لم تكن مدينة روتردام الهولندية يوماً وجهة محبَّبة للسياح. فقد اعتاد سكانها على الحياة بعيداً عن كاميرات السياحة العالمية، وفنادقها تعتمد بالأساس على السياحة الداخلية. والمدينة التي دُمِّرت بالكامل خلال الحرب العالمية الثانية، تعج بمبانٍ هندسية حديثة، صُممت خصيصاً لتستوعب حمولة المدينة المكتظة بالبشر والأجناس، وهي تشبه في ذلك مدناً كثيرة أخرى. لكن روتردام كان ينقصها نوع من الجاذبية الجمالية التي تمنحها هوية مختلفة. وكانت توصف بأنها مدينة الإسمنت والحديد الصلب، وهي الصلابة نفسها التي على وجوه سكانها. لكن هذا كله تغيَّر بالكامل مع ظهور مبنى السوق الجديد في وسط المدينة. فبعد افتتاح هذا المبنى مباشرة، صنَّفتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في المرتبة العاشرة ضمن قائمة ضمّت 52 وجهة سياحية، وكذلك فعل الدليل السياحي الشهير «راف غايد»، الذي وصف المدينة بأنها «مدينة الهندسة العجيبة».
بدأت فكرة بناء السوق مع تشدُّد القوانين والإجراءات الأوروبية الخاصة التي حظرت عرض اللحوم والأسماك والفواكه والخضار في أسواق مفتوحة.
ويُعد سوق روتردام أول سوق شعبي بسقف مغطى، إلا أن المصممين حرصوا على أن يبدو كما لو أنه في الهواء الطلق، كعادة الأسواق المفتوحة، فرفعوا من السقف إلى درجة لا تشعر بوجوده. إضافة إلى أن الأشكال ثلاثية الأبعاد التي تزيِّن السقف تمنح الناظر إليها إحساساً بأنه يستلقي في الهواء الطلق ويتطلع إلى سماء مزينة بالخضار والفواكه والأبقار والعشب والشمس.
انطلق بناء السوق في 19 نوفمبر 2009م، واستمر حتى 1 اكتوبر 2014م، تاريخ افتتاحه لأول مرة من قِبل الملكة ماكسيما، زوجة الملك فيلم ألكسندر ملك هولندا.
متحف في سوق الخضار؟
أثناء القيام بالحفريات في منطقة روتا، وهي الجزء الذي أقيمت عليه مدينة روتردام القديمة في عام 1270م، عُثر على آثار تعود إلى القرون الوسطى، تتمثل في أوانٍ فخارية، وأسلحة تستعمل في الصيد البري، وحلي وغيرها. بعد أن انتهى بناء السوق، تم تخصيص قاعة به لعرض هذه التحف، إلى جانب الصور التي تصوِّر تطور المشروع من مرحلة حفر الأساس إلى تحوُّله إلى أشهر مبنى في روتردام.
أكبر عمل فني في العالم
11 ألف متر مربع من الألوان الناطقة بالحياة، يضمها هذا المبنى الذي يُعد أكبر عمل فني عالمي، وهو من تصميم الفنان الهولندي آرنو كونن. وقد أطلقت عليه أسماء كثيرة، لكن أشهرها: قصر الفضاء، في إشارة إلى حجمه الضخم.
في حوار له مع صحيفة عالمية قال مصمم المشروع: «العمل بعظمته لا يقل جمالاً وإتقاناً عن الصروح العمرانية الكبرى في عصر النهضة. تستطيع أن تقول إنه قصيدة للكون».
صُمِّم هذا المبنى على شكل قنطرة، في قلبها المجوف يوجد السوق والمقاهي والمطاعم والاستراحات، ومتاجر البهارات والأغذية واللحوم والأسماك، وغيرها مما تجده في الأسواق الشعبية. وخارجه عبارة عن شقق مخصصة للسكن، تمتلك كلها نوافذ تطل على السوق من الأعلى. وجاء تصميمه في إطار تجديد وسط المدينة التي تهدَّمت بالكامل خلال الحرب العالمية الثانية.
ويتحدَّث بعض المراقبين عن «سيكولوجية» خاصة تتميز بها مدينة روتردام، وهي البناء تحت الجسور وفي الأنفاق، كما لو أنها تخشى أن تتعرَّض إلى حرب جديدة. وربما هذا السوق أيضاً لا يختلف عن باقي مباني روتردام في إيجاد النفق العظيم الذي يميِّز المدينة، إلا أنه نفق زاهٍ، وملوَّن، ومملوء بالحياة.
كان التحدي الأكبر بالنسبة لبلدية روتردام يتمثَّل في إيجاد سوق ومبنى سكني ومواقف سيارات ضخم في المنطقة نفسها. هذا ما تمكَّن المصمم الهولندي من تحقيقه بالفعل. لكن التحدي الأصعب كان ألا يتحوَّل السوق إلى رواق تسوق للأثرياء فقط، على غرار «هارودز» في لندن أو «باينكورف» في هولندا. ولم يكن الأمر سهلاً. فوجود سوق شعبي تحت سقف مبنى يُعد تحفة فنية مكلفة ومجازفة حقيقية، اعتقد البعض أنها ستنتهي إما بفقدان المبنى لقيمته الفنية أو بفقدان السوق لطابعه الشعبي البسيط.
لكن بلدية روتردام نجحت في كسب التحدي، عبر الإصرار على عكس التنوع الموجود في المدينة داخل السوق. فتجد بائع البهارات المغربية إلى جانب بائع لحم البقر الهولندي وبائع الخضر والأسماك السورينامي يحاذيه مطعم مغربي، وفي جوار المطعم بائع الورد الهولندي وبائع الخبز التركي.. في تنوع واختلاف مبهر، لا يقل جمالاً وتفرداً عن الاختلاف الذي تتميَّز به مدينة روتردام التي تضم أكبر جالية مغربية على الإطلاق، وعمدتها أحمد أبو طالب هو أول عمدة هولندي من أصل مغربي، كما تضمُّ أيضاً جالية كبيرة من الأتراك والسورينام والإندونيسيين، وغيرهم.
وعندما سُئل مصمم المبنى: متى تستطيع أن تقول إن المبنى نجح في تحقيق التوازن المطلوب منه؟ قال: «عندما نسمع داخله صراخ الباعة، ونرى على أرضه وروداً متناثرة، ونشم داخله رائحة الشواء، تماماً كما يحدث في الأسواق المفتوحة، لا نريده أن يتحوَّل إلى سوق للنخبة، لذلك راعينا الذوق الفني للعامة، بحيث نقرّبهم من الفن، ونقرّب الفن منهم، فالأشكال المرسومة على السقف رغم فنيتها الشديدة إلا أنها تعكس حقلاً معرفياً وبصرياً مألوفاً وقريباً من عامة الناس، وهو الخضار والغلال والأبقار، والشمس والأسماك».
هوية المبنى
للمباني هويات كما للبشر. هذا ما يقوله مبنى روتردام ويؤكده مصمّموه. فالمبنى الذي لا يعكس هوية محدَّدة وواضحة يصبح مبنى هجيناً ودخيلاً على المكان الذي يوجد فيه وعلى مرتاديه.
لهذا السبب تحديداً، ولأن مدينة روتردام تُعد ثاني أكبر مدينة هولندية من حيث التعداد السكاني، وتنوع الأجناس واللغات، فقد حرص المبنى على أن يتكلم لغة يفهمها الجميع، ويعكس صورة قريبة من الكل، ويزيِّن جدرانه بألوان الطيف التي تميِّز المدينة. وإذا كانت شوارع المدينة تفرق بين الذاهب والقادم، وبين الغني والفقير وبين أبنائها الأصليين والدخيلين عليها، فإن سوق روتردام يجمع ويوحّد، هو نقطة تصب فيها المدينة كل اختلافاتها، فتُمحى الفوارق، وتتقارب الأجسام، وتتماس الأرواح.
يُعد سوق روتردام أول سوق شعبي بسقف مغطى، إلا أن المصممين حرصوا على أن يبدو كما لو أنه في الهواء الطلق، كعادة الأسواق المفتوحة فرفعوا من السقف إلى درجة لا تشعر بوجوده
كثيرون يأتون إلى السوق للجلوس في أحد مقاهيه الشعبية، أو لتناول وجبة غداء خفيفة في فسحة العمل القصيرة، ويأتيه آخرون للتبضع، أو التنزه، أو التمتع بالنظر إلى سقف المبنى، والتقاط الصور، وهناك طبعاً من يأتيه لأنه يقيم فيه، أو بالأحرى في الشقق المبنية فوقه، التي تمكِّن من يسكنها من أن يطل على السوق، ورواده من نافذة زجاجة، ويتابع تحت قدميه مشهداً يومياً حياً يضج بالحياة والحركة.