بعيداً عن صخب وسط المدينة بالقاهرة، وفي حي المعادي الهادئ المليء بالأشجار والحدائق الصغيرة، يقع مرسم الفنان التشكيلي والرسّام الصحفي وليد طاهر. التقيته بعد عودته إلى مصر من إقامة فنية طويلة في مدينة مارسيليا بفرنسا في إطار عمله على مشروع كتب للأطفال ناطقة بالعربية والفرنسية معاً. المكان ليس كبيراً ولكنه مليء بالتفاصيل الملوَّنة التي تمتع العين وتأخذها في رحلة بصرية تدعو للتأمل. دخلنا إلى مطبخ أمريكي مفتوح يتسم بالترتيب والبساطة، وينتهي بطاولة من الجرانيت عليها أقلام وفرش وأوراق يرسم عليها طاهر ويلوّن بينما نتحدَّث.
ندخل الغرفة الرئيسة في محترف طاهر مروراً بـ “بارافان” جميل من الأرابيسك، لنجلس وسط اللوحات الكبيرة.
على الحائط أُسندت لوحات تبقَّت من معرضه الأخير الذي أقامه في عام 2014 في “جاليري مصر” وكان بعنوان “شهود”، واحتوى على بورتريهات لكائنات دمج فيها الإنسان بالحيوان كما تخيلها. فلطالما رأى الفنان أن هناك علاقة دائمة بين الإنسان والحيوان غير تلك العلاقة المبنية على رعاية الأول للثاني أو النظر إليه على أنه أدنى. فهناك علاقة أخرى أعمق وأكثر تداخلاً دعته إلى أن يرسم تلك اللوحات للشاهد بصفاته الإنسانية والحيوانية.
نفَّذ الفنان هذه المجموعة من اللوحات بألوان الأكريليك على القماش، وكان أكثرها بأحجام كبيرة. فهناك الشاهد الصادق وشاهد الزور والطفل المدعو للإدلاء بشهادته. ويقول طاهر إن هذه المجموعة هي نتيجة بحث طويل أجراه بنفسه عن شهود المحاكم. فهناك الشاهد الأعمى الذي يجب أن تتوفِّر فيه شروط معيَّنة للأخذ بشهادته، كذلك الشاهد الطفل ومتى يؤخذ بشهادته. كما رسم الفنَّان الليل نفسه كشاهد فيه من شكلي الطائر والإنسان، لأنَّ الليل –حسب قوله– يمرّ سريعاً. وتحتوي لوحة أخرى على مجموعة شهود اتفقوا مع بعضهم على المتهم قبل المحكمة سماها “الأنذال”.
وليد طاهر وأدب الأطفال
الوقوف أمام كتاب مصوّر للأطفال من الكتب التي تصدر اليوم، أو تلك التي هي قيد الإعداد كتلك التي رأيناها في محترف وليد طاهر، هو وقوف أمام ما آلت إليه مسيرة أدبية وفنية ذات طابع خاص بدأت في البلاد العربية على نحوٍ خجول قبل قرن ونصف، واستمرت بالتطور منذ آنذاك.
فأدب الأطفال ليس جديداً عندنا، إلى منتصف القرن التاسع عشر حين ترجم محمد عثمان جلال معظم الحكايات الشعرية الخرافية الغربية إلى العربية نقلا عن الشاعر الفرنسي “لافونتين” بين عامي 1849و 1854، وقد أطلق على كتابه المترجم “العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ”.
هناك علاقة عميقة بين الإنسان والحيوان وأكثر تداخلاً دعته إلى أن يرسم تلك اللوحات للشاهد بصفاته الإنسانية والحيوانية.
وفي العصر الحديث أنجز بعض الشعراء الرواد أمثال أحمد شوقي شعراً قصصياً عظيماً للأطفال معبرين عن ميول هذا السن المبكر ورغباته فجاءت أشعارهم التي تحكي قصصاً وروايات على لسان الحيوان والطير، وكان شوقي بأغنياته وقصصه الشعرية التي كتبها على ألسنة الطير والحيوان للصغار رائدا لأدب الأطفال في اللغة العربية.
وحفّزت المحاولات المذكورة الكثيرين ليتابعوا الطريق، أمثال: عمران الجمل وفايز الجمل، وحسن توفيق، ونعمة إبراهيم، وتوفيق بكر، ومحمد عبدالمطلب، وقد غلب على كتبهم الطابع التعليمي.
وبرز في الثلث الثاني من القرن العشرين كتّاب للأطفال أمثال: عمر فروخ، حبوبة حداد، عبدالكريم الحيدري، وبعضهم تجاوزت شهرته حدود بلاده، مثل: كامل الكيلاني، محمد سعيد العريان، عطية الأبراشي، إبراهيم عزوز، وأحمد نجيب. وحاول مؤلفو هذه المرحلة إحياء التراث العربي، فلجأوا إلى ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والحكايات الشعبية.
غير أنه في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، ومع ازدهار حركة التأليف والنشر بموازاة الحركة الفنية، ظهرت فئة من الفنانين الذين جمعوا في عملهم الكتابة وفن التصميم إلى الرسم للصغار أمثال محيى الدين اللباد، أو الرسم الصحافي إلى الفن التشكيلي الموجه للكبار والرسم الموجه للصغار أمثال حلمي التوني. وفي إطار هذه الفئة من الفنانين العاملين على أكثر من خط يندرج اليوم اسم الفنان وليد طاهر.
يلفت نظرنا أيضاً أثناء الزيارة كتاب بعنـوان “سبعة أرواح”، تقمّص فيه المؤلِّف روح القط، على الرغم من خوف الثقافة الشعبية من القط أسود. يتأمَّل القط من خلال صفحات الكتاب نفسه، طارحاً أسئلة فلسفية عن نفسه وبالتالي عن القارئ. مستخدماً خطوطاً وتكوينات بسيطة تشبه فيها حركة القلم ليونة جسد القط ودلاله. تحب القط الأسود وتودّ لو تتحدَّث معه. هكذا، وبكل هدوء ورشاقة، يتركك كتاب القط الأسود في حالة تأمل وصفاء.
مرسم الفنَّان التشكيلي
ومكتب الفنَّان الصحافي
مرسم الرسَّام الصحافي غير مرسم الفنان التشكيلي، فمرسم الفنان التشكيلي عادة ما يكون غير منمَّق ولا مرتباً، مليء بالتفاصيل الصاخبة والفرش والألوان وبضعة مجسمات وأشياء متفرِّقة جمعها الفنَّان من خلال رحلاته .. أما الرسَّام الصحافي فيعتمد عادة في عمله على طاولة وقلم وورقة .. كما بات يعمل أيضاً على جهاز الكمبيوتر. فقد عمل طاهر مع جريدة “الشروق” اليومية و”دار الشروق للنشر” كرسّام صحافي في الجريدة ومدير فنّي للدار. كما أصدر مع الدار نفسها كتبه الخاصة “حبّة هوا” و”نقطة سوداء” وغيرها..
تحدَّثنا إليه عن اللوحة الرقمية، فهو يعمل كثيراً من خلال جهاز الكمبيوتر، “لسرعة إنجاز العمل، والقدرة على رؤيته بأكثر من طريقة، وإمكانية المحو والإضافة والتعديل غير المتوفِّرة في الرسم على الورق. “فالجريدة اليومية لا تنتظر الإلهام ولا تنفصل عن الواقع. والورقة تحمل تاريخ القلم واللون وحركة الفرشاة، ومن الصعب تغيير رأيك في هذا الخط أو ذاك أو هذا اللون أو ذاك .. ولكن حرية التصرف هذه موجودة في الديجيتال. كما أن الديجيتال اقتصادي أكثر إذ يمكِّنك من البيع أكثر من مرَّة. وفي فعل الرسم اليومي يجر الخط خطاً آخر، ويدخلك العالم الذي تصنعه إلى عالم آخر”.
بداخلي عالم
يرى الفنان العالَم من زاوية خاصة، ويروي عالمه الداخلي من خلال رسوماته. في كتابه “حبة هوا” يأخذنا الفنان في رحلة تأمليَّة تغلب عليها روح الوحدة والانتظار ومرور الوقت في البرد. منها:
“عفاريت عريانة بتطير حواليّه
مش خايفة منّي .. مع إنّي
عمّال أهشّهم بإيديّه
بعصبية…..
وكل ما يبعدو.. يرجعوا تاني
عشان…
يضحكوا عليه!
عالم طاهر مليء بتفاصيل من الحياة اليومية: قطة في مطبخ.. حمار وقط يشربان الشاي على الطاولة. مدينة تتركب فوق بعضها، وتمرّ منها زرافة بينما تغرق سيارة في البحر ويلعب السمك. عالم مرح به خيال الأطفال مرسوم بتمكّن رسّام كبير.
عوالم تبدو طفولية – ربما بحكم عمله في مجال كتب الأطفال وإنجازه أكثر من أربعين كتاباً بين تأليف ورسم، بين مصر ولبنان وفرنسا – لكنها أيضا ذات طابع خاص جداً، ولا تخلو من الدراما والدعوة للتأمل واستفزاز الخيال.
الذهاب إلى الشاطىء اﻵخر
يعمل الآن طاهر مع دار نشر فرنسية على إنتاج سلسلة كتب باللغتين العربية والفرنسية، تطمح إلى تذويب الفروق والحساسيات بين الثقافتين. فقد قابل الناشرة ماتيلد شيفر قبل سنتين في القاهرة، وعرضت عليه أن يسافر إلى مارسيليا ليعمل معهم على إصدار كتب للأطفال تتجاور فيه الرسوم مع اللغتين العربية والفرنسية، وتُعنى بتواصل طفل العالم العربي مع الفرنسي. “مشروع مهم جداً، فقد أصبح من الضروري أن يتعرَّف الطفل منذ الصغر على ثقافة الآخر، وأصبح تضييق الفجوة بين شعوب شمال البحر المتوسط وجنوبه وشرقه أمراً لا بد منه.
أنجز أكثر من أربعين كتاباً بين تأليف ورسم، بين مصر ولبنان وفرنسا – لكنها ذات طابع خاص جداً، ولا تخلو من الدراما والدعوة للتأمل واستفزاز الخيال.
فتحت عنوان “البلد”، هناك مجموعة رسوم لمدن، خاصة بواحد من الكتب الأربعة المقرَّر إصدارها مع دار النشر “لو بور اجوني” التي تمتلكها شيفر. وتمثِّل هذه الرسوم مدناً عربية وأوروبية مثل مارسيليا وبرشلونة وطنجة، وفيها كثير من روائح المدن الفعلية، إضافة إلى تفاصيل من الخيال، تتجاور مع نصوص شعرية تستهدف صغار القرَّاء.
من ضمن الكتب أيضاً كتابـان لرباعيات شاعر العامية المصري صلاح جاهين، بادرت شيفــر بفكرته لتعريف العالم الفرنسي بشعراء من الثقافة الشعبية المصرية، إضافة إلى ما هو موجود من تراجم الكلاسيكيين.
سيرة ذاتية
وليد طاهر فنَّان تشكيلي ورسّام صحافي وكاتب للأطفال ومؤلِّف. – من مواليد القاهرة عام 1969. نشأ في حي الدقي القريب من وسط المدينة ثم انتقل إلى الحي الأهدأ في المعادي.
تخرَّج في كلية الفنون الجميلة قسم الديكور سنة 1992، غير أنه كان قد بدأ العمل قبل التخرُّج في مجلة “صباح الخير”.
ثم لعدة مجلات وصحف وصولاً إلى رسم الكاريكاتير لجريـدة الشــروق منذ عام 2009 وحتى اليوم.
له أكثر من ثلاثين كتاباً للأطفال، وعمل مديراً فنياً لدار الشروق منذ عام 2005، وصمم كثيراً من أغلفة الكتب والمجلات والدوريات الثقافية.
وفي مجال المسرح، صمم عديداً من العرائس والأزياء لصالح استوديو ناجي شاكر. كما عمل مصمماً للمطبوعات ومواد الدعاية لعديد من المؤسَّسات التعليمية والهيئات والدول.
حصل على جوائز مصرية وعربية وعالمية في مجال الكتابة والرسم للأطفال. منها:
“جائزة اتصالات” من المجلس الإماراتي لكتب اليافعين مرتين عامي2010 و2016. وجائزة أفضل كتاب للطفل للعام. كما حصل على جائزة الرسم الأولى للأطفال من “معرض الشارقة الدولي لكتب الأطفال 2014”. وجائزة شرفية من معرض بولونيا لكتب الأطفال 2004، وجائزة الرسم الصحافي الأولى من نقابه الصحافيين لعام 2006.
شارك في عديد من المعارض التشكيلية داخل مصر وخارجها.
عناوين فرعية