايت”. أعتقد أن هذه الطفرة تعود لأحد الأسباب الثلاثة، إمّا التعويض عن غياب أفلام السود في العام الماضي، أو أنها صدفة، أو أن الترشيحات كلها جاءت نكاية بالرئيس الأمريكي ترامب.

“أزمة سيناريوهات عميقة”
في هذا الإطار، يقول الكاتب والناقد السينمائي هوفيك حباشيان، “ثمّة محطّات عدّة في تاريخ السينما الأفرو- أمريكية، إذا صحّت تسميتها كذلك. فقد كانت مرحلة منتصف الثمانينيّات مهمّة وحاسمة في صعود تلك السينما، فبرز آنذاك مُخرجون شباب حملوا قضيتهم إلى الجمهور العريض داخل أمريكا وخارجها، مثل سبايك لي الذي أنجز فِلماً مهماً عن المناضل مالكوم إكس. إذاً، لا أعتقد أن وصول أوباما كان له أي علاقة بالموضوع. أما الرغبة المفترضة في الاعتذار، فسبق أن حصلت على أيدي سينمائيين غير أفارقة، ونتذكر مثلاً فِلمين لستيفن سبيلبرغ، هما “اللون البنفسجي” و”أميستاد”. هذا كلّه ليس جديداً، حتى لو اتّفقت معك على أنّه في العام الماضي أدّى ظهور بضعة أفلام عن السود إلى تراكم كمّي ونوعي جديد، وأتى هذا في مناخ مُلائم يريد إعطاء مساحة أكبر لهؤلاء، وخصوصاً بعد الجدل حول الـ”أوسكار”، التي اعتبرت أنّها تهمّش بعض الفئات مثل الأفارقة ولا تلتفت إلى تجاربهم”.

لا مكان في العالم إلَّا ويوجد فيه السود، إنّهم في كلّ مكان يا بُنيّ، لكن في مرحلة ما أنت ستُقرّر ما هو لونك، ولا أحد يستطيع أن يقرّر بالنيابة عنك

ويضيف: “لذا أرى أنّ الظاهرة إعلامية وترويجيّة في المقام الأول، أكثر من كونها فنّية، وحتماً لا تؤسّس لقواعد بصرية أو أنماط سرديّة جديدة ومختلفة. هي فقط موجة تركَبُها السينما الأمريكية في زمن تُعاني فيه من أزمة سيناريوهات عميقة، فتلجأ إلى بيئات لم تُستغلّ سينمائياً بالشكل الكافي، لعلّها تجد فيها قصصاً قابلة للاستهلاك. وطبعاً، يجب أن نُفرّق دائماً بين أفلام عن السود يصنعها البيض، وأفلام يصنعها السود عن أنفسهم. أعتقد أنّ التغيير الذي بدأ يحصل في الفترة الأخيرة، هو ظهور الشخصية السوداء وطرحها من خارج الإطار النمطي المعهود، كما الحال في “مونلايت”، فهناك محو كامل لكل الكليشيات، أو مثل “ولادة أمّة” حيث الأسود هنا يقف على الجانب الآخر من التاريخ ليقول لنا كيف كانت صورته في الفِلم نفسه قبل 100 عام (نسخة 1915)، وكيف أصبحت الآن في ظلّ الخوف على الأقلّيات العرقية.”
المسألة بحاجة إلى دراسة لمعرفة الأسباب الفعلية، يقول حباشيان، لكن باختصار فإنّ الأفارقة الأمريكيين كانوا دائماً حاضرين في المشهد السينمائي الأمريكي منذ بدايات السينما، ولكن أدوارهم ووظائفهم واستخداماتهم، سواء خلف الشاشة أو قبالتها، تبدّلت مع تبدّل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرّت بها السينما الأمريكية.

هوليوود من الصدمة إلى الاعتراف
في الواقع، مرّت هوليوود بمراحل أساسية في تاريخها السينمائي، مرحلة الصدمة التي بدأت مع إشراك الأفارقة الأمريكيين وظهورهم في الأفلام، ثم المرحلة التي شهدت موسيقى الجاز وأصبحت هي الموسيقى القومية في أمريكا، وبعدها انتقل المُمثّل الأسود إلى دور الشخص الطيّب مثل الخادمة في فِلم “ذهب مع الريح”. ثم دخلت هوليوود مرحلة جديدة ومختلفة كلّياً مع مارتن سكورسيزي وآخرين، حيث لم يعد هناك تابوهات على السود، وأصبحوا مُخرجين ومُمثّلين ومُنتجين. المرحلة الأخيرة جاءت مع عصر أوباما التي لم تعد فيها القضية تتعلّق بالأبيض والأسود، بل أصبحت موضوعاً فقط. ونحن الآن في مرحلة تعويد الناس على أن صاحب البشرة السوداء هو كغيره، ليس طيباً جداً ولا سيئاً جداً، وليس عنده أي استثناء، وقد استغل السود الفرصة المؤاتية لإبراز موضوعاتهم وهمومهم التي قد تكون أحد أولوياتها العودة إلى تاريخهم القاسي.
في إطار قبول التنوّع في معقل السينما الهوليوودية، لا بدّ من الإشارة إلى أن خير من أوصل رسالة واضحة ضدّ العنصرية الدينية أيضاً هو البريطاني من أصل سويدي أورلاندو فون إنزدل، الذي فاز بأوسكار أفضل فِلم توثيقي قصير عن شريطه “الخوذات البيض”، وهو استهل خطابه للاستشهاد بآية كريمة قال إنّها تمجّد قيم التسامح: “مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً” (سورة المائدة آية 32). كما تألَّق الممثّل “ديف باتيل” في فِلم “ليون” في دور الشاب الذي يبحثُ عن أصوله الهندية، مُسلطاً الضوء على ظاهرة اختطاف الأولاد المرعبة التي يذهب ضحيتها 80 ألف طفل سنوياً في الهند.

 

أضف تعليق

التعليقات