يقول الإنجليز إن “السعادة لا يجلبها المال”. ونحن مثلهم تماماً، نمجّد هذه الحكمة ونعطيها أبعاداً دينية وثقافية تجذّرت في نفوسنا أباً عن جـد، بعيداً عن واقع ما نقوم به لنحصل على المال، وهذا أمر آخر، يحتاج كثيراً من الشرح لنبلغ خلاصتنا الحقيقية القائمة على “فعل ما لا نؤمن به”…!
الإيطاليون أيضاً يؤمنون بهذه الحكمة، وكذلك الفرنسيون، عكس مواطني كيبيك في كندا والروس الذين يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك حين يقولون: “من له مال له عقل، ومن لا مال له لا عقل له”. فمن نصدّق ومن نكذِّب؟ من يشغلون المرتبة السادسة على سلم الاقتصاد العالمي أم من يشغلون المرتبة العاشرة عليه؟
حسب دراسة سنوية أطلقها برنامج للأمم المتحدة، فإن السعادة مستقرة حالياً في النرويج، وكثير منها يعيش في الدانمارك، ويتوزّع الباقي منها بشكل تدريجي بين شعوب لا تتربع على عرش الاقتصاد، لكنها بالمقابل تؤمِّن دخلاً عالياً للفرد يضمن له حياة كريمة.
ثمة سر إذاً يجلب السعادة ونحن لا نعرف مفاتيحه الرقمية، ربما ضاعت منا مع مرور الزمن، فأصبح التنظير بشأنها أسهل من الحصول عليها. وربما تحوّل الأمر برمته إلى مادّة فلسفية تغذي خطاباتنا وسجالاتنا، وتبقى هناك في المضمون الشفهي ولن تغادره إلى أبد الآبدين.
حتى في الصين حيث “الأعمى يمكنه أن يرى المال” تبقى السعادة خارج شبكة نظره فالمال محطّة، والسعـادة محطّــة تليها بعدة محطّات حسب الطريق التي يسلكها هذا الأعمى حين “يستعيد” نظره حسب الحكمة الصينية.
لا يكفي أن ترى المال لتكون سعيداً، يجب أن تحصل عليه. وهنا المشكلة. فالمال الذي تسعى إليه طريق للعبودية على رأي جان جاك روسو، سيسلخك تماماً من إنسانيتك، ويسرق من عمرك أجمل السنوات وأبهاها، ويحرمك من أحبتك، ويمتصك شيئاً فشيئاً حتى لتشعرنّ فعلاً أنه السيد وأنت العبد. ثم حين يصبح في يدك فإنك لن تسعى سوى لحراسته وإبقائه في حمايتك. ولن تكون سعيداً إلّا حين تمتلك مفاتيح إدارته، فتعرف كيف تملكه، وفي الوقت نفسه كيف تسخّره لإسعاد نفسك وإسعاد مَنْ هم حولك، إذ يصعب أن تحصل على سعادتك بمجرد جمعك لثروة، ستكون مجرد ثريٍّ بخيل، تعيس وبائس.
يصعب علينا أن نستوعب معادلة المال والسعادة. لكني أعتقد أن لبّها ونواة أسرارها يكمنان في خلاصات تجارب العباقرة الذين صنعوا ثرواتهم في عمر مبكر، وليس في حكم وأمثال قديمة وأبيات من الشعر نظمها قائلوها في أوقات عصيبة عاشوها في الغالب فقراء.
تغيّر الزمن، وتغيّرت معطيات الفقر والغنى، ومعها معاني السعادة والفرح وهناء العيش، فقديماً قيل “القناعة كنز لا يفنى”. وفي عصرنا الحالي، أصبح من غير الممكن أن نستسلم لهذه “القناعة” التي تنهي طموحاتنا، لكن من الممكن أن نصغي لبيل غيتس وهو يقول: “ليس الخطأ أنك ولدت فقيراً، ولكنّه خطؤك إن متَّ كذلك”…!
الحلقة الغائبة في كل ما قيل ولا يزال يقال، هو أنك حتماً لا يمكنك أن تكون فقيراً وسعيداً، فقد ارتبطت الأوبئة والأمراض الجسدية والاجتماعية بالفقر، تماماً كما ارتبطت الفاحشة والمظالم والغرور بالبذخ والمغالاة لدى أغلب الأثرياء، أمّا التوازن المنشود فقد تحقّق لأناس عرفوا أن عصب الحياة هو المال مقترنـاً بمشاعرهم الداخلية، إنه هنا هذا السر العظيم، إنه أنت…
حين تصبح يدك مملوءة بالمال ستعرف وجهتك. فأنت وحدك ستعرف حينها طريق السعادة أو طريق الشقاء. قد تعود إلى الخلف وقد تذهب قدماً. لكن الأهم أن زرّ سعادتك المنشودة مختبئ في رأسك طيلة الوقت سواء أكنت ثرياً أو فقيراً، وأن ما كنت تحتاجه هو قليل من العمل الجاد والاهتمام بنفسك لتشعر بوجوده.