الثقافة والأدب

أحمد آل مبارك .. عاد منكسراً من بغداد وعاش بجنيهين في القاهرة
تجربة ثرية على مشارف الدبلوماسية السعودية

يعد الشيخ أحمد آل مبارك شاهداً على البدايات الأولى للدبلوماسية السعودية، نظراً للوظائف التي شغلها في السلك الدبلوماسي السعودي، في مراحل تكوينه الأولى. وحين استوقفه الزميل حبيب محمود من فريق التحرير لتسـجيل شهاداته، وجد فيه ذاكرة حذرة وأمانة على أسرار المسؤولية التي تحمّلها أربعين سنة من عمره الذي قارب التسعين، وحفل، إلى جانب الدبلوماسية، بريادة في مجال الأدب.

حظي الشيخ أحمد آل مبارك بالتكريم اللائــق، بتقليده وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، على يد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس الحرس الوطني، باعتباره الشخصية الثقافية في المهرجان الوطني للتراث والثقافة الثامن عشر (جنادرية 81). وقد جاء هذا التكريم تقديراً لجهوده الملموسة في العملين الدبلوماسي والثقافي ولدوره في خدمة المملكة العربية السعودية .

وفي هذا التكريم مغزىً، يتلخص في أن الدولة، والحديث للشيخ آل مبارك،: تريد أن تـُشعر كل شخص بذل جهداً أن لجهده تقديراً ومكانة ومكافأة، فـيقتدي به الشباب الآخرون ويجدّون مثل جدّه أو أكثر.. وبهذا تتقدم البلاد وتتطور . وفي سجلّ حياة الشيخ جِدٌّ وجهود تشهد بها ملامح المهابة الأنيقة المرسومة في وجه هذا الشيخ الثمانيني الذي جاب بلاد الدنيا، ثم عاد أخيراً إلى حضن أمه: الأحساء..!

وقد خاطب (القافلة)، بلسانين متشابهين: أحدهما لسانه العربي الممتلئ بشواهد الأدب، بدءاً من الأراجيز وانتهاءً بالمقامات.. مروراً بعيون الشعر طبعاً..! واللسان الآخر هو كتابه (رحلة الأمل والألم) الصادر مؤخراً في 443 صفحة، وهو يحمل القسمات ذاتها، والإيماءات نفسها، وأيضاً الذاكرة العائدة إلى زمن العقاد، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، وخير الدين الزركلي، وأحمد العدواني.. وغيرهم وغيرهم..!

بيئة خاصة..!
تشير الذاكرة إلى أن تمرداً ما حرّضه على الهروب والبحث عن ضالة لم تكن موجودة في الأحساء، إبّـان مراهقة الشاب أحمد، فقد نشأ في أسرة توارثت العلوم الدينية أباً عن جد. وهو يصف تلك المرحلة: كنت في بيئة مغلقة لا علاقة لها بالتطور الحديث إلا بقدر يسير جداً، تمثل ـ هذا القدر ـ في الأشخاص الأثرياء الذين يقومون بزيارات للبلدان المتطورة، وهؤلاء قلة في المجتمع . يضيف: وكان أبناء القصيبي والعجاجي يحصلون على الصحف التي كانت تصدر من مصر والعراق ولبنان، ومن خلال هذه الصحف تَفتّحت عينايَ على ثقافة لم تكن موجودة في بيئتي.. كان ذلك في مرحلة مبكرة جداً.. لم تكن هناك مدارس كما هو الحال اليوم .

وأثارت مصادر الثقافة الحديثة في نفس الفتى أسئلة وأسئلة: لماذا لا يجمع الإنسان العلوم العربية والدينية إلى جانب العلوم العصرية؟ هل هناك ما يمنع؟ كيف السبيل؟ . وحين أعرب عن هذه التساؤلات لبعض أقرانه وجدهم يرون في العلوم العصرية سبباً للتهاون بالواجبات، والصلاة، والصيام، وقد تؤدي إلى أفكار يتحقق معها المروق من الدين ..!! وهنا بدأت مفردات التمرد على الرأي السائد تـُكتب في سطور حياته.. ولكن كيف..؟؟

الفتى الهارب
لا بدّ من الخروج من الأحساء.. ولا بدّ لهذا الخروج/ الهروب من إذن من الوالد.. ولا بدّ للإذن من ذريعة مقبولة. وتبع الفتى والده في أحد عشاءات صيف 4531هـ؛ وطلب الإذن بالسفر إلى البحرين بغرض الفرجة والتسلية مؤكداً حاجته إلى الراحة بعد عناء الدروس على يد بعض مشايخ الأحساء. وقد صدر الإذن مشروطاً بمرافقة شقيقه الشيخ عبدالرحمن الذي سوف يسافر بعد صرام النخيل . وهكذا كان، إذ سافرا إلى البحرين أياماً، ثم إلى قطر، ومنها إلى جزيرة (دلما)..! وفي صدفة مرضية، وجد فرصة للانفلات من قيد أخيه فسافر وحده إلى (أبو ظبي)، ونزل في ضيافة الشيخ خلف ابن عتيبة. وفي (أبو ظبي) تعرف إلى كهل إنجليزي مسلم يعمل في شركة (عبّـادان) النفطية، اسمه (عبدالله فاضل وليمسن)، فأنس أحمد آل مبارك إلى عبدالله، وأطلعه على طموحاته العلمية، وأعلن عن رغبته في الدراسة في بغداد.كان هذا الإنجليزي قد أسلم وهو طالب في جامعة أكسفورد، بتأثير زملاء باكستانيين، ودرس اللغة العربية في بغداد والبصرة. فوعده بتقديم يد العون، ثم قذفت به المتاعب بين موانئ الخليج المتباعدة: في البحرين، والجبيل، والقطيف.. وأخيراً في الكويت متأبطاً طموحه وقلقه…!

في ذلك الوقت، كان السفر إلى خارج البلاد يتطلب الحصول على (ورقة عبور) تقوم مقام جواز السفر اليوم. تصدر الورقة من إحدى إمارات الدولة ويتم تحديد وجهات السفر فيها بشكل صريح وحصري، وفي حال رغبة المسافر التوجه إلى دولة غير مدونة في الورقة، فإن عليه العودة إلى البلاد والحصول على ورقة أخرى..! وكانت مشكلة أحمد آل مبارك أنه يحمل (جواز سفر) يسمح له بالسفر إلى الكويت فقط. وحين حطت قدماه – ضيفاً – عند معتمد الملك عبدالعزيز في الكويت الحاج عبدالله النفيسي، كانت المعضلة الكبرى تتلخص في حصوله على وسيلة للحصول على تأشيرة دخول إلى البصرة، ولا يمكن الحصول على هذه التأشيرة إلا من القنصل البريطاني، وهذا الأخير لديه تحفظات عسيرة.. ووصل أحمد البصرة، والتقى صديقه البريطاني المسلم عبدالله فاضل وليمسن، ونزل في ضيافته. ولم تمض أيام إلا وهو في بغداد، عاصمة الرشيد، يرتب وضعه للدراسة في (دار العلوم العربية والدينية)، وحظي الطالب المقبول بلا قيد أو شرط ولا شهادة ابتدائية بالانخراط في المدرسة الإعدادية.

أتيت.. معتذراً..!
ولكن الأقدار وضعت حداً لهذه التسهيلات..! وتوفي مدير المدرسة الشيخ نعمان الأعظمي، وانتهى الأمر بأحمد المبارك إلى الخروج من المدرسة التي حلم بها سنوات. وهكذا استخلص من التجربة المرة أن مخالفته والده، وطلبه العلم من دون إذنه، وراء هذه النكسة المؤلمة.. إذن لا بدّ من العودة إلى الأحساء.. والاعتذار من.. الوالد.. وهذا ما حدث..!! عاد إلى الأحساء منكسراً في رسالة اعتذارية طويلة قدمها لوالده، متأملاً فيها الصفح عما سلف. وطالباً الإذن مجدداً في السفر إلى مصر بغية الدراسة في الأزهر الشريف، والتماس الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ في إعطائه منحة دراسة. وتقبل الوالد الحاني الاعتذار وأذن بالسفر إلى القاهرة.. وبدأت رحلة أمل وألم جديدة في حياة الشيخ أحمد آل مبارك..!

آلام القاهرة
وقد بهرته القاهرة، أول ما وصلها، وقضى أياماً يتجول في معالمها. وحين زار شيخ الأزهر كان خير الدين الزركلي ـ رحمه الله ـ وسيط الزيارة، وكان وقتها مستشاراً للسفارة السعودية في مصر. وبعد الإجراءات التقليدية انخرط أحمد آل مبارك ذو الثمانية عشر ربيعاً في الدراسة.. كان ذلك أواخر عام 1937م.. ومثلما بهرته القاهرة، أذاقته طعم الجوع أيضاً. وعاش فيها معتمداً على جنيهين اثنين ينالهما رأس كل شهر، ثم وقعت الحرب العالمية الثانية، لتمطر على ظمأه مصائب، على حد تعبير المتنبي..!

يقول الشيخ آل مبارك: أصبحت قوة الجنيه المصري الشرائية تتدنى يوماً بعد يوم، حتى وصلت في التدني إلى أن ما كانت قيمته قبل الحرب جنيهاً واحداً أصبح لا يمكن الحصول عليه إلا بخمسة جنيهات… ومعنى هذا أن الجنيهين اللذين هما كل دخلي شهرياً أصبحت قوتهما الشرائية لا تزيد على أربعين قرشاً..!

وماذا أيضاً..؟ يقول: بعد شهر من قيام الحرب العظمى قررت حكومتنا سحب بعثتها العلمية النظامية لعوامل أمنية واقتصادية، وإذا بي أتلقى إشعاراً من المفوضية بالحضور إلى مقرها للأهمية، وبعد مقابلة الموظف المختص أفادني بالأمر.. وأن المطلوب مني هو الاستعداد للسفر . وقتها كان أكثر من أربعين ألف جندي إيطالي يزحفون نحو مصر قادمين من ليبيا. ولم يكن أحمد آل مبارك ضمن البعثة النظامية، لكنه قد يخسر فرصة عمره العلمية لو عاد إلى البلاد مع العائدين.. وقد يخسر عمره لو بقي والإيطاليون يحضرون لمعركة (العلمين).. وبين الخســارتين قــال آل مبارك لخير الدين الزركلي في مكتبه: الذي يسع ستة عشر مليوناً من سكان القطر المصري سيسعني ..!

وما وسع الشيخ آل مبارك في تلك التجربة المريرة كثير. لم يكن الجنيهان يسدّان رمقه في زمن السلم فكيف في زمن الحرب..؟ صحبه صديق له يدرس في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة لاحقاً) إلى طبيب لمعرفة مشكلة الهزال الشديد الذي يبدو عليه.. وهناك اكتشف الصديق أن (أحمد) يعاني سوء التغذية..! وبطريقة غير مباشرة يجتمع خمسة من الأصدقاء ويقررون اقتطاع جزء من مكافآتهم الشهرية لصالح صديقهم، فيرفض العرض شكلاً ومضموناً. وفي يوم 22 رمضان 2631هـ قرأ أحمد المبارك برقية أنهت سنوات من الجوع والحاجة.. كانت موجهة من الملك عبدالعزيز، رحمه الله، إلى السفارة السعودية في القاهرة.. ومفادها: الموافقة على إلحاق أحمد آل مبارك بالبعثة الرسمية..!

فصول العمل
في عام 1731هـ عاد إلى الوطن متأبطاً ليسانس اللغة العربية وآدابها من الأزهر، ودبلوم التربية وعلم النفس من المعهد العالي بجامعة عين شمس. واتجه نحو مديرية المعارف بمكة المكرمة (وزارة المعارف لاحقاً)؛ وشغل وظيفة مفتش عام. ومن هذا الموقع انكشفت له صورة واقع التعليم في البلاد.. كانت أفضل المدارس في مكة المكرمة، لأنها بدأت قبل غيرها. وقد استفادت الحجاز من موقعها وتدفق الحجاج عليها.. هذا الواقع السكاني فرض تلاقحاً في الثقافات، ولذلك تجد أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة يحرزون تقدماً باستمرار، وقد انعكس أثر ذلك على مدارسهم. وعلى الرغم من البدائية ؛ فإن طلاب ذلك الزمان كانوا أذكياء.. كانوا يعتمدون على جهودهم الشخصية في التحصيل ولا يقصرون اهتمامهم بالمناهج الدراسية المقررة.. والعلم هو المطالعة.. العلم ليس بالشهادات.

وكشاهد على عصر التعليم، في المملكة، يهتم الشيخ آل مبارك بالدور الصعب الذي لعبته مديرية المعارف، ولاحقاً وزارة المعارف التي تأسست على يد خادم الحرمين الشريفين ، بوصفه أول (وزير للمعارف) في المملكة، فقد كانت تبعث بمفتشيها إلى شعاب الجبال، والقرى النائية، بحثاً عن الاحتياجات الفعلية للتعليم. ويتذكر الشيخ أن الوزراة، في بداية تأسيسها أنشأت 072 مدرسة في عام واحد.. كان ذلك عام 4731هـ .

في وزارة الخارجية
بعد تأسيس الوزارة عمل الشيخ مديراً للتعليم في منطقة جدة. وفي عام 5731هـ انتقل إلى وزارة الخارجية مديراً للإدارة الثقافية والصحية فيها. وسرعان ما نـُقل إلى سفارة المملكة في عمّان، ومنها إلى وظيفة (مستشار) في السفارة في الكويت. ثم عاد إلى ديوان الوزارة في إدارة النشر، ثم عيّن قنصلاً في البصرة، ثم عاد إلى الوزارة مدة عام، ليشغل منصب القائم بالأعمال في سفارتنا في غانا.. ومنها إلى دولة قطر سفيراً في أول استقلالها. يقول عن هذه السنوات: كانت سنوات صعبة، أمضيتها وأسرتي في قلق متواصل من عدوى الملاريا والحمى الصفراء..! الحماية الوحيدة كانت توفرها حبة نتناولها يومياً للوقاية من الملاريا.. وتعودنا تناول هذه الحبة، حد الضجر من هذا الدواء الوقائي اليومي.. أتذكر أن نوعاً وقائياً آخر حصلنا عليه، هذا النوع كان أسبوعياً، وأتذكر الاستبشار الكبير الذي عاشه الوسط الدبلوماسي حين سمعنا بنبأ الحبة الأسبوعية ..!

وثمة ما يميز تلك السنوات الخمس غير الملاريا والحمى الصفراء، إنها العلاقات الودية التي تربط سفراء الدول العربية في غانا: كانت علاقات دولنا تسوء في وقت من الأوقات.. مع ذلك، كنا نحافظ على علاقات أجمل من علاقات دولنا.. وكنا نجتمع كل أسبوعين مرة واحدة، فلما وقعت حرب 76 تحولت الاجتماعات إلى يومية، كانت الغربة سبباً في القرب على الرغم من اختلاف بعض الحكومات !

السنوات الخمس كان لها إنجازها الذي يفخر به الشيخ آل مبارك: انصب اهتمامي على رعاية شؤون المسلمين امتثالاً لدور الدولة في رعاية هذه الشؤون في العالم.. فالأقلية الإسلامية هناك كانت تتعامل سلبياً مع واقعها، خاصة في جانب التعليم.. وكان دورنا هو تحفيزهم على التعامل الإيجابي والاهتمام بالتعليم سعياً إلى بناء أنفسهم ثقافياً وصناعة الكوادر. فضلاً عن ذلك كنا نقدم لهم التسهيلات والمنح الدراسية والمساعدات الأخرى .

شــهــادة
سألناه: ألم يـُفسر هذا النشاط على أنه تدخل في الشؤون الداخلية الغانية؟ فقال: كنا نتعامل مع مواطنين غانيين، وعلاقتنا بهم هي المساندة الثقافية والصحية والإنسانية على أساس احترام سيادة بلادهم وقوانينها. والدبلوماسي يجب عليه أن يكون حكيماً. والخطوط العريضة للدبلوماسي السعودي تتركز في العمل الدبلوماسي البعيد عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد التي يعمل فيها .

وسألناه: عاصرتم ثلاثة وزراء خارجية في البلاد: الملك فيصل، إبراهيم السويل، الأمير سعود الفيصل.. فكيف تضع قراءة سريعة لهذه الشخصيات..؟ فقال: الملك فيصل، رحمه الله، كان مضرب مثل في تصريف الأمور المعقدة. كان يعرف كيف يتصرف، كان يبسط الأمور ويضع لها حلولاً حاسمة وحكيمة. وابنه الأمير سعود الفيصل ينطبق عليه المثل القائل: (الفتى سر أبيه). أما الشيخ إبراهيم السويل فقد كان دبلوماسياً لبقاً ناجحاً .

أضف تعليق

التعليقات