محترف الفنان التشكيلي السعودي الشاب فهد النعيمة غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها ثلاثين متراً مربعاً، وهي أكبر مساحة استطاع تخصيصها من شقته المكونة من أربع حجرات ومرسم، تتسع لعائلته الصغيرة وفنه، وزواره من أصدقاء، وفنانين ومحبين. عند الدخول إليه والجلوس للحظات تتكثف الأفكار داخل رأسك، وتتساءل: لماذا تدفعنا بعض الأماكن إلى التفكير كثيراً فيما يميزها؟ ما الذي يجعلها أكثر دفئاً، وبهجةً؟ لماذا نميل إلى أن نطيل الجلوس في مكانٍ بسيط أقرب إلى الضيق لكننا مع ذلك لا نشعر بمحدودية حيزه؟ لماذا نحس بمثل هذه الراحة و بشيء من الانشراح؟
مرسمٌ متعدد الوظائف
الحيطان بلون الصحراء وأفتح قليلاً، تشي بسر رجلٍ اعتاد في طفولته الانطلاق دون حدود متحداً مع المدى في قريته الصغيرة قرب الرياض. المرسم مملوء عن آخره بلوحاتٍ مبعثرة بشكل شبه فوضوي حتى في أشد حالاته ترتيباً. وأرفف الكتب المصفوفة، كما الكتب المتناثرة تنتظم في فوضى خلاقة في أرجاء المرسم، وبتوزيع ينم عن فنانٍ مثقف، ينقل وقته بعدلٍ بين دفتي كتابٍ ومساحةٍ بيضاء للوحة. وبين هذا وذاك تلمح الأدوات الفنية موزعة بتدبير وبعناية، ومخزنة بشكلٍ منسقٍ جميل في جانبٍ قصي. وعلى كل ذلك تلقي الشمس أشعتها في النهار من نافذةٍ كبيرة تواجه الباب، وتعكس منظراً لشارعٍ في الرياض ليلاً.
يقول فهد النعيمة «تنقلت بين عدة مراسم عندما كنت ما أزال طالباً، فكان لدي مرسمٌ صغير ومتواضع في منزل العائلة. بعدها، نقلت مرسمي إلى مكانٍ صغير استأجرته لعدة سنوات. وأخيراً استقريت في مرسمي هذا داخل منزلي. لم أحدِّد مكان المرسم مباشرةً، فضَّلت أن أمضي بعض الوقت، لأعتاد على المنزل، وأعتاد على حجرة بعينها أشعر بالراحة فيها، ثم تحوَّلت لتصبح مرسمي ببساطة».
بالنسبة للنعيمة المرسم ليس مجرد مكان يقوم فيه برسم لوحاته، وتنفيذ مشروعاته الفنية، ولكنه أيضاً المكان الذي يستقبل فيه كثيراً من الزوار أهلاً وأصدقاءً، حيث يجلسون معه لساعات، يحدثهم، و يرسم أثناء جلوسهم إليه، أو يمضي وقته في المرسم مع طفليه الصغيرين خلال النهار. وهو أيضاً يضم مكتبة يقتني فيها الكتب التي تلهمه، فهو قارئٌ نهمٌ يقرأ على وجه الخصوص الروايات، والكتب التي تتعرض لتاريخ الفن، والفن التشكيلي.
يشير فهد إلى الركن القصي، ويقول «كل شيء هنا بسيط، أدواتي بسيطة، هي فراشي الرسم، والكانفاس، والورق، والألون الألكريك. هذه المواد الفنية احترافية، ووجودها محصور بأماكن محدودة. في الوقت نفسه، فإن العمل على مشروع ما قد يستهلك كثيراً من المواد، ما يجعلني دائماً بحاجة للتسوق وتخزين ما أستطيع تخزينه من هذه الأدوات الأساسية والمواد، فوجودها لدي داخل المرسم يجعلني أشعر بالراحة، ولا يضطرني لقطع العمل فجأة».
روتين النعيمة اليومي بسيط، فهو يذهب صباحاً إلى وظيفته، كأي موظفٍ عادي، ويعود بعدها إلى منزله ليقضي وقته مع عائلته وأطفاله، ومرسمه. فهو يمضي هناك وقتاً طويلاً، لا يذهب جله في تنفيذ الأعمال الفنية بطبيعة الحال…
يثير هذا الروتين بعض الشجون في نفس النعيمة، الذي يعمل موظفاً في شركة الاتصالات السعودية، فيأوي إلى محترفه بعد يوم العمل مستجماً. فهو لا يخفي حقيقة كونه يتمنى التفرغ للفن تماماً، إذ إن الوظيفة ترهقه كفنان، وكما يقول باللهجة الدارجة في المملكة «صاحب بالين كذّاب». ومما يعمق هذه الرغبة في نفسه توقه لمنح مزيد من الوقت للتركيز على موهبته الفنية، فهو كما يقول هاوٍ تحوَّل إلى محترف بفضل جهوده الخاصة وموهبته، ولم يتسنّ له دراسة الفن التشكيلي. ويتمنى النعيمة أن يحقق ذلك ليعوض عن عدم دراسته، ويدعم موهبته أكثر، فيقول «لا شكّ أن الموهبة ضرورية، والدراسة عندما تدعم الموهبة فإنها تقود إلى نتائج باهرة. لذا تمنيت لو أنني درست الفن التشكيلي، وما أعاقني هو أنه لم تكن في منطقتي كلية متخصصة أو معهد. وفي الوقت نفسه أنا مضطر للعمل، وهو ما منعني من السفر».
الفن يأخذ مجراه
لا وقت محدَّد، ولا زمن يجب الالتزام به في المرسم. اللوحة تصنع نفسها بنفسها، والعملية الفنية تأخذ مجراها كما تشاء. وما فهد إلا عنصر من هذه العملية المتناغمة والمتجانسة. إنه يجاري الفكرة، والإلهام، واللون والفرشاة، يؤثر ويتأثر، ولا يملك تحديد وقتٍ أو أن يخنق الجو الإبداعي وطقوسه بجدولٍ رتيب.
يقول: «في أحيانٍ كثيرة أعمل على رسم أكثر من لوحة في الوقت نفسه، وهذا ما يمنحني قدرة على تطوير التقنية، وتلافي بعض النتائج غير المشجعة من خلال التجريب والممارسة. وفي معظم الأحوال، أخرج بنتائج جديدة».
وعندما يبدأ النعيمة بتنفيذ عملٍ ما لا تكون فكرته ماثلة على الفور في ذهنه، وبمعنى آخر فإنه لا يتصورها بشكلٍ كامل قبل البدء. وفي أحيانٍ كثيرة، يبدأ بسكب اللون على لوحة بيضاء، ومن هناك تبدأ الأحداث بالتسلسل، إنه يرتجل، وينجرف مع تيارٍ يأخذه ويأخذ اللوحة في مجراه لتكون كما ستكون.
وفي بعض الأحيان يتطلب رسم لوحة واحدة عدة سنوات، حيث يبدأ ثم يترك اللوحة وينصرف عنها إلى مشاريع فنية أخرى، أو أسفار، أو مشاغل ليتذكرها بعد مدة تطول أو تقصر. وأحياناً، ينهي لوحته في شهرٍ واحد، فالزمن لا يحد إبداعه كفنان، ولا يعنيه في شيء سوى أن تكون اللوحة مكتملة كما يراها.حتى فكرة إقامة معرض لا تأتي بشكل مسبق. إنها تحتاج إلى بعض المكابدة والصوغ الماهر، ولا تأتي بشكلٍ مباشر أبداً.
لا للوصاية على الفن!
كفنان يرفض أن يحد إبداعه حدود. وله رؤيته الخاصة فيما يتعلق بنظرة المتلقي للوحاته، وهي تبدأ من مرسمه الذي اعتاد أن يؤمه الزوار بشكل دائمٍ لا ينقطع لمشاهدة اللوحات في مجراها ومسارها إلى الاكتمال. إنه يرفض الوصاية على المتلقي، ويترك له حريته الكاملة. وفي هذا الصدد يقول «لا أطلق على لوحاتي أسماء. أكتفي فقط بتوقيعها وينتهي الأمر بالنسبة لي. هكذا ببساطة يعلن التوقيع انتهائي من اللوحة. وعلى الرغم من أنني لم أفكر في ذلك سابقاً، ولكنني أعتقد أن فرض اسمٍ ما على اللوحة قد يحمل في طياته نوعاً من الوصاية والتوجيه على نظرة المتلقي لها، وهذا أمر لا أريده ولا أقصده».
النعيمة يحب لوحاته كثيراً ويمكن ملاحظة ذلك برؤيتها مكرمة جداً في أرجاء محترفه. لكنه أيضاً يبيع عديداً منها. فهو لا يتعمَّد رفع أسعارها مثلاً حتى يحتفظ بها. بالنسبة إليه، فإن إعجاب المتلقي ورغبته في اقتناء اللوحة هو أمر مبهج ودليل على أنه مؤهل ليحتفظ بها، لذا لا يبالغ في تسعيرها، ويسعد باقتناء الناس لها، وأحياناً يقوم بإهداء بعضها لزوار مرسمه من الأصدقاء والأهل حين يلمح نوعاً من الاهتمام والإعجاب بها أو حتى ما يسميه نوعاً من التواصل مع العمل الفني والفهم العميق له. وهذا لا يعني أنه يفرِّط في لوحاته كما يقول، حيث يضطر بعض الفنانين لذلك أحياناً تحت ضغط الحاجة المادية.
علاقات النعيمة بالوسط الفني التشكيلي في المملكة محدودة كما يقول. ربما بحكم أعباء الوظيفة التي تشغله، ودخوله إلى مضمار الفن التشكيلي من باب الموهبة التي نمَّاها بالاعتماد على نفسه. لكن هذا لم يمنعه من أن يكون لديه بعض الأصدقاء المقربين من الفنانين التشكيليين، وربما لا يتعدى عددهم عدد أصابع اليد.
زيارة مراسم الفنانين هي عادة دائمة لدى أي فنان تشكيلي. لكن دخول الفنان إلى مرسم فنانٍ آخر ليس بالبساطة نفسها التي نتقبل بها الزوار العاديين كما يخبرنا النعيمة. فعديد من الفنانين يصعب عليهم تقبل النقد الفني مثلاً. لذا، قد تدخل إلى محترف أحدهم فتجده أزاح لوحاته جانباً حتى لا يراها فنانٌ آخر ربما كي لا ينقده، أو لا يسطو على فكرته، فتجد الزيارة تقتصر على الجلوس وشرب الشاي بين فُرش التلوين، وقناني الألوان. يقول النعيمة «بالنسبة لي، فإني أتقبل النقد إلى حدٍ ما. وفي أحيانٍ كثيرة أستقبل ضيفي وأتحدث إليه بينما أكمل لوحةً أو أعمل عليها».
الموروث الشعبي ولون الصحراء
استجلاب الإلهام هو جزءٌ مهم من طقوس النعيمة اليومية في محترفه. يجلس هناك، لكن ذهنه يذهب بعيداً إلى تخوم ذاكرة الطفولة. فهو يستلهم أفكاره، ولوحاته من الموروث الشعبي، والأحداث اليومية المعاشة، وما يدور في العالم من حوله. ويقول: «بحكم انتمائي إلى بيئة قبلية وقروية في منطقة قريبة من مدينة الرياض، تأثرت كثيراً بمشاهد البيئة الأولى، وطبعت آثارها عميقاً على رؤيتي وذاكرتي وتشكيلي النفسي كفنان منذ الصغر، حين كنت أزور مزرعة العائلة مع جدي وجدتي، وأشاهد وأشارك في حلب الأغنام، والعناية بالنخيل، والأشجار، وما إلى ذلك من تفاصيل يومٍ قروي جميل.. هذه النشأة منحتني طفولةً غنية غذَّت على مدى سنوات ولا تزال تغذِّي إلهامي كفنان».
في بداياته الفنية، كان النعيمة يرسم بورتريهات وأشخاصاً غالباً ما يكونون من الزوار والأصدقاء والأقارب، أو مواضيع من الموروث السعودي النجدي، الخيول والإبل وتفاصيل الحياة القروية.. وكان اتجاهه واقعياً بحتاً. وعن هذا يقول: «كنت أنقل ما أراه. وعملت على هذا الاتجاه لتطوير قدراتي، وعمقته من خلال زيارة المعارض، ومشاهدة أعمال فنية متميزة لفنانين كبار عرب أو حتى عالميين. بعد ذلك، تطورت إلى ما يسمى الواقعية التعبيرية، ومنها إلى التعبيرية، وخلال السنوات الأخيرة أصبح اتجاهي تجريدياً. لا شكّ أنني أعود إلى الواقعية أحياناً، لكنني أعبر منها دائماً إلى التجريد من خلال الموروث، وما أشاهده».
أما ما يجعل عمله أصيلاً، ويسمه ببصمة وأسلوبٍ خاص يمنحه فرادة خالصة ويتوجه فناناً مستقل التوجه والتجربة، فهو اللون. فاللون بالنسبة له هو العنصر الأساس في لوحاته، جنباً إلى جنب مع عنصر الخط العربي. حيث يميل كثيراً إلى عنصر الخط في اللوحات. وتكمن أيضاً خصوصيته كفنان في ضربات فرشاة الرسم، حيث استطاع أن يصل إلى أسلوب مميز يمنحه أصالةً وفرادة تميَز أعماله بشهادة النقاد. يؤكد النعيمة على إدراكه لتلك السمات من خلال حديثه عن اللون: «لوني كفنان، ولوني كإنسان هو لون الصحراء. ألوان الأحمر، والترابي، والرمادي هي الألوان التي ألفتها في طفولتي، وشكلت جزءاً كبيراً من تكويني بحكم بيئتي، وهي بلا شك ألواني المفضلة».
الفن التشكيلي يغزو بيوت السعوديين
كيف يرى النعيمة الحركة الفنية في المملكة؟ سؤال لا بد من التعريج عليه أثناء زيارة مرسمه المبهج. يعتقد النعيمة أنها بدأت تنضج كثيراً في بحر سنوات قليلة. وبحسب ما يرى، فإن الرواد الأوائل من الفنانين التشكيليين في المملكة اضطروا في بداياتهم إلى الاعتماد على أنفسهم كثيراً في كل ما يتعلق بفنهم. ويقصد بذلك ناحية تسويق العمل، وتأطيره، والإعداد للمعارض، وغير ذلك.. أما الآن فإن نشاط الصالات الفنية هو أمر محمود برأيه حيث تقوم الصالة بإبرام عقد مع فنان، وتزيح عن كاهله كثيراً من الأعباء التي قد تشغله عن التركيز في تجربته ومشواره الفني. كما أنها تقوم برعايته وتطويره من الناحية الفنية، فيتمكن بذلك من صب كل اهتمامه وصرف وقته بالكامل على لوحاته أكثر من أي شيء آخر.
في هذا السياق، ليس لدى النعيمة أي اعتراض طالما أن الصالة نشطة، وتدعم الفنان حقاً ولا تركِّز اهتمامها فقط على الكسب المادي. في هذه الحالة، تكون الصفقة رابحة لكلٍ منهما، وهذا يصب في مصلحة المشهد التشكيلي في المملكة.
ويضيف: «حتى على صعيد إقبال الجمهور، نلحظ في السنوات القليلة الماضية تطوراً كبيراً من محض مصادفات يشاهد فيها المتلقي العادي معرضاً فنياً أو عملاً عندما يصادف وجوده قريباً منه. كما أن المعارض الفنية كانت محصورة على عددٍ من الصالات القليلة، والتي يعوزها الإعلان الجيد والتسويق الفعال لمعارض الفنانين. الآن نجد إقبالاً أكبر، ربما يكون مرده إلى أن المعارض باتت تقام أكثر فأكثر في أماكن أكثر ازدحاماً بالجمهور العادي، كالمولات التجارية. وأيضاً، لا شكّ في أن ثورة الاتصالات أفادت الفن التشكيلي شأنه شأن عديد من المجالات، لا سيّما من ناحية التسويق والإشهار وتكوين الشبكات وتعريف الفنانين ببعضهم وبغيرهم. وحتى نوعية التغطية الإعلامية التي يحصل عليها معرض فني الآن باتت أكثر جذباً وأقدر على الوصول إلى متلقٍ غير متخصص، أو إلى ما يسمى «رجل الشارع العادي». الآن أشاهد عائلات تزور المعارض بشكل منظم، وتستمتع بذلك. وعدد المقتنين العاديين يزداد، يمكنني القول إن الفن التشكيلي بات يغزو بيوت السعوديين».