بيئة وعلوم

عاداتنا البيئية

  • Envi-07
  • Envi-02
  • Envi-03
  • Envi-04 (small)
  • Envi-05

في حياة كل منا مجموعة عادات يومية وأوجه سلوك تتعلق بالبيئة المحيطة به، وتكشف عن حقيقة تعاطيه الشأن البيئي. قد لا تبدو هذه العادات مختلفة اليوم عما كانت عليه قبل أسابيع أو أشهر قليلة، ولكنها تختلف كثيراً عما كانت قبل عشر سنوات . لقد تغيرت حتماً …

وتؤكد معظم الدراسات الحديثة أن سلوك الإنسان في حياته اليومية على صعيد علاقته مع البيئة تحسن بنسبة كبيرة عما كان عليه حتى الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، وهذا التحسن تحقق نتيجة حملات التوعية والضغوط التي اتخذت أشكالاً مختلفة واعتمدت أساليب متعددة ترغيباً حيناً وترهيباً أحياناً. وقبل الغوص في تفصيل هذا التغير، لا بد من التوقف أمام “الترهيب”، أي الأرض التي قامت عليها حملات التوعية واستدعت منا تغيير سلوكنا وعاداتنا اليومية.

أرقام خارج العادة
خلال مائة عام فقط (بين عامي 0981 و0991 م تحديداً) سُجلت أرقام لم يعتَدْها الإنسان، فقد زاد عدد سكان العالم أربعة أضعاف وزاد عدد سكان المدن ثلاثة عشر ضعفاً، وزاد اقتصاد العالم أربع عشرة مرة، وإنتاجه الصناعي أربعين مرة، واستعماله للطاقة ثلاث عشرة مرة، وزاد تلوث الهواء خمس مرات وأكسيد الكربون سبعة عشر ضعفاً، والرصاص ثماني مرات، وزاد استهلاك المياه تسع مرات، ووتيرة صيد السمك خمساً وثلاثين مرة، وزادت مساحة الأراضي المزروعة مرتين، وبالمقابل انخفض عدد الطيور واحداً في المائة، كذلك انخفضت مساحة الغابات بوتيرة تسارعت عشرين مرة.

وراح المناخ، الذي شهد تبدلاً خلال العشرة آلاف سنة الأخيرة، يشهد تغيراً سريعاً نتيجة انبعاث الغازات في الغلاف الجوي المحيط بالأرض. وقدّرت منظمة الصحة العالمية سنة 8991م أن أكثر من مليار إنسان (من أصل 8.1 مليار) من سكان المدن في العالم، يتنفسون هواءً لا يتمتع بالمواصفات الصحية من حيث احتواؤه نسبة عالية من ثاني أكسيد الكبريت ومن الدخان والغبار.
تربة الأرض -بدورها- تتعرض للانجراف بسرعة كبيرة، إذ تعرّى حتى الآن ثلث اليابسة على سطح الأرض. وتُقدّر منظمة الغذاء والزراعة العالمية “الفاو” التابعة للأمم المتحدة أن ما يُدمر من الأرض الزراعية بسبب عوامل التعرية يتراوح ما بين 3.0 و5.0 ٪ كل سنة.

الإعلام والتكرار المفيد
أمام هذه المعطيات المثيرة للقلق راحت الجمعيات البيئية تتألف أينما كان، وتوجّه ضغطها في كل اتجاه. بعض هذا الضغط وُجّهَ إلى الحكومات التي راحت تسن القوانين اللازمة لحماية البيئة ووقف تدهورها، ومنها أيضاً ما كان موجهاً إلى كل فرد في منزله وفي حياته اليومية، بما يمثل دعوة إلى تغيير سلوكه البيئي نحو الأفضل.
الإعلام كان من أمضى الأسلحة في معركة تغيير عاداتنا اليومية مع البيئة، فقد عملت وسائل الإعلام في المجال البيئي على مجموعة خطوط متوازية نذكر منها:

– إظهار العالم وكأنه في الواقع قرية صغيرة يمكن لأي حدث بيئي في طرفها أن يؤثر فيها كلها، وتوضيح مدى تأثير الأحداث البيئية مهما كان بعدها عنا.

– تعميم التجارب الناجحة في الدول المتقدمة واعتبار الإطناب في تقديمها مثلاً يُحتذى، وشرح النتائج الإيجابية التي أوجدها الاهتمام بالبيئة في هذه التجارب.
– التكرار والإلحاح على وجوب فعل كذا وعدم فعل كذا… لأن التكرار ينعكس على من يصعب تعليمهم. غير أن أنجح مافعله الإعلام – ومن خلفه دعاة حماية البيئة – كان ربط تعاملنا اليومي مع البيئة بمفهوم الأخلاق الحميدة، وهنا راحت عاداتنا البيئية تتغير يوماً بعد يوم.

سلوك جديد وجيّد
لو احتسب أي منا عدد أفعاله اليومية التي عدّلها بنفسه (ولو مكرهاً) تماشياً مع مقتضيات احترام البيئة لوجد أنها عديدة، وأكثر بكثير مما كان يظن. فهذا سائق سيارة ينبعث منها دخان أسود كثيف لعطلٍ ما، يقول إنه لا يستطيع أن يجول بها، ويضحك محرجاً وهو يفسّر: “لأن الناس ستشتمني”..!

وفي المدن بدأ رمي القاذورات على الطرقات بالانحسار النسبي. والذين لا يزالون يمارسون هذه العادة السيئة صاروا يلتفتون يميناً وشمالاً للتيقن من أن أحداً لا يراقبهم، إما خجلاً وإما خشية سماع كلمة تأنيب ستكون- ولا شك- صحيحة وفي محلها. كُثُرٌ منا صاروا يضعون أكياساً صغيرة في سياراتهم لجمع النفايات الصغيرة، ويتخلصون منها لاحقاً في المكان المناسب.

تجارب فرز النفايات المنزلية، التي بدأت قبل أكثر من عقد في أميركا والبلاد الاسكندنافية، انتشرت بسرعة في العديد من الدول النامية وقد تعمّ العالم بأسره قريباً. حتى في الدول النامية تجاوبت ربات البيوت مع القضية على نحو فاق التوقع الأوليّ .

والأشجار … صحيح أننا في البلاد العربية نحبها منذ زمن بعيد، نحافظ على القليل منها ونسعى إلى إكثاره. ولكن سلوكنا اليومي صار أكثر حساسية تجاه ما نراه منها في شوارعنا وحدائق منازلنا. نسعى جاهدين للمحافظة عليها، ونعدّ إظهار علامات التأثر لقطعها واجباً أخلاقياً.

يخطئ من يعتقد أن عاداتنا الجديدة هذه شكلية فقط، أو معلبة من دون وعي، فالمثقف المُتَنَوِّر يجد حرجاً كبيراً في إلقاء ورقة صغيرة على رصيف شارع لكنه تجاوزالحرج في إلقاء قشور البرتقال مثلاً في بستان ما، لعلمه أن هذه القشور ستتحلّل وتتحوّل إلى سماد عضوي.
وأينما ظهر حلٌّ جديد لمعضلة بيئية، صار هذا الحل يفرض نفسه على حياتنا اليومية، فأكياس -النايلون- التي نحمل فيها مشترياتنا اليومية من المخازن بدأت تقل عدداً في العديد من الدول، لتحل محلها أكياس الورق القابلة للتحلّل في التربة. وتأكيداً على أن هذا التغييّر في عاداتنا اليومية واقعاً وليس أمنية، نرى متاجر عديدة تعلن أن البضائع التي تبيعها تُغلف في أكياس ورقية تتحلّل عضوياً.

أصدقاء الفيلة
يصعب حصر المجالات التي تغيرت فيها عاداتنا اليومية على الصعيد البيئي، فهي تبدأ بأبسط المسائل، مثل النظافة العامة في الشارع، وتنتهي في مجالات مشتركة بين البيئة والتوعية الصحية، مثل الامتناع عن التدخين هنا أو هناك، واعتماد الأغذية الخالية من المواد العضوية لا لدواعٍ صحية فقط، بل لأن المبيدات والأسمدة الكيماوية تلحق أضراراً فادحة بالأرض والهواء والمياه الجوفية. وهذا التغيير وصل أيضاً إلى حملات حماية الطبيعة والأنواع المنقرضة.

وراحت الحكومات المختلفة تمنع صيد الفِيَلة التي كادت تَبيد على أيدي الطامعين في أنيابها العاجية، وبعض الدول (مثل الولايات المتحدة) منعت منذ ثلاثة عقود أو أكثر إدخال العاج إلى أراضيها في أي شكل من الأشكال، عند ذلك ظن تجار التحف أن أسعار العاج ستزيد كثيراً نتيجة قلة العرض. ولكن لا شيء من هذا حصل، بل انخفض الطلب بدوره، وصار هواة تحف كثر يرفضون اقتناء أية قطعة من العاج مهما كان ثمنها بخساً، تضامناً مع الفيلة ودعماً لمشاريع منع صيدها..!

وفي العموم صار تعاملنا مع الحيوانات أرقى من ذي قبل، فاقتناء حيوان أليف صار يعني نسج علاقة شبه دائمة مع طبيب بيطري. واختفت لا مبالاتنا القديمة تجاه حيوان يتعذب في الشارع ليحل محلها اهتمام حقيقي به وتعاطف معه.

حماية البيئة لمن يحب الحياة
لقد جعلت وسائل الإعلام المتطورة وشبكات الاتصال الدولية الحديثة العالم قرية واحدة، فما إن تحدث كارثة طبيعية في منطقة ما حتى تنتقل أخبارها تفصيلاً إلى كل البيوت على سطح هذه المعمورة. ولأول مرة نشعر أننا مهددون يحيق بنا الخطر، وأن عدّونا المشترك هذه المرة هو ما جنته حضارتنا وما تقترفه أيدينا كل يوم.

وعندما يُحس الإنسان بالخطر يبدأ بمراجعة عاداته اليومية (إن لم نقل المساومة على عاداته الاجتماعية) وهكذا بدأ المجتمع البشري في إعادة صوغ أخلاق التعامل مع الكائنات الأخرى التي تشاركه العيش على هذه الأرض والتعامل مع موارد الطبيعة الصامتة، وبتعبير آخر: أقرَّ الإنسان بحقوق بيئته عليه وبدأ يفكر في إنصافها.

والحقيقة التي لا بد من أن يوافق عليها الجميع هي أن أي إصلاح قانوني أو عملي أو سياسي تجاه البيئة سيبقى ناقصاً لا يفي بالغرض إلا إذا اقترن بنشاط الإنسان الفرد المقتنع والمتحمس والمؤمن بحق البيئة وبواجب حمايتها لتقف أخلاقه رقيباً على تصرفه. ليس المطلوب أن ننسف قواميس أخلاقنا أو أن نغيرها، إنما المطلوب هو أن نطور عاداتنا كي تصبح البيئة جزءاً من تفكيرنا وتصرفنا اليومي (في الوعي واللاوعي) وهذا ما روّج له أحد برامج الأمم المتحدة قبل خمس سنوات، وقد بدأ ذلك يحدث بصورة تلقائية.

لقد وفرت مدنية القرن العشرين فيضاً في إنتاج المواد الغذائية، وقضت علومها على عدد من الأمراض والأوبئة، لكنها كانت أرضاً خصبة لانتشار أمراض جديدة ستكون الشغل الشاغل لأجيال المستقبل، التي لا بد من تربيتها على قيم تأخذ في حسبانها ما لم يكن وارداً عند أسلافها. وكما لاحظ أرسطو فإن الأخلاق هي أكثر فروع الفلسفة تطبيقاً، فلا بد من أخلاق بيئية، وهذه الاخلاق ليست محلية خاصة بشعب دون غيره بل عالمية شاملة يتحلى بها الجميع، وهي جسر عبور بين الثقافات والحضارات. وقبل أن تسود الأعراف الجديدة سنظل نعاني، لكن المعاناة ليست كارثة إلى الحد الذي يصوره البعض، فحيث يعجّ المكان بالحياة لا يكون الظلام دامساً. وإذا كان المتشائم لا يرى إلا أمراضاً جديدة وطبقة أوزون تتآكل، فإن المتفائل يرى انخفاضاً لعدد الذين يعانون المجاعة (بدءاً من سنة 0691م) وازدياداً في معدّل إنتاج الحبوب يفوق وتيرة ازدياد عدد سكان الأرض (بدءاً من سنة 8791م)، ويرى أن 8٪ من مساحة العالم قد عُزلت (محمياتٍ أو ما شابه) لحماية الحياة البرية، ويرى أن نسبة تلوث الماء والهواء بدأت بالانخفاض في أكثـر الدول الصناعية (منذ سنة 0791م). قد نوافق المتفائلين رأيهم وقد لا نوافقهم، فحدس الإنسان لا يُقمع، لكن بعض المحللين يصر على أن التهافت قد أصبح تحت السيطرة، ويبقى للإنسان الجديد أن يقرر مصير بيئته.

العلم الذي استُغلّت نتائجه لإغراق البيئة بالتجاوز انتفض للتكفير عن ذنوبه، فمدّ لها يد العون وراح يُسجل في كل يوم اختراعاً جديداً يصنف في خانة الدفاع عن البيئة والبحث عن طريق خلاصها. وفي ما يلي بعض ما أحرزه العلم (والتكنولوجيا) في خدمة البيئة:
– استبدل كوابل النحاس بكوابل من الألياف البصرية لنقل الإشارات الإلكترونية. إن كيبلاً واحداً زنته 56 غراماً من السيليكار (S1O2) يستطيع نقل إشارات أكثرعدة مرات من كيبل نحاس زنته 9.0 طن.
– ابتكر العلم أقراص الحاسوب لخزن المعلومات فحلّت محل الورق لتوفر منه الأطنان.
– صُنعت مواد صلبة جديدة لبناء ناطحات السحاب فوفرت 53٪ من وزن الصلب الذي كان يستعمل سابقاً.
– السيارات الجديدة أخف وزناً من سابقاتها نحو52٪ وكذلك التلفزيون والغسالة و…الخ.
– في بناء بيوت الخشب استُحدثت طرق لتوفير 07٪ من وزن الخشب.
– منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم تبدلت سماكة أكياس النايلون المستعملة لتصبح أرق بنسبة 07٪.
– علب الحليب البلاستيكية أصبحت أخف وزنا من سابقاتها بـ 04٪.
– الأكياس المصنوعة من اللدائن (البلاستيكية) المستعملة لتغليف المأكولات المجلدة أصبحت أقل وزناً بنسبة 98٪.
– حفاظات الأطفال الحديثة توفر 05٪ من الورق.
– نسبة تراكم النفايات انخفضت إلى النصف بسبب اتباع طرق التسميد وإعادة التصنيع.
هذه المنجزات مرشحة لأن تتضاعف مرات ومرات في ما يشبه الثورة الجديدة في الإنتاجية، حسبما جاء في تحليل نشر في كتاب “رأس المال الطبيعي” الصادر عام 9991م .

أضف تعليق

التعليقات