ماذا لو؟

لم تكتشف أمريكا؟

ونقصد هنا اكتشافها الشهير المنسوب إلى كريستوف كولمبوس عام 1492م، وإلَّا فإن القارتين الأمريكيتين كانتا مأهولتين من قبلـه ومعروفتين لعديد من الحضارات البحرية.
لو لم تكتشف أمريكا من قِبل كولومبوس، لما تحوَّلت إسبانيا إلى القوة الاستعمارية التي صارتها بين القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، ولتغيرت الخارطة السياسية للعالم تماماً، وربما لكان كثير من الدول في الكاريبي وأمريكا الجنوبية على غير الأسماء والحدود التي نعرفها اليوم. كما أن اللغة الإسبانية ما أضحت ثاني اللغات المحكية في العالم اليوم بواقع 400 مليون نسمة.
لو لم يكتشف كولومبوس أمريكا لتأخرت أوروبا عن التأكد من كروية الأرض، ولما عرفنا البطاطا والذرة والكاكاو، وهي كلها محاصيل وردت إلينا من ذلك العالم الجديد وصارت تشكِّل قوتاً يومياً لمليارات من البشر. أي إن نظام الغذاء العالمي الذي نعرفه اليوم كان سيتغير جذرياً، كما أن البن المقبل من الجزيرة العربية وإفريقيا في الأصل قد انتعش بشكل رهيب وصارت له صناعة ضخمة بفضل مزارع أمريكا الجنوبية كذلك.
الأمريكيون الأصليون الذين التقاهم كولومبوس أهدوه نبتة أخرى خاصة بهم هي التبغ. فهل يصح أن نفترض أن العالم ما كان ليعرف التدخين لو لم تكتشف أمريكا؟
تسبَّب اكتشاف أمريكا على أيدي الأوروبيين واستعمارها من قِبلهم لاحقاً في أكبر المجازر العرقية في تاريخ البشرية، إذ استتبعته إبادة عشرات الملايين من “الهنود الحمر” وسكان إمبراطوريات الآزتك والإنكا وسواها خلال بضع مئات من السنين، إما عنوة وإما بسبب الأوبئـة التي جلبها المستعمرون معهم.
سمح اكتشاف أمريكا لبريطانيا لاحقاً أن تصير دولة عظمى، وسمح بتشكل دولة عظمى من صلبها هي الولايات المتحدة التي تدين لها حضارتنا المعاصرة بالكثير. وتدين لها الديموقراطيات الغربية بإعلان الاستقلال الذي عُدّ وثيقة تقدمية في زمانه.
في أمريكا تم ابتكار صناعة النفط الحديثة بفضل أول بئر حفرت في بنسلفانيا عام 1859م.
وقدمت أمريكا لنا مصفوفة مدهشة من المبتكرات، من بنطلون الجينز إلى المصباح الكهربائي إلى خط تجميع السيارات إلى الإنترنت. وباكتشاف أمريكا تكوّن ببطء واحد من أهم مهاجر الموهبة، من جبران خليل جبران إلى والد ستيف جوبز. بعض أولئك اللاجئين الموهوبين تجمعوا خلال النصف الأول في القرن العشرين ليفككوا أسرار الذرة ويصنعوا أول قنبلة نووية عام 1945م. وفي أمريكا نضجت الرأسمالية وانتعشت، وفي نيويورك تكوّن “وول ستريت” حيث أهم بورصات العالم، وعلى الطرف الغربي وجدت كاليفورنيا، حيث تأسست أهم استوديوهات هوليوود وأهم شركات المعلوماتية التي تشكِّل ملامح الزمن المقبل وأكبر الشركات قيمة على مر التاريخ البشري.
لو لم تكتشف أمريكا لما كان هناك “دولار” ترتبط به عملات الاقتصاد العالمي. ومن دون كولومبيا وتشيلي لما كان هناك ماركيز ولا نيرودا ولا يوسا ولا إيزابيل أليندي وسواهم من عظماء الأدب الحديث، كما لم نكن لنحظى بعوالم لافكرافت وإدغار آلن بو ومارك توين وهمنغواي وسواهم.
من دون أمريكا لما كان هناك سوبرمان ولا “رعاة بقر” ولا “كرة قدم” لا تمّت لكرة القدم التي نعرفها بصلة. لكن البرازيل والأرجنتين بالمقابل قدمتا لنا -لحسن الحظ-بيليه ورونالدينهو ومارادونا وميسي وسواهم من سحرة المستديرة، كما قدمتا لنا التانغو والسامبا وفنوناً باهرة لا حصر لها. مثلما قدم لنا السود المتحررون في الولايات الشمالية الجاز والبلوز.
لو لم يكتشف كولمبوس أمريكا لاكتشفها سواه طبعاً، ولربما كان السكان الأصليون قد وصلوا إلينا في القارات القديمة قبل أن نصل نحن إليهم أولاً. وفي كلتا الحالتين كان التاريخ كما نعرفه والعالم كما هو اليوم قد تغيَّر تماماً.

أضف تعليق

التعليقات