يحتل جبل هوكوزاي في تاريخ الرسم الياباني مكانة تعادل مكانة الواسطي في رسم المنمنمات الإسلامية، ومكانة ليوناردو دافنشي في تاريخ الرسم الأوروبي، فهو أكبر أساتذة القرن التاسع عشر في اليابان، وهو الأول الذي خرجت أعماله إلى العالمية وأثَّرت في فنون الثقافات الأخرى.
ولد هوكوزاي كاتشوسيكا عام 1760م، وبدأ فن الرسم باكراً جداً، ولكن أفضل أعماله هي تلك التي أنجزها عندما كان في الستينيات من عمره. فطوَّر فن الرسم الياباني الذي كان يقتصر عملياً على رسم الصور الشخصية وصور الممثلين، بأن أضاف إليه رسم المناظر الطبيعية والحيوانات والحوادث المختلفة. وغالباً، كان فنه يتخذ شكل الرسوم المعدَّة للطباعة. ومن أضخم أعماله كتاب «هوكوزاي مانغا» الذي صدر عام 1840م، والمؤلَّف من 15 مجلداً، تضم أربعة آلاف رسم لحيوانات وأناس وأشياء. أما أشهر أعماله على الإطلاق، فهي المسماة «ستة وثلاثون مشهداً لجبل فوجي» التي رسمها بين العامين 1826 و1833م وكانت وراء شهرته العالمية.
جبل فوجي
خلال العام الماضي 2013م، وضعت منظمة اليونيسكو جبل فوجي على لائحة التراث العالمي. وما فاجأ المراقبين آنذاك هو أن اليونيسكو اختارت قائمة المواقع الثقافية وليس الطبيعية لتضع جبل فوجي عليها. وعللت الأمر بالقول إنه إضافة إلى المواقع التاريخية والدينية القائمة على هذا الجبل، فإن له تأثيراً كبيراً على تاريخ الفن وإلهام الفنانين.
يقع جبل فوجي، أو كما يسميه البعض «فوجياما»، في جزيرة هونشو اليابانية قريباً من شاطئ المحيط الهادئ، وعلى مسافة 100 كيلومتر تقريباً من طوكيو. وعندما يكون الطقس صحواً، فيمكن مشاهدته بوضوح من هناك. وهذا الجبل عبارة عن بركان خامد حالياً (آخر ثوران له يعود إلى العامين 1707 و1708م)، ويبلغ ارتفاعه 3776 متراً. ولذا، من الطبيعي أن تكون الثلوج التي تكلل قمته على مدار السنة معلماً من معالمه الجمالية.
ليس جمال الجبل وحده هو ما جذب هوكوزاي إليه، ليرسمه في المرة الأولى في 36 لوحة، وفي المرة الثانية في 100 لوحة، بعد اكتمال مجموعته الأولى بسنة واحدة. فمن جهة، عرفت اليابان آنذاك بداية طفرة في السفر والسياحة. ومن جهة أخرى، كان الفنان شغوفاً بهذا الجبل لدوافع شخصية وثقافية، لأن المعتقدات المحلية كانت تربط هذا الجبل منذ القرن العاشر الميلادي بمفهوم الخلود.
تشكلت مجموعة الرسوم هذه من مواضيع مختلفة تظهر جوانب متنوعة من الجبل ومحيطه، وأحياناً بعض المواضيع التي لا تمت إلى الجبل بصلة، غير ظهوره في خلفيتها. وأشهر هذه اللوحات، التي لا تزال شعبيتها العالمية تنمو أكثر فأكثر حتى يومنا هذا، هي «الموجة الكبيرة في كاناغوا».
في هذه اللوحة، نرى زورقين تتقاذفهما الأمواج العاتية، وفي الأفق يبدو الجبل قزماً مقارنة بهما، وبخطوط وألوان في غاية البساطة، تمكن الفنان من تصوير المصير الذي يواجهه البحارة في الزورقين. فالموجة الكبرى التي ترتفع إلى أعلى اللوحة، هي على وشك الإطباق على الزورق. والزبد الأبيض الذي يعلوها مرسوم كما لو كان أظافر ستقبض على أرواح البحَّارة.
أثرها العالمي
تزامن ظهور هذه الرسوم في شكلها المطبوع مع تطور المواصلات وتسارع وتيرة التجارة العالمية فكان من الطبيعي أن تصل في فترة وجيزة إلى أوروبا، حيث كان وقعها مدوياً.
انتشرت في باريس ولندن وروما حمَّى جمع الرسوم اليابانية وخاصة في صفوف الفنانين والمثقفين، حتى أصبح الأمر أشبه بلازمة، لا يمكن للمتعاطين بالفن الاستغناء عنها. ولأن كثيراً من هذه الرسوم وقع في أيدي فنانين كانوا يبحثون عن لغة تعبيرية جديدة، مثل كلود مونيه، تحوَّلت هذه الرسوم إلى مصدر إلهام مهَّد الطريق إلى ظهور الانطباعية، عبر رسم المكان الواحد بتفعيلات لونية وضوئية مختلفة. وهذا ما أقرَّ به الانطباعيون أنفسهم بإجماعهم على الاعتراف بما لهذه الرسوم من فضل عليهم.