فيما ينشغل الناشرون العرب هذه الأيام بترجمة أعمال الكاتب والشاعر التشيلي الكبير روبيرتو بولانيو بعد وفاته بأربعة عشر عاماً، تتجه بقية العالم إلى متابعة مسار الرواية اللاتينية الحديثة، وذلك باعتبار أن أعمال بولانيو تشكِّل نوعاً من القطيعة بين الجيل الماضي بما ضم من أساطير والجيل الحالي على مستوى اللغة والمواضيع والمعالجة.
ويروي التاريخ أن آخر عهد لأمريكا اللاتينية بالحكم الديكتاتوري كان في تشيلي بعد أن تنحَّى الجنرال بينوشيه عن السلطة عام 1990، ومع أن رأس النظام بجنرالاته ورفاقهم قد تغيّر إلاَّ أنَّ الحال لا يشي بتغير مجتمعي كبير. فبقيت هناك مظاهر الحياة المعتادة بما فيها من فساد وبيروقراطية وتفكك على مستوى العائلات بفعل المخدرات وانتشار الأسلحة غير المقنن، وهذا ما دفع الكثير إلى الهجرة – إما إلى الولايات المتحدة أو أوروبا – في سبيل حياة ومستوى معيشي أفضل.
لذا تغيرّت مواضيع الأدب في مجملها من تناول حياة الديكتاتور والمخبرين والثوار وثيمة الحرية والبناء الروائي الذي يغطي فترات محددة، إلى الحياة اليومية والفرد وشظف العيش تحت حكم جديد، وصارت تتناول حياة لاتينيي المهجر. وهذا ما أدَّى إلى إعادة تعريف الكتابة وأغراضها ومآلاتها الجديدة، ما استلزم من المؤلفين لغة مغايرة تسمي الأشياء بأسمائها، ولا تتصف بالمواربة والخيال الجامح والاستعارات المتوالية كما كان الحال في السابق. وهذا أدَّى بدوره إلى صدام نقدي إلى حدّ اعتبار بعض القصص الصادرة حديثاً عند بعض النُقَّاد “غير لاتينية بما يكفي”، إلى أن ظهر بولانيو وغيَّر نظرة الوسط الأدبي العالمي تجاه قارته بأكملها. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود الحركات التي سبقته وناهضت الكتابة اللاتينية القديمة، وأعلنت عن رؤيتها للأدب بشكل قوي خلال التسعينيات، مثل حركة «ماك-أوندو» برئاسة ألبرتو فوغويت، و«مانيفستو الكوكايين» الذي وقعّه خمسة مؤلفين مكسيكيين شباب، وهم: خورخي فولبي – بيدرو آنخل بالو – إيلوي أوروث – إغناسيو باديلا – ريكاردو تشافيز كاستانيدا.
أتى بولانيو (1953-2003) ليقلب المعادلة تماماً بشيء لا يشبه غيره. فرغم تعريفه لنفسه كشاعر على خطى نيكانور بارا، إلاَّ أنه قد عُرِفَ بقصصه ورواياته ذات النثر الحاد المقتضب، والمتسم بالواقعية الصارمة التي تروى بأكثر من تقنية سردية بين فلكي الأدب والجريمة المنظمة، بالإضافة إلى ما يشبه التقاطع مع سيرته الذاتية، لكون أغلب شخصياته روائيين وشعـراء. مع الإشارة إلى أن الأصوات الساردة في بعض أعماله قد تصل إلى خمسين صوتاً، كما هو الحال في رواية «رجال التحري المتوحشون»، وقد لاقى الكاتب انتشاراً عالمياً هائلاً بالرغم من ارتكابه كل ما لم يُعْهَد من قبل في نصوص النثر في أمريكا اللاتينية.
كانت أعماله تعلن في مضمونها عن اللامبدأ في الكتابة، وأن جميع الخيارات متاحة في النثر ولا يوجد مكان لا ينحني للتجريب. فأتى ذلك بدوره على الكُتّاب الجدد من جميع أنحاء القارة ليشكّل كل منهم عالمه وأفكاره تجاه ما يريد بالطريقة التي يرغبها، وأنتج هذا بدوره فسيفساء رائعة من الأسماء الشابة المشهورة حالياً والمتسيّدة للمشهد الأدبي هناك، ومنها على سبيل المثال: أليخاندرو زامبرا (تشيلي)، فاليريا لويزيلي (المكسيك)، خوان غابرييل باثكيث (كولومبيا)، كارلوس لابي (تشيلي)، أندريس نيومان (الأرجنتين)، دانيال غاليرا (البرازيل).
ونأخذ من هؤلاء مثالاً فاليريا لويزيلي التي تكتب في روايتها الأولى ما يذكرنا بلوحة موريتز إيشر «رسم الأيدي» التي أطلقها سنة 1948. إذ سنجد رواية ما بعد حداثية عن أم شابة في مكسيكو سيتي، وهي تحاول التوفيق بين واجباتها كأم وزوجة وكتابتها لروايتها، بينما تتذكر أيامها حين كانت مترجمة تتجول في حي هارلم بنيويورك بحثاً عن آثار الشاعر المكسيكي غيلبرتو أوين الذي عاش في خلال بدايات القرن العشرين قبل الكساد الكبير.
صدرت هذه الرواية بالإسبانية عام 2012، وظهرت ترجمتها بالإنجليزية التي أتمتها كريستينا ماك-سويني ببراعة عام 2014 لتعلن عن “كتاب يؤكـد أن مؤلفته موهبة أدبية جديدة بشكل استثنائي” حسب موقع صحيفة «ديلي تلغراف»، وعن “رواية مكتوبة باحتراف” حســب مجلة «باريـس ريفيو» المرموقة. ونحن إذ نوصي بترجمة هذه الروايــة الجميلــة للغايــة إلى اللغة العربيــة، فإننا ندعو بالعون للمترجــم، لما ستمثله الترجمة من تحدٍّ على مستوى الذكاء في اللغة.