حياتنا اليوم

لماذا نركض الماراثونات؟

marathon 1الماراثون من أعرق أنواع الرياضة، ظهر في اليونان القديمة، وأعادت إحياءه اليونان الحديثة، وراج خلال العقود الأخيرة خارج إطار الألعاب الأولمبية في مدن عديدة صارت تنظِّمه لغايات مختلفة. وفي الماراثونات الحديثة، تحالفت المصالح الشخصية الاجتماعية والتجارية على الترويج لهذا النشاط، وهذا التحالف هو وحده ما يفسِّر إقبال الآلاف على المشاركة في كل ماراثون، رغم محاذير الركض لعشرات الكيلومترات على الصحة والقدرة على التحمُّل.

انطلقت فكرة الماراثون من اليونان القديمة عام 490 قبل الميلاد، عندما ركض الجندي فيديبيديس مسافة 40 كيلومتراً من أرض المعركة في بلدة ماراثون في اليونان إلى أثينا حاملاً نبأ انتصار الإغريق على الفرس. وتقول الأسطوة إنّ فيديبيديس سلّم الرسالة العظيمة «نيكي» (أي النصر) قبل أن ينهار ويموت، وبالتالي أسس لسابقة مثيرة لنتائج سباق الماراثون.

عند افتتاح الألعاب الأولمبية الرسمية الحديثة عام 1896م في اليونان، أُعيد إحياء أسطورة فيديبيدس بسباق الـ 40 كلم انطلاقاً من جسر بلدة ماراثون إلى الملعب الأولمبي في أثينا. وفي تلك الدورة، وحتى بلوغ الماراثون، الذي كان الحدث النهائي التقليدي في الألعاب الأولمبية، لم يكن الإغريق قد فازوا بأية ميدالية، لذلك كان الماراثون فرصتهم الأخيرة لتحقيق المجد لأمتهم. فتجمّع خمسة وعشرون عدَّاءً على جسر بلدة ماراثون، ومن ثم أُطلقت طلقة البداية. «وكانت الإثارة التي عمَّت الحشود المنتظرة عند خط النهاية في المنشأة الحديثة، التي شُيّدت على طراز استاد الأولمبياد في أثينا القديمة، تفوق الوصف» كما كتب المؤرخ اليوناني كورسنتاني. عبَرَ سبيريدون لويس، وهو عامل بريد يوناني من قرية ماروسي، كان قد شارك في عدة سباقات عسكرية طويلة، خط النهاية متقدماً بفارق سبع دقائق كاملة عمن تَلِيَه. وكان وقته 2 ساعة، و58 دقيقة، و50 ثانية لمسافة 40 كيلومتراً. عندها حققت الدولة المضيفة الفوز المنشود، وعندها وُلد سباق الماراثون الحديث.

تحدِّي الذات
على مدى سنوات، كان الماراثون يُعدُّ نشاطاً غريباً وخطراً بالفعل. وقد تكون قصة فيديبيدس الذي مات من الإجهاد تحذيراً مثلما هي احتفاء بالقدرة الإنسانية على التحمُّل. ولذلك اقتصرت المشاركة فيه على الرياضيين المحترفين. ومنذ عقود قليلة ماضية فقط أصبح الماراثون حدثاً رياضياً شعبياً في معظم مدن العالم. وهناك عدة أسباب وراء رواج هذه الرياضة بهذا الشكل المتزايد. فبالإضافة إلى الاستفادة من الفوائد الصحية للركض، وكون معظم سباقات الماراثون مفتوحة للجميع، تقريباً، دون وضع شروط صعبة على المشاركة فيها، فقد يكون أول عامل جذب لها هو السعي وراء الإثارة والتحدي.

فضمن وتيرة الحياة السريعة التي نعيشها، تتشتت أفكارنا حوالي 12 مرة في الدقيقة. كما أننا نقضي وقتاً طويلاً في مكاتبنا المكيّفة ونبقى مسمّرين أمام مختلف أنواع الشاشات الإلكترونية. ويمكننا الوصول إلى وسائل ترفيه لا حدود لها كما أنّ بمقدورنا التسوق والحصول على الوجبات الغذائية دون أن نترك منازلنا. فالحياة سهلة وسريعة ومملة في آنٍ واحدٍ. وبينما تسيطر على الألعاب الرياضية الجماعية، مثل كرة القدم وكرة السلة وكرة الطائرة وغيرها، لغة القتال، حيث هناك حديث عن فائزين وخاسرين، واستراتيجيات وإصابات وحملات، والنتيجة هي كل شيء، يكون التحدي في رياضة الماراثون هو تحدي الذات. هناك قلة قليلة من المشاركين الذين يسعون لتحقيق الفوز وحتى بلوغ الهدف النهائي. هنا، في الركض في الماراثون، تكون الغاية أهدأ وأكثر روحانية. ويتحدث الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي، الذي يهوى المشاركة في الماراثونات، في كتابه «عمّ أتحدّث حينما أتكلم عن الركض» عن التركيز على الأهداف الداخلية بدلاً من على المنافسة مع الآخر. فيقول عن ممارسة الركض إنه ليس من المهم ما «إذا كانت مفيدة أم لا، أم إذا كانت رائجة أم لا. ولكن، في التحليل النهائي للأمور، فإن الهدف الأهم هو ما لا يمكنك أن تراه ولكن ما تشعر به في قلبك».

التدفق والروح
هناك مصطلح يستخدمه المتخصصون في علم النفس الرياضي لوصف حالة الرياضي وهو يمارس الرياضة بكل سهولة وكأنه فاقد للوعي، وهو «التدفق». هذا التدفق هو الذي يهب السعادة المجردة التي يتحدّث عنها الدرَّاج الفرنسي جان بوبيه عندما يصف الشعور الذي يشعر به وهو في ذروة السباق. إذ يقول إنّه «الإحساس الدقيق، والحميم والسريع الزوال الذي حين تدركه، يتملكك ويجتاحك ومن ثم يتركك مرة أخرى. تشعر به وحدك. هو مزيج من السرعة والسهولة والقوة والنعومة». وهذا ما يسميه موتاي، العدّاء الكيني الذي يُعد ملك الماراثونات، بـ «الروح». يقول موتاي إنّ قساوة النظام التدريبي الذي كان يتبعه – 125 ميلاً شرسة في الأسبوع – كانت من أجل تحقيق هذا الهدف، ويضيف «كلما أصبح التدريب أقسى حصلت على مزيدٍ من الروح».

إلى ذلك، فإن جاذبية المشاركة في الماراثونات، والركض بشكل خاص، هي بمنزلة تعبيرٍ عن ميزة بشرية تجعل البشر ما هم عليه. ويتحدث كتاب كريستوفر ماكدوغال بعنوان «مولود ليركض»، عن قبيلة «تاراهومارا» في المكسيك، ونظام حياة أفرادها الذي يغلب عليه الركض لمسافات طويلة. في هذا الكتاب، يشرح ماكدوغال التقدم الأخير في علم التطور البشري من خلال نظرية «الرجل الذي يركض». ما يوحي بأن «تحمل مشقة الصيد» – أي ملاحقة الفريسة على بعد أميال كثيرة – كان حجر الزاوية في تطور البشرية.

ويقول أنصار نظرية «الرجل الذي يركض» إن ثمة خصائص فيزيائية معيَّنة في البشر تبيّن بأنّنا ولدنا لنركض. فعلى سبيل المثال، وعلى عكس الثدييات غير القادرة على الركض، ولكن مثل الخيول والكلاب، يمكن للبشر أن يبقوا رؤوسهم ثابتة بسبب الرباط القفوي في قاعدة الجمجمة. كما أنّ لديهم عضلات قوية للتحكم بأرجلهم ولموازنة صدورهم الثقيلة، وأقدامهم وكواحلهم مكوّنة من مجموعة كبيرة من العضلات والأربطة والأوتار. ولديهم غدد عرقية تفرز الماء والأملاح، لذلك فإنّ أجسامهم قادرة على أن تبرّد ذاتها بسرعة. والأهم من ذلك كله، يمتلك البشر ما يصفه عالم الأحياء الألماني بيرند هاينريش بـ «قوة البصيرة» في كتابه «لماذا نركض؟»، فيقول إن «مفتاح القدرة على التحمُّل، كما يعرف كل عدّائي المسافات الطويلة، ليست مجرد مسألة غدد عرقية… بل إنّها الرؤية. فالتحمل هو أن يكون أمامك هدفٌ واضحٌ والقدرة على ترجمته بالقدرات العقلية، أي الأخذ في الاعتبار أبعد مما تراه العين».

الماراثون كسلعة تجارية
هذا من الناحية الفردية، أما من الناحية الاجتماعية فهناك جانب مهم يتعلَّق بالماراثونات ورواجها خلال السنوات الأخيرة. وهي أنّها في كثير من الأحيان صارت تنظِّم كحملات للتبرع لأهداف خيرية. وعندها لا يسبب رسم المشاركة أي قلق بالنسبة للمشاركين الذين يعرفون بأن أي فائض من المال سيذهب لمحاربة السرطان أو بناء مدرسة أو مساعدة الأيتام أو لهدف إنساني آخر.

وكل هذه العوامل جعلت من الماراثون سلعة عالية الطلب. وهذا ما دفع عديداً من الجهات المنظِّمة إلى أن تكون على استعداد لتحمُّل تكلفة تنظيمها، كما دفعت بالشركات الكبرى إلى السعي لرعايتها، لكونها هدفاً دعائياً ناجحاً لها، أو كمجرد استثمار تجاري رابح.

وما يجعل الاستثمار في الماراثونات أكثر جاذبية هو كون الماراثون سلعة تجارية غير مرنة، أي إنّ الطلب عليها لا يتأثر كثيراً بارتفاع رسوم التسجيل فيها. فعادة ما تكون رسوم التسجيل في الماراثون في متناول الجميع، وإنّما في بعض الأحيان قد تصل إلى أرقام مرتفعة. فهناك على سبيل المثال بعض الماراثونات النخبوية مثل ماراثون مدينة نيويورك الذي يفرض رسم دخول بقيمة 11 دولاراً لمجرّد المشاركة في سحب يعطي للرابحين الفرصة للاشتراك في الماراثون برسم يبلغ 255 دولاراً. ولكن أين تذهب كل هذه الأموال؟

تبدأ تكلفة الماراثونات قبل شهور من السباق. ففي البداية تبدأ الجهة المنظِّمة بدرس مؤهلات المكان الذي سيقام فيه السباق، ومن ثم تسعى للحصول على التراخيص من البلدية المعنية لاستخدام المساحات العامة من الطرق ومواقف السيارات وغيرها. وهناك تكاليف الإعلان للسباق إن كان في التلفزيون أو الصحف أو مواقع الإنترنت. ويوم الماراثون هناك تكلفة العاملين على الأرض من موزعي المياه والمراقبين والأجهزة الطبية في حال حدوث أي طارئ وما إلى هنالك. ولكن مهما بلغت التكاليف، فمع أعداد المشاركين الكبيرة تبقى الماراثونات مشروعاً مربحاً إن عاد ريعها إلى هدف إنساني سامٍ، أو إلى تحقيق ربح تجاري تسعى الشركات المنظمة إلى كسبه.

ومع تلاقي المصلحة الفردية مع المصلحة المجتمعية والمصالح التجارية تحوَّلت الماراثونات إلى ظاهرة من ظواهر المجتمع المعاصر، لتصبح أكثر تنوعاً وأكثر إثارة وأكثر ابتكاراً، وليس آخرها الماراثون الذي أصبح يُجرى مؤخراً على رمال الصحراء الحارقة في سلطنة عُمان لمسافة تبلغ 165 كلم.

أضف تعليق

التعليقات