بماذا نحيي الراحل الكبير؟
أي شيء له قليل.
هنا عربون وفاء: مقال من محب وقصيدة من محب آخر وكم هم كثر. في المقال محاولة لقراءة حياة رجل فريد من رجال مملكتنا الحبيبة. وفي القصيدة هتاف محبّة رجل القصائد.
غازي القصيبي..
العصي على الإحاطة به
منذ زمن طويل، ألِف القرَّاء، أياً كانت اهتماماتهم، أن يقفز أمامهم اسم غازي القصيبي – يرحمه الله – ليكتسح الدوريات الثقافية وحتى الصحف اليومية، تارة لرواية جديدة أو لقصيدة جديدة أو لمنجز إداري أو قراراتخذه في هذا المجال أو ذاك.. واليوم، وبعد انتقال الأديب والسياسي الدكتور غازي القصيبي إلى رحمة الله، سيبقى اسم الرجل حاضراً في عالم الثقافة، تماماً كما كان لنحو نصف قرن من الزمن، نظراً لضخامة الإرث الذي تركه لنا الأديب الراحل.
سعد بن محارب المحارب يعود بنا بضع خطوات إلى الوراء ليرسم لنا الصورة العامة والكبيرة لغازي القصيبي بتنوع تجاربه طولاً وعرضاً التي جعلت منه واحداً من ألمع أسماء الثقافة العربية المعاصرة، وأيضاً ليستخلص لنا ما في إبداع القصيبي ونجاحاته من عناصر لا غنى عنها ليستحق الإبداع الأدبي هذا الاسم فعلاً.
تكتنف الكتابة عن غازي القصيبي – يرحمه الله – صعوبات ثلاث؛ أولها التنوع الطولي والعرضي لتجربته، فهي تجربة تمتد من منتصف ستينيات القرن الماضي، يوم أصبح أستاذاً مساعداً في كلية التجارة بجامعة الملك سعود، ولا تزال قائمة بعد أربعة عقود ونصف العقد.
وهي كذلك، تجربة تنطلق من الجامعة لتمر بإدارة السكك الحديدية ومؤسسة الصناعة والكهرباء، وتنتقل إلى المحاولة الأكثر صخباً لمعالجة معضلة الإدارة الصحية، وتتحوَّل إلى السفارتين، القريبة والبعيدة، حتى تبلغ إعادة بناء أوضاع الماء ومراجعة أحوال الكهرباء، وتنتهي -حتى الآن- إلى حمل ملف العمل بكل ما يضم من قضايا ساخنة تبدأ بمشكلات البطالة ولا تنتهي بإشكاليات الاستقدام.
الصعوبة الثانية تكمن في غزارة الإنتاج الفكري والأدبي للقصيبي، والعناية الإعلامية الفائقة بعموم ما يتناوله. هذه الغزارة وتلك العناية أسهمتا في كثرة، ما نشر القصيبي، وتنوعه، وما نشر عنه. وهي مقدمة أفضت إلى نتيجتين؛ الأولى أنك مهما تكلفت في المتابعة والقراءة والتحليل فلن تبلغ فهماً تطمئن إلى شموله وعمقه، كما أنك مهما تقشفت في الكتابة بغية الدقة، وطلب الإيجاز، وتجنب التكرار، فإن قلادتك حتماً لن تحيط بعنق التجربة. والنتيجة الثانية أن سؤال الإضافة في مثل هذه الكتابة هو أكثر إثارة للقلق منه في غيرها.
وتأتي الصعوبة الثالثة من أن تجربة القصيبي أثارت، بصفة دائمة، مشاعر حادة معه، وضده، قادت إلى انحياز ظاهر في الكتابة عنها، وهو ما يقلل من فرص الكتابة الموضوعية، أو على الأقل المحاولة التي تسعى إلى ذلك. وتزداد هذه الصعوبة تعقيداً مع التراكم الطويل لمشاعر المحبين والمختلفين معهم، وهو تراكم أسهم في تعميق هذه المشاعر وإلباسها من «قمصان عثمان» ما لا حد له.
هذه الصعوبات لا ينبغي أن تمنع الكتابة الجادة عن تجربة ثرية ومؤثرة، وبالغة الأهمية في تاريخ بلادنا الثقافي. لكن الوعي بها –أي الصعوبات- أمر ضروري للكاتب، كما للقارئ، في كثير مما ينشر عن هذه التجربة. ومن هنا فإن هذه الكتابة تأتي محملة بهذا الوعي، ومثقلة بقلق من ألاَّ ينتبه القارئ إلى أنها جاءت كذلك.
وبعد هذا أقول، إن هذه الكتابة تجيء حاملة وعياً بمسألة ثانية، انشغلتُ بها في أكثر من مناسبة شاركتُ فيها، أو على الأقل تابعتها عن قرب. وتلك المسألة هي أن الاحتفاء بالمبدع وتكريم المثقف في بلادنا لا يليق أن يبقى محصوراً في كتابات تكرر العبارات حتى تقتل المعنى، وكلمات لا تقول أكثر من المعلوم بالضرورة، ومقالات لا تصل الإشادة والثناء إلا بمثلهما. إن تكريم المثقف ينبغي أن يكون فعلاً ثقافياً بذاته، وأن يأتي في سياق التفاعل والاشتراك في تجربة المبدع. لا بد أن يتخطى فعل التكريم التعبير عن الحب والوفاء بأن يضيف إليه التعبير عن الانشغال بالمثقف ونتاجه. وأن يجيء عبر محاولة التفسير، واجتهاد النقد، بما يعبِّر عن أن هذا الاحتفاء لا يأتي إلا لحظة ضمن زمن متصل في جهد المتابعة للمبدع، والعناية بإبداعه. لعل في مراكمة مثل هذا النوع من التكريم إعادة لاعتبار المثقف المحلي، أو إن شئت، إنشاء لذلك الاعتبار.
ظاهرة أم لا؟
يقول القصيبي – يرحمه الله – إن خالد القشطيني هو أول من وصفه بالظاهرة، ويقول إنه لا يرى في وجود شخص يشغل منصباً إدارياً ويكتب شعراً ونثراً ظاهرة. وفي رأيي أن الأمر يتخطى هذا الوصف المتزهد، فهو أكثر تعقيداً مما تقوله عبارة القصيبي.
الظاهرة في تجربة القصيبي هي استمرار محافظته على أن يكون في مركز الاهتمام، وموقع الجاذبية، فيما يقول ويفعل، لمرحلة زمنية طويلة عرفت تحولات عديدة في الظروف والشخصية والموقع، ومرحلة السفارتين واحدة من الشواهد على أن هذه الأهمية لم تكن مجرد ظلال للموقع الوزاري. القصيبي نجح في أن يكون كلمة منزلية -كما بالتعبير الغربي!- وصارت تجربته في دواوين المحبين حكايات مشوقة وأخَّاذة لا يزيدها الوقت إلا إعجاباً، مثلما أصبحت في حديث غيرهم «خير» لا بد منه.
المفيد يجب أن يكون مشوقاً
والمشوق هو، حُكْمَاً، بسيط
وفي تقديري أن هذه الظاهرة تعود لأربعة أسباب. أولها هو أسلوب القصيبي في الكتابة، والحديث. أسلوبه يتسم بالبساطة والوضوح، ومن ملامح هذه السمة الأسلوبية قدرته على إيجاز ما يريد قوله، ووضعه ضمن خلاصات مكثفة، وإن جاء في سياق كتابات مطولة، اقتضاها المقام، لكن القصيبي محدد فيما يقول، وواضح فيما يقصد.
وتشير هذه النتيجة إلى أن التدبر عنده سابق على القول والكتابة. وهذا التدبر المفضي إلى قدر ظاهر من الإتقان والابتكار، يشير إلى أن بساطة القصيبي لا علاقة لها بالسطحية، وإنما هي مهارة إضافية تدعم قدرته على القراءة، وحسن الاستيعاب. ومرد هذه السمة، فيما أرى، هو ارتباط القصيبي المبكّر بالحقلين التعليمي والإعلامي، بل ونجاحه فيهما. فمن مقتضيات النجاح في الأول أن يكون العامل فيه ميّالاً إلى التعقيد، الذي يتطلب القراءة في الكتب والتجارب، والتدبر فيهما ثم استنتاج قواعد نظرية. كما أن من شروط النجاح في الثاني -الإعلام- أن تكون الكتابة قابلة للاستيعاب من شرائح جماهيرية عريضة، بما يقتضي التبسيط.
ومثل هذا يمكن أن يقال عن حفاظ القصيبي اللافت على سمة التشويق فيما يقول ويكتب، ومرد هذا إلى أن الأحداث تلعب الدور الرئيس في حكاية القصيبي، سواء الأحداث التي شارك فيها، أو رواها. بعبارة ثانية، لم يكن القصيبي في مشهدنا المحلي شخصاً عادياً، لأنه شارك دائماً في أحداث غير عادية، أو على الأقل شارك في الأحداث مشاركة غير عادية. كما كتب كتاباته بأساليب تختلف عن المعتاد، وقال ما أراد أن يقول بأسلوب غير معهود. وقد سبق أن وصف القصيبي قاعدة أسلوبه في التدريس بالعبارة التالية: «لا يمكن للمادة أن تكون مفيدة ما لم تكن مشوقة، ولا يمكن أن تكون مشوقة ما لم تكن مبسطة. ولا يمكن أن تكون مفيدة ومشوقة ومبسطة ما لم يبذل المدرس أضعاف الجهد الذي يبذله الطالب».
بالإضافة إلى ذلك، يتوشح أسلوب القصيبي بمسحة ساخرة تعبِّر عن موهبة مميزة، تكفل له الانضمام إلى «الظرفاء»، الأقلية المضطهدة -بحسب تعبيره-. هذه المسحة شكلت عاملاً مساعداً في قول ما يصعب قوله بدونها، وكذلك كانت في قبول ما يقال. وإن كانت تطورت في بعض كتاباته إلى صانع لعمل ذي طبيعة كوميدية مرحة. وفي كل حال قلّصت هذه المسحة المسافة بين المسؤول المثقف والجمهور.
الثقة والإقدام
السبب الثاني للظاهرة، هو تميز القصيبي بروح التحدي، واستعداده الدائم لخوض معركة جديدة. ومن يراجع تجارب القصيبي الإدارية، والإبداعية، سيجد أن هذه السمة ملازمة له في مختلف التجارب. وهي سمة لا بد أن يعاضدها صفتان هما الثقة والإقدام، والأولى تسببت أحياناً في سوء فهم القصيبي، والثانية أدت، في أحيان أقل، إلى «الاندفاع الشديد»، وغير الضروري. وعموماً، لا مناص من أن تقود روح التحدي إلى المعارك، وبطبيعة الحال ليست كل المعارك ذات نهاية سعيدة. الواقع أن حتى تلك المعارك التي ينتصر فيها المرء تخلف غالباً خسائر. وروح التحدي هذه أكسبت القصيبي قدراً ظاهراً من الإعجاب حتى من مختلفين معه، وأسهمت في وضعه ضمن سياق جدل لا ينتهي، مثلما جعلته في دائرة الاهتمام بصفة دائمة ترقباً لما سيكون من أمر التحدي الذي يواجهه، والمعركة التي يخوضها الآن. وهذا رجل في حالة تحدٍ دائمة، فلا غرابة إذن أن يكون المتابعون له في حالة ترقب دائمة.
شفافيته غير المألوفة
السبب الثالث هو الشفافية، أو للدقة الدرجة العالية من الشفافية التي اتسم بها القصيبي. فهو منذ زمن لم يعتد فيه السعوديون على أن بإمكانهم أن يعرفوا عن المسؤول الرفيع أكثر من معلومات قليلة تقال في مناسبات نادرة وتقتصر على العمل الذي يتولى أمره، كان منفتحاً على إشراك وسائل الإعلام، وإطلاع الرأي العام، على ما يجري، وكيف يجري، ولماذا. بل إنه ذهب إلى حد إعلان شهادته في أحداث ذات حساسية، وإن كان ذلك ذلك بعد مرور بعض الوقت.
من يقرأ باهتمام كتابات القصيبي يمكنه أن يكوِّن قدراً كبيراً من تصور ناجح حول مسار حياته، وفكره وسلوكه. تصور يبدأ بالمحطات الرئيسة في تجربته كيف كانت، وكيف عاشها وتفاعل معها، ويمر بمعرفة آرائه في شؤون عديدة، ومواقفه من مسائل عامة متعددة، ولا ينتهي بأي الشعراء يحبذ، وأي النكات تناسبه. وقد أضاف القصيبي عمقاً أكبر إلى هذه الصفة عندما لم يكتف بالتعبير الواضح والحاسم عن نجاحاته، بل وسع دائرة ذلك التعبير لتشمل ما أقر بأنها إخفاقات عرفتها التجربة. وهذه السمة هي جزء من مبرر مشاعر الناس الحادة تجاه القصيبي الإداري والمثقف، فهذه صفة تدفع المحبين إلى إعجاب حماسي، وتقود غيرهم إلى استنكار لا يخلو من غلظة، ربما «لأن كثيراً من الذين يطلبون الصراحة لا يريدونها» كما في تعبيره. وهذه السمة، بالمناسبة، هي شيء من أسباب الذيوع الهائل الذي عرفه كتاب «حياة في الإدارة»، حتى فاجأ الجميع، بمن فيهم القصيبي نفسه.
استقلال الأديب عن الإداري
السبب الرابع هو الاستقلال، وكل استقلال هو محدود بالضرورة، ولذا لم أستعمل كلمة التمرد. القصيبي الكاتب، والشاعر، والروائي، كان باستمرار مستقلاً بحسم عن موقعه الإداري، أو بكلمات أخرى، يبدو واضحاً أن كتابات القصيبي لا تخضع لحسابات موقعه الإداري. بل إن القصيبي كاتب المقالة والشاعر مستقل إلى حد ما عن الروائي. وترجع هذه الصفة في تقديري إلى النظرة الواقعية التي تعاطى بها القصيبي مع المواقع الإدارية المتتالية. فهو الأستاذ الجامعي الذي لم يأنف من أن يبدأ عمله بدون مكتب، ولا من أن تكون مهمته الأولى مجرد لصق الصور على استمارات الامتحانات. وهو كذلك المسؤول الذي لم تصبه الدهشة من غياب الباحثين عنه بعد إعفائه، لأنه أدرك مبكراً أن المهمة الإدارية وظيفة وليست مهنة. لذا كتب بواقعية «ماذا يفعل أصحاب المصانع بوزير صناعة سابق، وماذا يفعل بهم». كما ترجع هذه السمة إلى عمق وعيه بالشرط الإعلامي، ونظيره الأدبي.
وأضيف هنا إلى الأسباب الأربعة الظروف التاريخية التي أحاطت بتجربة القصيبي، فقادته إلى مواقع إدارية متقدمة، وساعدت على أن يكون له حظ التأسيس لأكثر من مشروع مفيد، ومرحلة جديدة، ومنحته بدايات مثيرة، ونهايات صاخبة. فكم أستاذ جامعي يمكن أن يكون عميداً للكلية وهو في الحادية والثلاثين من عمره؟ وما هو حجم فرصة المسؤول في أن يصبح وزيراً وهو لم يتم الخامسة والثلاثين بعد؟ وكم شاعر يحظى ديوانه بلجنة وزارية عليا لفحصه؟ وكم روائي يمكن أن يتسبب عمله الأول في انقلاب المشهد الأدبي في بلاده؟ وأسئلة أخرى مماثلة في تجربة القصيبي يمكن أن يكون أهم ما يستخلص من مجموع إجاباتها أن البطل ليس فقط من يعرف اللحظة التي يذهب فيها، ولكنه أيضاً من يعرف اللحظة التي يأتي فيها. لقد جاء القصيبي باستعداد ملائم، ومواهب كافية، وحظي بدعم كبير رسمياً وشعبياً، وتفهم عميق من النخبة والعامة، وفوق ذلك وصل في اللحظة المناسبة.
حين أجمع هذه الأسباب إلى تلك الظروف فإني أجد نفسي أمام جواب مقنع -لي على الأقل- عن سؤال الفشل الذي عرفه جمع غير قليل من الشخصيات التي شغلت المنصب الوزاري أو الموقع الأكاديمي أو برزت عبر النشر الأدبي أو الصحافي، وسعت إلى أن تتمثل القصيبي لكنها لم تلق من مثل نجاحه شيئاً، ولم تبقَ مركزاً للاهتمام ولا مصدراً للجذب.
من أدواره في المشهد الروائي
سبق أن نشرت قبل أكثر من ثلاثة أعوام قراءة فنية لتجربة القصيبي الروائية، لذا فلا أنوي هنا تكرار ما كتبته هناك. أريد أن أضيف أن القصيبي الروائي لعب دورين أساسيين في المشهد الروائي المحلي. الأول أنه أطلق ما يمكن وصفه بالرواية الجماهيرية، لقد تغيَّر حجم ونوع جمهور الرواية في السعودية بعد «شقة الحرية»، كما لم يتغير من قبلها، أو بعدها. القصيبي الشاعر المعروف منذ عقود، والكاتب المميز، والمسؤول الرفيع عبر سنوات طويلة، نشر رواية أدبية. كان هذا حدثاً جاذباً للجمهور العام. وإذا تذكر القارئ أن القصيبي فعل هذا قبل أن يكون لهذا الفن في السعودية قاعدة عريضة، يمكن أن يتبين مرادي من وصف دور القصيبي تجاه الرواية السعودية بالريادة، وأرجو ألاَّ أكون مبالغاً إذ أقول إن الرواية المحلية، مبدعون ونقاد وجماهير، ربحت من «شقة الحرية» أكثر مما ربح مؤلفها منها، ومنهم.
الدور الثاني الذي لعبه القصيبي بكفاءة في المشهد الروائي المحلي، أنه لم يظهر تجاوباً مع الموجة الواسعة التي انطلقت بولادة «ثلاثية أطياف الأزقة المهجورة»، لتركي الحمد. لقد أغرى النجاح الجماهيري الكبير للثلاثية عدداً ضخماً من الكتّاب، القدماء والجدد، أصحاب العلاقة بالفن الروائي وسواهم، وكذلك فعل بالجمهور، ومن ورائهم الناشرون. تكررت التجربة مئات المرات لتأخذ شكل ظاهرة رئيسة في المشهد الثقافي؛ نص ساخن يمارس أقصى قدر مستطاع من المكاشفة الاجتماعية، ويتشبث بالمشاكسة في مسألتي الدين والجنس، وفي حالات كثيرة يبرز أن النص اتخذ مسار الأدب استجابة لحاجات رقابية. يثير هذا النص ردود أفعال حماسية، وتنتهي القصة عادة بمكسب جيد، مالاً وشهرة. وفي كل ذلك يحال الاعتبار الفني إلى مسألة هامشية. قليلون ضمن ذلك الضجيج الهائل أولئك الذين نجحوا في أن ينتجوا أعمالاً روائية حافظت على حد أدنى من الشروط الفنية، فمثلت أعمالهم أملاً في ترشيد الظاهرة. كان القصيبي أحد أولئك القليلين، وبالنظر إلى القاعدة الجماهيرية كانت أعماله الأكثر أهمية في القيام بهذا الدور.
وماذا عن قصيدة القصيبي؟
تجربة غازي القصيبي الشعرية حكاية أخرى كثيرة الطول، وعريضة الأفق، ومحاولة الإحاطة بها ضمن فقرة في مقال لن تكون إلا طريقاً سريعاً نحو الفشل، لكن إهمال الإشارة إليها تقصير يصعب احتماله مهما حمل صاحبه من مبررات. لذا اخترت أن اكتفي بملاحظتين: الأولى أن التعلق الكبير بشعر المتنبي، الذي ما انفك القصيبي يعرب عنه، لا ينعكس في شعره بنفس الدرجة التي ألاحظ بها انعكاس تجربة إبراهيم ناجي وعمر أبو ريشة، وبدرجة أدنى نزار قباني على شعره. وأجدني هنا اتفق مع من ينسب القصيبي إلى المدرسة الرومانسية في الشعر، بل ويمكن للقارئ أن يلاحظ سمات عديدة لهذه المدرسة ليس في شعر القصيبي فحسب، بل وفي بعض كتاباته النثرية.
الملاحظة الثانية أن حالة التباعد التي نشأت بين القصيدة الحديثة والجمهور، لاعتبارات ليس هذا محل نقاشها، أسهمت إلى جانب التميز الفني، وشهرة المسؤول، في استمرار بروز قصيدة القصيبي، وأكاد أقول انفرادها ضمن مجموعة قليلة بالشعبية من عموم تجارب الشعر الفصيح الراهنة محلياً.
وبعد، فإن تجربة غازي القصيبي تبقى شاهداً على ما يمكن أن يبلغه المثقف السعودي إضافة وتنويراً، وما يمكن أن يسهم فيه الإداري السعودي من إنجاز يعم خيره الوطن. وتبقى هذه التجربة نموذجاً يغري بالاقتداء الذي يعي تعقيدها ويدرك امتناع تكرارها. وتبقى محل تقدير وإكبار، ومصدر إلهام واعتزاز، دون أن تحجب الأمل بأن تولد تجارب أخرى، أرجو أن تكون أنجح، وأعظم فائدة، للوطن وللإنسان.