الثقافة والأدب

عندما يضحك الروس

  • Russian-01

قد يتعجب الكثيرون حينما يسمعون أن للشعب الروسي روحاً ساخرةً مرحة .. فلا أشكالهم – التي نراها في الصور – تبدو كذلك ولا معرفتنا البسيطة بالتاريخ الروسي تكشف عن هذا.. الحقيقة أن الشعب الروسي من أكثر شعوب العالم سخرية وفكاهة، ولعل الذين أتيحت لهم معرفة المجتمع هناك يدركون كم هي عظيمة هي النكتة الروسية، وكم هي عميقة روح الفكاهة لديهم. الزميل حسام عيتاني يفتح لنا دفتر الفكاهة الروسية ملقياً الضوء على الخلفية التي صنعت النكتة الروسية الساخرة مع مختارات متنوعة منها…

تدهشنا المفارقة فنضحك.. تأخذنا غرابة الفكرة إلى تخيل المحال وتصور ما لا يعقل، لكن مفاهيم المفارقات والخيال والمحال لا تعرف الثبات، فهي تتغيّر بتغيّر البيئات والثقافات والتاريخ.

فما كان ينتهي بالقهقهة لدى العرب في زمن مضى قد لا يرسم اليوم على وجوه المعاصرين ابتسامة صغيرة. والفارق قائم أيضا بين ما يراه قوم مضحكاً وما لا يرى فيه آخرون أي مسوغ للفكاهة. ولا عجب إذن في ألا يتفق البشر على تعريف واحد للمضحك، فطبيعة العلاقات والقيم الاجتماعية وغيرها كثير من المعطيات والعوامل تتفاوت وتتباين من شعب إلى آخر ومن إقليم إلى إقليم. وعند النظر إلى ما يطلق الضحكات عند الشعب الروسي لا نرى استثناء لهذه القواعد العامة. وللفكاهة في بلاد الموسكوب شروطها الخاصة وميزاتها. من هذه الميزات أن النكات الروسية غالباً ماتكون على شكل سلسلة تتناول موضوعاً معيناً، يطيب للمزاج أن يتناوله بالسخرية المرة، ومن النادر أن تكون منفردة .. أي أننا نجد على سبيل المثال إذاعة أرمينيا أو حيوانات مثل الدب والأرنب، أي مايشبه كليلة ودمنة في أدبنا العربي.

و يمكن تصنيف النكات الروسية إلى عدة مجموعات، فهناك النكات التي تتناول الأوضاع الاقتصادية، أوالسياسية، والنكات ذات الطابع الاجتماعي، وسلسلة النكات التي تتناول الأقليات العرقية التي تعيش على هامش المجتمع. و قبل الحديث عن كل مجموعة، يجدر بنا التركيز على أداء ما يسمى بـ الروح الروسية لدور مهم في رسم معالم حس الفكاهة لدى الروس، فقرون من الاضطرابات السياسية وآثارها الاجتماعية تركت بصمات واضحة في التركيبة النفسية السلوكية التي تعدّ الفكاهة مرآة يعكس فيها الفرد والجماعة قبول أو رفض متناقضات تحملها الحياة وتوالي الأيام.

على طريق الحداثة الأوروبية
الاحتلال المغولي لروسيا استمر أكثر من قرنين (من العام 0421م إلى العام 0841م)، خلافاً للمناطق الأخرى التي مرّ بها المغول مروراً سريعاً. ويعدّ هذا الاحتلال الضربة الشديدة الأولى التي تعرّض لها المجتمع الروسي الذي كان في ذلك الوقت يخطو خطواته الأولى نحو الوحدة والتجانس السياسي والثقافي.

وكان ثمن إنهاء الاحتلال المغولي باهظاً أعقبه قيام إمارة موسكو التي يعدّ إيفان الرهيب مؤسسها الفعلي وباني الدولة الروسية الموحدة الأولى على أسس من البطش والإرهاب والقمع الدموي. وفي مستهل القرن الثامن عشر الميلادي بدأت حقبة بطرس الأكبر الذي حاول وضع روسيا العملاقة على طريق الحداثة الأوروبية، وتطلبت محاولته فرض إجراءات قسرية لا تتواءم ومستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي المتأثر بعمق بالتقاليد الإقطاعية، وما يصطلح في الغرب على تسميته بـ الاستبداد الآسيوي .

وقد تجددت محاولات التحديث في القرن التاسع عشر لا سيما في عهد القيصر ألكسندر الثالث، الذي دفع البلاد في اتجاه التصنيع، فعمّق – من دون أن يقصد ربما – أوجه التناقض بين الفئات الاجتماعية المختلفة من أرستوقراطية تعتمد على ريع الملكية الزراعية الواسعة، وبرجوازية صناعية ناشئة.

زامنت هذه المحاولات مساعي ألكسندر الثالث لتعميم القومية الروسية، فأسهم في بروز الاحتكاك بين القوميات المختلفة. هذه العوامل وغيرها (كالإفلاس السياسي وانتشار الفساد والبؤس الشديد بين العمال والفلاحين، وعجز الحكم القيصري عن الاستجابة لتحديات القرن العشرين)، حضّرت لثورة 7191م التي حملت الشيوعيين إلى الحكم ليجلبوا معهم أصنافاً جديدة من المعاناة للشعب الروسي، الذي لم يكن ذهوله أقل عندما انهار الاتحاد السوفياتي، فجاءت إلى صدارة الحياة السياسية والاقتصادية فئة اجتماعية جمعت ثروتها من نشاط غير واضح بالنسبة للكثرة الساحقة التي نظرت بعين الريبة إلى الروس الجدد .
وخلاصة هذه اللمحة المختصرة عن المحطات التاريخية الكبرى هي القول: إن الروح الروسية تختزن مقداراً هائلاً من الإحساس بالظلم والقهر، يظهر بخضوع لمشيئة القدر، لكنها لا تلبث أن تعبّر عن مكنوناتها فجأة عبر تطلعات وتصرفات متطرفة (إذا جاز القول) تارة من خلال الإفراط في احتساء الخمور، وطوراً من خلال ما يبدو عنفاً مجانياً لا يمكن تفسيره تجاه الآخر، وطوراً آخر من خلال اللجوء إلى الفكاهة والنكات للتعبير عن عدم الاقتناع، أو بالأحرى عن رفض المفارقات والتناقضات التي يعيشها الفرد والجماعة، و يكون تغييرها عسيراً وخارج المتناول في أكثر الأحيان.

النكتة الرفيقة
رافق كل مرحلة تاريخية تغييرٌ في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تبدلٌ في أنماط السلوك المقبول والشائع، ودخول أشكال جديدة من العلاقات الاجتماعية والتصرف الذي كان عامة الروس يقفون منه مواقف متباينة من الترحيب والتساهل إلى الرفض والاستهجان. وكانت النكتة والطرفة رفيقاً دائماً لهذا التغيير..!

محاولات التحديث على النمط الأوروبي سلّطت الضوء على سذاجة الفلاح الروسي (الموجيك) الذي ربما يتمتّع بقدرة جسدية خارقة وتحمل للمشاق لا نظير لهما، وطيبة قلب نادرة، لكنه لا يفقه خفايا التعامل والتصرف الملائمين اجتماعياً أو ما يسمى (المانيير) و(الإتيكيت).

ويصعب الحديث عن الفكاهة عند الروس من دون المرور – ولو لماماً – بعملاق الكتابة الساخرة نيقولاي غوغول (9081م – 1825م) الذي تعد مؤلفاته مرجعاً في النقد الاجتماعي وفي كشف العلل المتفشية. وقد أسهمت رواياته وقصصه القصيرة كـ(المفتش العام) و(المعطف) و(الأنــف) و(النفوس الميتة) وغيرها، في تكوين نظرة الروس إلى أنفسهم، وفي الوقت ذاته في رفع مستوى فهم العامل الخارجي لروسيا. وكشفت كتابات غوغول حقيقة الأزمة التي كان يعانيها مشروع الدولة الحديثة في روسيا إلى جانب تناول تفاهة الحالة الإنسانية عموماً، فوضع أمام قرائه المشكلات التي يواجهون في قالب من الدعابة والسخرية السوداء..!

وعند ظهور موجة تعميم الثقافة الروسية انتشرت بكثافة النكات التي تتناول أبناء القوميات الأخرى الذين يبدو أنهم يمثلون حالات نافرة وخارجة عن السياق الاجتماعي العام، كسكان أقصى الشمال الشوكتشي واليهود والجورجيين. وجعل أبناء شعوب وقوميات ومناطق أخرى موضوعاً للنكات من الأمور الشائعة في الكثير من الثقافات (الصعيدي في مصر والبلجيكي في فرنسا وغيرهما).

ومن النكات عن اليهود: أن تاجراً يهودياً سأل زميله ما حاصل ضرب خمسة بخمسة، فأجاب التاجر الآخر: هذا يتوقف على ما إذا كنا نبيع أو نشتري..!

وواحدة أخرى تقول: إن يهودياً كان على فراش الموت فتحلق أبناؤه من حوله يسألونه عن أمنيته الأخيرة، فطلب فنجان شاي سكّره وسط. ولما تعجب أبناؤه من هذا الطلب المتواضع فسّر لهم رغبته قائلاً: طيلة حياتي كنت أشرب الشاي من دون سكر في بيتنا كي أوفر ثمنه، وفي بيوت الناس كنت أشربه حلواً جداً كي أكسب السكر، ولهذا فإنني لم استمتع في حياتي بفنجان شاي..!

وفي الاتحاد السوفيتي السابق تعددت أنواع النكات التي تهزأ بمعالم الحياة الجديدة، وكانت أبرزها مظاهر التقشف وانتقاد الروسي لبعض المنغصات في حياته اليومية وأهمها فقدان المواد الغذائية من الأسواق.
ومن هذه النكات على سبيل المثال واحدة تقول: دخل أحدهم دكاناً للمواد الغذائية ونظر إلى الثلاجة فوجدها فارغة، وسأل: ألا يوجد عندكم لحم اليوم؟ فأجابته البائعة: نحن لا يوجد عندنا سمك. لا يوجد لحم في الدكان المقابل!

وذهب أحدهم لتقديم طلب اقتناء سيارة، وبحسب العادة يسجل اسمه بالدور لموعد لاحق، فأبلغه المسؤول أن موعد استلام السيارة سيكون بعد عشر سنوات، فسأل الرجل: قبل الظهر أم بعده؟ فصاح المسؤول: أقول لك بعد عشر سنوات وتسأل قبل الظهر أو بعد الظهر؟ فأجاب الرجل: لأن السبّاك سيدي موعده بعد الظهر!

ونجد نكاتاً روسية تتناول أكثر من جانب من جوانب معاناة الروس دفعة واحدة، مثل نكتة تعبر عن وجود مشكلة وعدم القدرة على إعلانها. ومنها أنه خلال التعتيم الرسمي على كارثة تشيرنوبل النووية، نشر أحد المواطنين إعلاناً في صحيفة يقول: مواطن يسكن على بعد 05 كلم من تشيرنوبل، في بيت مؤلف من ثلاث غرف ومطبخ، مستعد لإبدال منزله بمنزل مماثل في أي مكان في العالم باستثناء ناغازاكي وهيروشيما .

ولمناسبة الحديث عن التعتيم الإعلامي، نشير إلى أن أكبر صحيفتين روسيتين هما البرافدا (ومعناها الحقيقة) والأزفستيا (الأخبار). فظهرت نكتة تقول: ما الفرق بين البرافدا والأزفستيا؟ والجواب هو أنه لايوجد أزفيستيا في البرافدا، ولا برافدا في الأزفستيا.
والواقع أن الكثير من النكات الروسية، مهما نجحت في إضحاك المستمع، تخبئ في طياتها لمسات تشاؤم وحزن متفاوتة في وضوحها. ومن هذه النكات السوداوية بشكل واضح واحدة تقول إن حريقاً شبّ في الدور الثاني من أحد المباني، وأطلت امرأة تحمل طفلهاالرضيع من النافذة وهي تصرخ مستغيثة من النيران، فهتف شاب من بين المتفرجين في الشارع طالباً من المرأة أن تلقي إليه الولد، مؤكداً أنه سيتلقفه بذراعيه لأنه حارس مرمى، فرمت المرأة بطفلها، وتلقفه الرياضي الشاب. ولما راح حشد المتفرجين يصفق فرحاً بإنقاذ الطفل، ما كان من حارس المرمي وحسب عادته إلا أن قذف بالطفل إلى الأمام، ثم ركله بعيداً.. نحو منتصف الملعب.

ومن النكات الروسية أيضاً ما يطال النخب المثقفة. ومما يُروى في هذا المجال يعود إلى عصر ازدهار السوريالية في الرسم والشعر خلال النصف الأول من القرن العشرين. ومثال النكتة السوريالية كالتالي:
سؤال: ما الفرق بين القطة…؟ الجواب: الفرق بين القطة أن قدميها الأماميتين متشابهتين، وخاصة اليسرى.!

وتحتل النكات عن الثمالى مكاناً واضحاً في الفكاهة الروسية جرّاء تفشي هذه الآفة الاجتماعية على نطاق واسع. ومنها أن اثنين من الثمالى ترنّحا في الشارع حتى سقطا أرضاً. فتساءل أحدهما بعد حين ولا زالا مستلقيان أرضاً: هل نستمر في الشراب أم نذهب إلى البيت؟ فأجابه زميله بعد تفكير: إذا استطعنا أن ننهض نستمر في الشرب، وإذا لم نستطع أن ننهض، نذهب إلى البيت.!

ويوفر اليوم الروس الجدد معيناً لا ينضب للنكات التي تتناول تبذيرهم الجنوني للمال في الداخل والخارج فيما يعاني الملايين من الفقر المدقع. ومنها أن روسياً جديداً التقى صدفة بمديره السابق أثناء العهد السوفياتي فسأله هذا الأخير: كيف حالك يا فاسيا؟ أجاب الروسي الجديد: لقد سئمت هذه الحياة. سئمت من جزر الباهاما والمطاعم الفرنسية الفاخرة.. نمط الحياة هذا ينهكني. وماذا عنك؟ رد المدير السابق بحسرة: آه لو تدري. لم أتناول طعاماً منذ ثلاثة أيام. نظر الروسي الجديد إلى الرجل التعيس ثم قال بثقة: أجل، أعاني أحيانا من هذه المشكلة، لكن عليك أن تجبر نفسك على تناول الطعام يا صديقي.

أضف تعليق

التعليقات