عندما يعود الزمن بي للوراء، إلى أجواء كتابة أو تدوين (تهافت النهار)، أشعر برجفة حقيقية وحيرة بالغة، وتساؤل مربك، هل كتبت هذه القصيدة أم كتبتني؟
المفارقة هنا أن كل حرف من حروف القصيدة، وكل كلمة، وكل مقطع، من مقاطعها، أحس به وألمسه بل وأكاد أشم رائحته. بل أرى إيقاعها يتراقص أمام بصري وداخل جسدي في عُرْسٍ بدوي مجنون ومحموم، وكأن هذه القصيدة قُدَّت من لحمي، أو كتبت بدمي.
لهذا كنت وما زلت حائراً إزاءها، هل هي أنا كما أرادت أبجدية الإيقاع أن أكون مسفوحاً على الورق، أم أنا هو الذي استحال إلى لغة وإيقاع؟
البداية كانت في محاولة كتابة نص يستطيع المعادلة بين اليومي و المتخيل، بين هاشم الحياة وهاشم القصيدة والحلم، بين الشعرية كما أحب والتدافع الشعري كما يفترض أن يكون.
منذ أن هطل مطلعها: (في مساء قديم…….) وأنا أنهمر وأتدفق وأسيل على بياض الورق وفضاء الكلام، في اندياح حقيقي.. مرت ليال عدة قبل أن أعود إلى مراجعة ما كتبته، فوجدت عدة مفارقات:
أولاً: هاهنا أجسِّد نفسي.
ثانياً: الصعاليك قناعي.
أخيراً: الميم هي القافية المرتحلة والمقيمة.
تحت هذه الشروط الثلاثة أعدت تسويد ما دوَّنت سابقاً، وحذف ما لا يتسق مع هذه الاشتراطات، أو يكرِّر أو يبسط حالات النص التي تم القبض عليها، في مقاطع سابقة ولكن هل أسفح روحي على الورق الآن؟ هل أرثي زمناً راحلاً، وأقف على شواهد الأمس، متأملاً الماضي الذي اندثر؟ أم هنا محايد يصوِّر المشهد كما يراه من بعيد وليس طرفاً في معادلة سوى معادلة البقاء؟
بين هذا وذاك اختارت القصيدة مصائرها وخرجت بحلتها الأخيرة، كنت لا أريد أن أُقحم الذاتي في المتخيل الذي يعيش أقصى حالات عنفوانه كنت أريد أن يحافظ فضاء القصيدة على مداره الأول.. ولكنها عصتني وطرحت خيارتها التي تشكلت أخيراً، هي رحلة بين العرصات والمدينة، بين الصعلوك والمثقف المحتشد بخياراته الحادة ومواقفه العضوية بين الجيم والجيم. كانت لحظات الشعر تتراوح بين فضاء الشاعر وأفق القصيدة وبين هذين القطبين كانت (تهافت النهار) تتناسل كالماء، وأنا هي ووجودها شرط أساس لوجودي بعد كتابة القصيدة أو تدوينها.
مررت بحالة استسلام غريب إلى حد أنني آمنت بأنني لن أكتب بعدها حرفاً واحداً. لقد قلت شهادتي ونثرت وصيتي وكتبت نشيدي فماذا بعد ماذا سوف تراني، سوف أكتب بعد الوصول إلى هذه الآفاق. أنا ابن الدهشة الأولى دائماً وأسير الإيقاع. وجاء من المحبين والأقربين والبعيدين مؤكداً لذلك، ومعززاً لمفارقة القصيدة. إذاً كل شيء بعد هذا لم يعد مهماً وكدت أتورط في هذا النفق لولا قصيدة (معلقة المرأة) التي جاءت استكمالاً لوجع (تهافت النهار) بشكل أو بآخر.
تَهَافتُ النَّهَار
فِي مَسَاءٍ قَدِيمْ
بَيْنَ جِيْمَيْنِ مِنْ جَنَّةٍ وجَحِيمْ
مادَتِ الأرضُ بِي
فتَهَاوَيْتُ فِي الماءِ
بَعْضِي يُرَمِّمُ بَعْضِي الرَّمِيمْ
شِبْهُ مُنْدَثرٍ
لَمْ يُدَثّرْ دَمِي غَيْر هذَا العذَابِ العَمِيمْ
الذِي يَمْلأ القلبَ والطرقاتِ
ويُسْلِمُنِي للنهارِ الذِي لَمْ يَكُن بالتَّقِي
ولاَ بالنَّقِي
ولاَ بالرَّحِيمْ
وَاحِدٌ
ووَحِيدْ
يَسْتَبِيحُ البَرَارِي
يُنَادِمُ غِرْبَانَهَا
فَنِعْمَ الصَّعَالِيْكُ مِنْ رِفْقَةٍ
ونِعْمَ الرَّدَى مِنْ نَدِيمْ
وَاحِدٌ ووَحِيدْ
هَا أنَا جِئْتُكُم رَاحلاً مِنْ ديَارِي
لأَهْبُطَ فِي وَادِي العَاشِقِيْنَ
وأَتْلُو علَى لَيْلِهِمْ لَعْنَتِي
فَاتَّقُوا لَوعَتِي
أَنَّنِي ذَاهبٌ فِي الغوَايَةِ حتَّى أقَاصِي
السَّدِيمْ
حيثُ لاَ وِجْهَةٌ أَرْتَجِيْهَا
ولا أُمْنَيَاتٌ أُمَنِّي بِهَا الرُّوْحَ
ولا شيءَ يُفْضِي إلِى أيِّ شَيْءٍ
وحيثُ المدينةُ ناَئِيَةٌ
والزمانُ سَقِيمْ
ها أنَا أَهْبِطُ الآنَ فِي وادِي العَاشقيْنَ
وأَرْمِي علَى عَرَصَاتِ الهَوَى
غُرْبَةَ العَاشِقِ المُسْتَهِيمْ
ارْتَجِيْهَا تَجِيءُ
تَهِلُّ على زمانٍ مَالِحٍ
ونَهارٍ أَلِيمْ
فأَطَلَّتْ مُبَرَّأَةٌ مِن عذابَاتِهَا
وأَتَتْنِي منَ الغَيبِ تَغْمرُهَا
فِتْنَةٌ مُرّةٌ
وجَمَالٌ أَثِيمْ
تَهْبِطُ ناصِعَةً مِنْ جَحِيمِ الظَّهِيْرَةِ
والشَّمْسُ
تَسْتَوْطِنُ القَلْبَ
تَجْتاحُنِي بالنَّعِيمِ.. النَّعِيمْ
فكَأَنِّي أَسِيلُ على مِرْفَقَيْهَا
كأَنِّي سَقَطْتُ على صَدْرِهَا مِنْ عَلٍ
مُقْبِلٌ .. مُدْبِرٌ
رَاحِلٌ .. ومُقِيمْ
فرَأَيْتُ الذِي لَمْ أَرَ
ورأَيْتُ النَّدَى
طَالعًا يَتَشَكَّلُ أَسْئلِةً
فِي فضَاءٍ بَهِيمْ
والأرضُ زَرْقاءُ.. زَرقاءُ
والبَحْرُ أَنْقَى
فصَرَخْتُ بِهِمْ:
ها أَنَا دُونَ رَمْضَاءِ وَحْدِي
علَى الرَّمْلِ مُلْقَى
فأيّ الفضَائل للنورِ والنارِ؟
أَيّ مَجْدٍ لِهذَا النَّهَار
أَيّ مَجْدٍ لِهَذْي الظَّهيْرَةِ إِذْ شَمْسُهَا
تَسْتَقِيمْ
أَيُّ مَجْدٍ لَهَا..؟
أَيُّ مَجْدٍ لِهَذَا النَّهَارِ الرَّجِيم
..في سطورولد في قرية ثول البحرية، شمال مدينة جدة .شاعر وإعلامي سعودي، يشغل الآن منصب نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ السعودية التي تصدر في مدينة جدة، بعد أن بدأ العمل بها في عام 1413هـ كمحرر في القسم الثقافي.
له ديوان (دم البيِّنات) عن النادي الأدبي في حائل، وديوان (غزل شمالي) كما شارك في عدة منتديات ثقافية وشعرية ونشر عديداً من الحوارات الثقافية والتغطيات الأدبية والقراءات النقدية. كتب مذكرات المفكر عبد الله القصيمي وسيرة حياة الروائي عبد الرحمن منيف، كما سجل ذكريات الشيخ محمد علوي مالكي، ومذكرات الشاعر محمد العلي، ومذكرات المفكر والروائي تركي الحمد ونشر سلسلة كاملة عن الكتب المحرمة في الثقافة العربية.