الأرقام مدهشة: تعريض الأولاد مدة أطول لأشعة الشمس، يخفّض ما بين 25 و%50 من نسبة احتمال إصابتهم بقصر النظر، المسمّى علمياً: الحَسَر (myopia)! إنه اكتشاف ممتاز في الوقت المناسب، لأن الأطباء لم يعودوا يترددون في القول بحدوث «وباء» عالمي في هذا المجال، وخاصة في دول آسيا وحوض المتوسط.
خلال سنوات خمس فقط على بدء دراسة أسباب قصر النظر عند الأولاد، توصَّل الباحثون إلى نتائج أثبت التطبيق العملي صحتها. وهي على بساطتها تبدو كفيلة بمعالجة أسباب هذه المشكلة التي تفاقمت عالمياً بفعل أنماط الدراسة والتعليم الحديثة.
ففي عام 2007م اكتشف دونالد موتي، الذي يعمل على دراسة أثر أسلوب الحياة في صحة العيون، في جامعة أوهايو الأمريكية، اكتشافاً مهماً. فقد أثبت أن نسبة احتمال خطر الإصابة بالحَسَر عند الطفل الذي يشكو والداه هذه العلة، انخفضت من 60 إلى %20، بمجرد أن يمضي الطفل ساعتين في الخارج، كل يوم. أي إننا نستطيع بذلك تعطيل أثر الوراثة المعروفة في هذا المضمار منذ زمن، بعامل بسيط للغاية، هو التعرض لأشعة الشمس. وفي السنة التالية، اهتم مورغان بمسألة انتشار قصر النظر عند الأطفال الآسيويين، أكانوا يعيشون في سنغافورة أم في سيدني. خرج الباحث من هذه الدراسة، برقمين، ففي المدينة الأولى بلغت نسبة قصيري النظر %29، وفي الثانية %3,3 فقط. وبعدما استعرض مورغان الفروق في أسلوب العيش، بين الآسيويين الذين يعيشون في بلادهم، سنغافورة، وبين العائلات التي هاجرت إلى أستراليا، بدا له أن الوقت الذي يمضيه الأطفال في الخارج يلعبون، هو العامل الحاسم في هذا الفرق. ففي سنغافورة يمضون كل يوم 30 دقيقة في الملاعب، في مقابل ساعتين في سيدني.
ولعل التفسير العلمي لهذه المسألة هو الآتي: فعند القراءة أو الكتابة تتعوّد العين على التركيز على الرؤية القريبة. ويقول جيل رونار، المدير العلمي في الجمعية الفرنسية لطب العيون: «المنطقتان اللتان تشهدان أكبر نسبة من المصابين بقصر النظر في العالم، وهما منطقة الشرق الأقصى، ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، هما الإقليمان اللذان طوّرت فيهما الحضارات أولاً الكتابة وصوغ الحلي الذهبية. وفي كلا الحالتين يحتاج الأمر إلى النظر من قرب». فتمضية وقت طويل في أعمال تتطلب تكييف عدسة العين على الرؤية القريبة، تنتهي بهذه العين إلى فقدان مرونتها للتكيّف على الرؤية البعيدة، ومن هنا يظهر قصر البصر. وإذا كان الأطفال الآسيويون يصابون أكثر من غيرهم بهذه الآفة، (في الصين مثلاً، يصل ما بين 80 و%90 من الطلاب إلى المرحلة الجامعية وهم يلبسون النظارات)، فليس بالضبط لأنهم يمضون وقتاً أقل في الخارج، بل لأن الوقت الذي يمضونه في الداخل أيضاً، يُمضون معظمه وهم يركزون البصر على الكتب والشاشات.
هل هو أثر الدوبامين؟
ويعترض على هذا الاستنتاج ثان هوانغ سوان، رئيس دائرة طب العيون في المستشفى الأمريكي في باريس: «لم تثبت أي دراسة علمية علاقة السبب بالنتيجة، بين هذين الأمرين». ويزيد مورغان على هذا بقوله: «الأولاد الذين يمضون وقتاً طويلاً، وهم منكبّون على كتبهم، لا يصابون أكثر من غيرهم بقصر النظر، على شرط أن يمضوا وقتاً كافياً في الخارج».
يبقى إذن معرفة الآلية البيولوجية لهذه الظاهرة التي تحدثها أشعة الشمس. فهل الأشعة (فوق البنفسجية، أو غاما…) هي المسؤولة؟ يجيب وايجونغ لان، الباحث الصيني الأصل الذي يعمل في مجال نمو العين في جامعة توبنغن، في ألمانيا: «نحن لا نزال في مرحلة النظريات». ويضيف أن إحدى النظريات التفسيرية الأكثر تقدماً هي التالية: «تحت تأثير أشعة الشمس، تُفرز شبكية العين مادة الدوبامين (dopamine) وهي موصّل عصبي معروف بلجمه نمو العين. وفي الواقع، يظهر قصر النظر بالتحديد عندما تنمو العين أكثر من اللازم، إلى درجة أن الصورة المرئية بدل أن تتركز على الشبكية، تتركز قبل الوصول إليها، فلا يعود الإبصار دقيقاً. ولهذا تحمي أشعة الضوء الطبيعية العين من قصر النظر». ويخلص إلى القول: «يبدو أن طبيعة أشعة الضوء الطبيعي ليست هي المسؤولة عن هذه الفائدة للعين، بل قوة أشعة الشمس».
لكن السلطات في تايوان لم تنتظر بلوغ التجارب العلمية خواتيمها، بل سارعت إلى التحرّك لمواجهة هذا الوباء. وقد أعرب بيشانغ وو عن سروره لهذا الأمر بالقول: «منذ 1999م بدأت السلطات الصحية تعمل، تدفعها ضرورة التحرّك العاجل، لمعالجة المصدر الأول للوباء، لكن دون جدوى. وبعد 10 سنوات، قررت وزارتا الصحة العامة والتربية تشجيع النشاط في الخارج».
واليوم نشاهد في المدارس والمكتبات، ملصقات تحث الصغار على الركض واللعب في الهواء الطلق، من أجل صحة عيونهم. ونقرأ في أحد الملصقات: «ارفع أنفك عن الكتب، واذهب إلى الخارج»!
إنه في أي حال حلم الأطفال، فليسوا بحاجة إلى بطاقة دعوة رسمية للاستجابة
بتصرف عن مجلة
«العلم والحياة» الفرنسية