هل فقدت الرواية ذلك الزخم الهائل في قراءتها ومتابعتها الذي عايشناه خلال سنوات قليلة مضت؟ هل بدأ قرّاء الرواية بالاندثار رويداً رويداً؟ هل كان الاحتفاء بالرواية مجرد طفرة ومضت في طريقها؟
كثيراً ما تتردَّد هذا الأسئلة قبل وبعد كل معرض كتاب. ويبدو لي أننا لا نستطيع الحديث عن قارئ رواية هكذا دون أن نحاول التفريق بين قارئ وآخر. فهنالك ما يمكن وصفه بقارئ الرواية الكسول وهو الذي يبحث عن رواية سهلة وواضحة الدروب ينشد فيها أحداثاً تشده وتثيره، وهذا النوع من القرّاء يتعامل مع مطالعة الرواية كوسيلة تسلية وتزجية للوقت، ولا لوم عليه. لكننا في الوقت نفسه لا يمكننا أن نعدّه قارئاً مخلصاً ومهتماً بالرواية كفن أدبي. وربما يمكننا تسمية هذا النوع من القرّاء بقارئ ما قبل النوم. ومشكلة هذا القارئ أنه لا يتصالح مع الروايات المتشعبة، ويكره الروايات الرمزية والتجريبية، كما أن الرواية سرعان ما تفقد اهتمام هذا القارئ بها.
ومن أنواع قرّاء الرواية ما يمكن تسميته بالقارئ الطارئ. فهو لا يهتم بقراءة الرواية أساساً، ولكنه عندما يسمع عن رواية أثارت جدلاً معيّناً، أو عن كاتب تعرَّض لحملة منع أو تكفير أو تشهير، فعندها يسأل عن هذه الرواية ويبدأ في البحث عنها، أو يسمع أحياناً حديثاً عابراً عن رواية تمتلئ بالإيحاءات الجنسية أو بالمواقف السياسية الحادة فيهتم بهذه الرواية. والمزعج فيما بعد هو الأحكام التي يطلقها هؤلاء القرّاء على روائي أو رواية.
ومن أنواع قرّاء الرواية أولئك الذين عندما تتحدَّث معهم عن رواية عربية نالت إعجابك، فإنه يرد عليك بقوله إنه لا يطالع الروايات العربية. فهل يمكننا أن نسمِّي هذا القارئ بالمتخصص؟ كمن لا يطالع سوى الروايات العاطفية أو من لا يهتم سوى بالأعمال التاريخية أو السياسية أو من يرفض مطالعة رواية بحجة أنها قديمة، وهناك من يقومون بعكس ذلك، أي يتوقفون عند الأعمال الروائية القديمة ويصمون أي رواية حديثة بالضعف دون أن يطالعونها أساساً.
كل هذه النوعيات من قرَّاء الرواية سرعان ما يتم فقدهم. وهم جزء من الطفرة التي تحدث بين فترة وأخرى وسرعان ما تعود الأمور إلى سياقها الطبيعي، ولا يتبقى لكل فن إلا مريده المخلص له والمهتم به. فالقارئ المخلص هو الذي يبحث ويهتم بالرواية الجيدة أياً
كان كاتبها.
إنه القارئ الذي يمتلك الصبر للبحث عن مفتاح رواية تبدو للوهلة الأولى مغلقة، ولديه الدربة والمهارة لاكتشاف مواطن الجمال، وهو قارئ خبير لديه القدرة على التقاط تلك العلاقة الشفَّافة بين رواية وأخرى، ولديه القدرة على التفريق بين مستويات اللغة، وتشدّه تقنيات السرد، يصاحب أبطال الرواية التي يقرأها، ويتنفس هواء وطرقات الأمكنة، فتبدو له الرواية التي يطالعها وكأنها حياة أخرى يحياها. هذا النوع من القرّاء هو النوع الباقي دائماً عندما تنقشع طفرة لها أسبابها غير الأدبية، ففي النهاية لا يندثر قرّاء الرواية، لكن المصفاة تصفي قرّاء المناسبة أو الطفرة أو الشهرة المفتعلة وتبقي على القارئ الحقيقي فقط.