لا يمكن اختزال شاعر كبير مثل محمود درويش في مقالة ولا في عشر مقالات.. واختيار أجمل ما كتبه الشاعر الراحل في مثل هذه المساحة المحدودة يشكِّل مجازفة صعبة تقارب حدود الاستحالة، فكانت هذه المختارات التي انتقاها الشاعر شوقي بزيغ مجرد تحية إلى محمود درويش الذي غادرنا إلى دار البقاء.
تكمن ميزة محمود درويش في ذلك الحلف الوثيق الذي عقده مع الجمال والشفافية والقدرة على قطف جوهر المعنى. إنه لاعب النرد الذي يرفع المصادفة إلى رتبة الإرادة. بحيث يندر أن تخلو قصائده من صور مدهشة أو جمال مباغت.
واذا كنت عزمت على قبول المجازفة في اختيار أجمل ما قاله درويش، فليس لأن ما سأختاره من شعره هو الأجمل بالقطع، بل لأنه مجرد عينة منتقاة من هذا الأوقيانوس الشاسع الذي لا تنضب مفاجآته. وقد آثرت أن تكون هذه الاختيارات الرمزية قادرة على الجمع بين الجمال والكثافة وأن يكون بعضها جارياً على ألسنة الناس كالمثل السائر، بما يشبه ما أطلق عليه العرب تسمية بيت القصيد، آخذاً بعين الاعتبار أن تكون الأبيات والمقاطع موزعة بين مجموعات درويش ومحطات شعره المتعددة.
إنا نحب الورد لكنا نحب الخبز أكثر
ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر
أحن الى خبز أمي
وقهوة أمي…ولمسة أمي
وتكبر فيَّ الطفولة يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا مت أخجل من دمع أمي
نحن في حلٍّ من التذكار
فالكرمل فينا
وعلى أهدابنا عشب الجليل
آه يا جرحي المكابر
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إنني العاشق…والأرض حبيبه
عيونكِ شوكة في القلب
توجعني وأعبدها
وأحميها من الريحِ
وأغمدها وراء الليل والأوجاع… أغمدها
فيشعل جرحها ضوء المصابيحِ
ويجعل حاضري غدها
أعزَّ عليَّ من روحي
كان لا بد من الاعداءِ
كي نعرف أنَّا توأمانْ
كان لا بد من الريح
لكي نسكن جذع السنديانْ
نحبُّ الحياة اذا ما استطعنا إليها سبيلا
ونزرع حيث أقمنا نباتاً سريع النموَِّ
ونحصد حيث أقمنا فتيلا
عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو
وأحرسهم من هواة الرثاءْ
أقول لهم: تصبحون على وطنٍ من سحابٍ
ومن شجرٍ من سرابٍ وماءْ
أكلما نَهَدَتْ سفرجلةٌ نسيت حدود قلبي
والتجأت إلى حصارٍ كي أحدد قامتي
يا أحمد العربي
لم يكذب عليَّ الحب،
لكن كلما جاء المساء امتصَّني جرسٌ بعيد
الآن بحرٌ كلُّه بحرٌ،
ومن لا برَّ له
لا بحر له
..وأعطينا جداراً واحداً لنصيح في شبه الجزيرة
بيروت خيمتنا الأخيرة
بيروت نجمتنا الاخيرة
على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة:
على هذه الأرض سيدة الأرض، أمُّ البدايات،
أمُّ النهايات، كانت تسمى فلسطين،
صارت تسمى فلسطين. سيدتي
أستحقُّ لأنكِ سيدتي، أستحقُّ الحياة
الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس
الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس
– ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟
– سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي…
– لماذا تركت الحصان وحيداً؟
– لكي يؤنس البيت يا ولدي،
– فالبيوت تموت إذا غاب سكانها…
أمرُّ باسمكِ إذ أخلو إلى نفسي
كما يمرُّ دمشقيٌّ بأندلسِ
هنا أضاء لك الليمون ملح دمي
وهاهنا وقعت ريحٌ عن الفرَسِ
هزمَتك يا موتُ الفنونُ جميعها
هزمَتك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين،
مسلةُ المصري، مقبرةُ الفراعنة، النقوشُ
على حجارة معبدٍ هزمَتك وانتصرتْ
وأفْلتَ من كمائنك الخلودُ
فاصنعْ بنا، واصنعْ بنفسك ما تريدُ
من أنا لأخيِّب ظنَّ العدم؟!