حياتنا اليوم

سقوط المدخن
من المجتمع المدني

فجأة غدا العالم في نظر المدخّن – الذي كان حتى الأمس القريب معتدّاً بنفسه – مجموعة أماكن غير متاحة للمدخنين! فجأة طُرد المدخن من المجتمع المدني..
وهذا ما دعا ماجد نعمة لمشاركة فريق التحرير في رصد هذا التطور الذي يتحول إلى ظاهرة عامة في كل مكان.

كنتُ أتسكع في شوارع بوسطن، وهي واحدة من أكثر مدن أميركا تسامحاً، عندما استوقفني مشهد شلّة من أصحاب الياقات البيض وربطات العنق الأنيقة جالسين عند واجهة مدخل إحدى ناطحات السحاب، يسحبون – بحياء وحرج – بعض أنفاس سجائرهم، حاملين أوراقاً في أيديهم ينفضون فيها الرماد..!

ظننتُ في البداية أن الأمور قد انعكست وأن هؤلاء المديرين وكبار الموظفين قد أعلنوا الإضراب احتجاجاً على ظروف عملهم أو تناقص أرباح أسهمهم، غير أن الواقع كان أبسط من ذلك بكثير. لقد فقدوا حق التدخين في مكاتبهم، فاضطروا ـــ صاغرين ــ إلى الهبوط عشرات الطوابق ونفث دخانهم في زاوية الطريق …!!

هذا المنظر تراه أينما تجولت في أي ركن من أركان المدينة المعاصرة. لقد انقلبت الدنيا على المدخن بتسارع غريب واختفت صورته الأنيقة، سيداً من أسياد الاستمتاع، من الواجهة تماماً. حتى منظر منفضة السجائر التي تنبعث منها رائحة البقايا، لم يعد مقبولاً. أصبح المنظر منفّراً. كان المدخن في الماضي إذا ما دخل مقهى أو جلس لدى مضيف وأخرج علبة السجائر من جيبه يتوقع أن توضع المنفضة أمامه في الحال ودون تباطؤ، أما اليوم فيجهد قبل أن يحصل على واحدة بعد أن يستأذن لتدخين سيجارته.

في المطارات التي تتغاضى جزئياً عن المدخنين تراهم يتجمعون في زاوية مستورة قرب مقصف للقهوة، وعلى المدخن المرتبك أن يبتكر لنفسه مطفأة مؤقتة من علبة عصير أوكأس ورق في قاعه قليل من الماء.!

على متن الطائرة التي مرّ فيها المنع على مرحلتين، لا يكتفي قائد الطائرة في كلمة الترحيب بالمسافرين بالإشارة إلى أن التدخين ممنوع بتاتاً على متن الطائرة. بل يضيف: إن التدخين ممنوع في دورة المياه أيضاً! ويحذر (تحت طائلة الملاحقة القانونية) من العبث بأجهزة كشف التدخين الموجودة فيها، أي أن المدخن أصبح متهماً بأخلاقه حتى بالمخالفات الصغيرة دفاعاً عن فرصة التدخين.!

تحت الحصار
ضاقت السبل بالمدخن… والمشكلة ليست فقط في التقلص المستمر للمساحة المسموح بها للمدخنين، بل أيضاً في ما يرافق هذا التقلص من ضغوط نفسية ومعنوية تكاد تصنف المدخن مواطناً غير مرغوب فيه، فبعدما كان تقديم السيجارة إلى الضيف علامة ترحيب به، حتى أنه كان في بيوت معظمنا صحون تحوي أنواعاً من التبغ، اختفى هذا الشكل من حسن الضيافة من دون أي شعور بالحرج. لا بل اختفى الحرج عن وجه المضيف وهو يبلغ ضيفه أنه لا يستطيع التدخين في منزله أو في سيارته … الشعور بالحرج انتقل إلى المدخن نفسه، فإصراره على التدخين يكاد يعني أنه جاهل لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم؟

المضطهدون الأوائل
حوالي العام 0061م عاد الغزاة الإسبان من أميركا بـالسيجار. والكلمة مشتقة من كلمةSIKAR بلغة هنود المايا وتعني تدخين. راج السيجار في أماكن محدودة جداً في أوروبا، إلا أن قبول المدخنين الاجتماعي لم يكن سهلاً في البداية. ومنذ اكتشاف الآثار التحذيرية والإدمان الناجم من استهلاكه أصبح ينظر إليه بنوع من الريبة. وعلى عكس مايظن اليوم واجه المدخنون الاوائل بدورهم الكثير من الاضطهاد والعزل. وعلى سبيل المثال أيام السلطنة العثمانية أصدر السلطان مراد الرابع فرماناً يقضي بمعاقبة كل شخص يُلقى القبض عليه متلبساً بالجرم المشهود، بأن يتنشق التبغ من قناة الغليون بأنفه وبوضعه على ظهر حمار يجول به في شوارع اسطنبول. ولما وجد أن هذه العقوبات لم تكن رادعة بما فيه الكفاية، أمر بتدمير كل مقهى يدخنون فيه وإعدام المدخنين !!

وفي اليابان، كان يحكم على المدخنين بالعبودية. أما في موسكو القيصرية فكانت عقوبة المدخن ستين جلدة على قدميه.. ولكن التجار ومصنعي السيجار أوجدوا لزبائنهم بعض الواحات في الدويلات الأوروبية .. وبنهاية القرن الثامن عشر كان تدخين السيجار قد صار علامة رقي اجتماعي في بعض المدن الأوروبية، وبسبب ارتفاع ثمنه كان استهلاكه محصوراً بين الأثرياء فقط.

صناعة المتسولين..!
أما السيجارة فبدايتها … مزرية. إذ يُعزى الفضل في اختراعها إلى المتسوّلين في أشبيلية، إسبانيا. إذ كان هؤلاء يجمعون البقايا من أعقاب السيجار، ويفتتونها ويلفونها في ورقة رقيقة، وأطلقوا على اختراعهم اسم (سيجاريلو) أي السيجارة الصغيرة.

وخلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا عموماً وإسبانيا خصوصاً سنة 3781م وجد مصنّعو السيجار أنفسهم مجبرين على تسويق منتجاتهم إلى أصحاب القدرات المحدودة. فصاروا يبيعون التبغ المفروم مع ورق للفه. ومن إسبانيا انطلقت السيجارة إلى إيطاليا فالبرتغال، ثم روسيا والمشرق العربي.

منذ العشرينيات من القرن الماضي، صارت مبيعات السوق من السجائر تفوق مبيعاتها من السيجار. ونمت هذه الصناعة بمقاييس هائلة، وصارت من الموارد المالية الأساسية، ليس للشركات المنتجة لها فقط، بل أيضاً للحكومات التي شاركت بطرق مباشرة أو غير مباشرة بحصص متفاوتة من أرباحها أيضاً.
المُدخّن … رجل على رجل ..!
وعلى مدى أكثر من ستين عاماً من القرن الماضي تحالف الإعلان التجاري مع انعدام الوعي الصحي في دفع السيجارة وتدخينها إلى مستويات لم يكن يحلم بها متسولو إشبيلية الذين اخترعوها.

فاللوحات الفنية التي وصلتنا من حقبة ما بين الحربين حفلت بصور المدخنين سواء كانوا في مقهى باريسي مثل لوحات جورج رووه، أو صورة صحافية ألمانية مثل صورة الصحافية سيلفيا فون هاردن التي رسمها أوتوديكس.

وطبع نجوم السينما مثل جيمس دين، جيمس بوند، كلارك غيبل همفري بوغارت، رشدي أباظة، فريد شوقي صورهم في أذهاننا والسيجارة بين شفتي كل منهم. وارتبط التدخين بكل أنواع المتع المحرمة منها والمحللة، وبالحب والسعادة والشقاوة والبطولة وتأمل المنظر الجميل، والتفكير والحلم … والحرية. وكانت الحرية رفيق كل حالات الذروة: ذروة الاغتباط وذروة الاكتئاب، فصاحب الهم ينفث همه في الهواء، والسعيد ينفث من شفتين مبتسمتين وعيونه منسبلة. وكانت السيجارة رفيقة الفنان والشاعر والمفكر والمخرج السينمائي لا سيما في لحظات التركيز والإبداع.

تبارى كبار الفنانين في رسم ملصقات دعائية للسجائر، وفي إنتاج أفلام دعائية للتلفزيونات تدعونا إلى عالم السحر والأسطورة. وصار للتدخين آدابه وتقاليده الخاصة. مبسم توضع فيه السيجارة من العاج أو الفضة أو الذهب، إما للدلالة على ثراء هذا الرجل، أو أنوثة تلك السيدة. إضافة إلى ازدهار صناعة الولاعات الثمينة على اختلاف أشكالها وأنواعها وأحجامها …!

ومنذ الستينيات الميلادية تفشت هذه الآفة بين الشبان من طلبة الجامعات خصوصاً، فكان التدخين بمثابة إعلان عن أن لهذا الطالب اهتماماً يفوق حدود الأكاديمية لتصل إلى مصير الإنسان والفن والثورة. والمراهقون، الذين لم يكونوا قد بلغوا سن النضج القانونية، وجدوا في التدخين سبيلاً للوصول مبكراً إلى الرجولة والنضج. بعبارة أخرى، كان هناك ألف سبب للتدخين وشيوعه، وما من سبب للامتناع عنه سوى … الاقتصاد أحياناً.

كل جلسة اجتماعية كانت اجتماعاً لمدخنين،أمّا غير المدخن فيجلس باستحياء مفسراً شذوذه عن القاعدة بأسباب واهية. وكان يُنظرإلى غيرالمدخن دائماً على أنه ممن يتخلّون عن متع الدنيا وأبرزها إشعال سيجارة..!

ولكن عصر التدخين الذهبي بدأ يصدأ في الثمانينيات الميلادية. وكانت أول مظاهر المنع قد بدأت في القاعات العامة مثل قاعات المحاضرات والسينما والمسرح، حيث كان يسمح للمدخنين في مزاولة عادتهم خارج القاعة في الوقت الفاصل بين مراحل العرض.

في دنيا الإعلان كانت موازنات الإعلان للسجائر تزداد انتفاخا ًوأصبحت من أكبر موازنات الإعلان وأكثرها إسالة للعاب شركات الإعلان. حملات الإعلان للسجائر كانت قد بدأت في الأربعينيات والخمسينيات بملصقات جميلة كلاسيكية: آنسات جميلات ينفثن دخان السيجارة بمتعة ودلال، وأخذت بالتنوع والتقدم مع كل عقد. ثم جاءت إعلانات تربط بين الرجولة والتدخين: البطل السينمائي، ورجل الأعمال الأنيق، وصاحب اليخت الوسيم والمفتول العضلات، وكانت ذروتها إعلان الكاوبوي الشهير الذي يغريك بالذهاب إلى حيث النكهة، وقد بدأ منذ أكثر من عقدين واستمر حتى الآن. وكانت شركات التبغ تجد دوماً سبباًً لحملات إعلاناتها لتعطي هذه الحملات جاذبية وتحقق لها رواجاً. أصناف جديدة من السجائر، مذاق جديد بالنعناع أو غيره، فلتر جديد، طول أكثر، تنوّع في أحجام العلب و غيرها.

في السنوات الأخيرة بدت إعلانات السجائر مرتبكة ومصطنعة وأخذت تبحث عن شعارات جديدة لكن الهزال بدا عليها واضحاً. وقد زاد من طينها بلّة أنها في الأساس لم تعد مباحة إلا في أماكن وبلدان قليلة. ولو لوهلة كانت الشركات تحاول أن تستبق المنع الإعلاني بترويج بضائع أخرى تحمل شعاراتها وتذكر بها مثل الملابس الشباببة أو غيرها. ولكن حتى هذه المحاولات سرعان ما أخذت تتراجع وتندثر.

وبموازاة حملات الإعلان المستمرة بزخم لهذا النوع من السجائر أو ذاك، بدأت الأبحاث العلمية عن طبيعة التبغ ومضار تدخينه تتوالى تباعاً لتكشف أن هذه التسلية الممتعة هي في الواقع سم زعاف.!

من الترجي إلى الزجر..!!
الرجاء عدم التدخين ، أو لطفاً عدم التدخين ، ظهر هذا الرجاء أولاً في مطلع الثمانينيات في المستشفيات وبعض الأماكن المحدودة، ولكنه راح يتفشّى بسرعة. الولايات المتحدة منشأ التبغ وأكبر مصنّع له تأرجحت لوقت قصير بين مصالحها الاقتصادية المتحالفة مع مصالح شركات التبغ من جهة وبين ضغوط المكتشفات العلمية والطبية، ولكن بسرعة رجحت الكفة الأخيرة، لا سيما بعد التيقن من آثار التدخين السلبي، المدخنين من سجائر غيرهم.

وتوسعت بسرعة المساحة الخالية من التدخين لتطال المباني الحكومية والمطارات والمؤسسات العامة، والمطاعم وكل مكان فيه أي تجمع مهما كان نوعه. وخرجت هذه الظاهرة من الولايات المتحدة لتكتسح العالم بأسره، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة، ولكنها في تصاعد مستمر، وبسرعة صارت تختفي اللوحات التي ترجو عدم التدخين لتحل محلها العبارة الصارمة ممنوع التدخين ..!!

ازداد شعور المدخن بالاضطهاد وكأنه يعاني مرضاً معدياً وزاد من هذا الشعور نشوء عدد من العيادات الطبية المتخصصة في معالجة المدخنين. وفي المملكة العربية السعودية 52 عيادة من هذا النوع.

ماذا بقي للمدخن؟
يمكنه أن يدخن في الخارج، وهناك، حتى لو لم يرمقه أحد بأية نظرة لوم، لا بد وأن يشعر أنه صار ينتمي إلى شريحة مختلفة.. شريحة .. غير مقبولة في الداخل شريحة ساقطة من المجتمع المدني..!!

أضف تعليق

التعليقات