التكهنات التي أطلقت في أواخر القرن العشرين والقائلة بأن التكنولوجيا الرقمية وشبكة الإنترنت تحديداً ستقضي على الكتاب المطبوع على الورق لصالح الكتاب الرقمي، تبدو أنها كانت مندفعة بعض الشيء، على الأقل حتى وقتنا الحاضر.
فعلى الرغم من التطور الكبير الذي تحقَّق في مجال صناعة الكتاب الرقمي، لا يزال الكتاب الورقي حاضراً، يُنتج ويسوَّق وكأن شيئاً لم يكن من حوله. وإذا كان هناك من صراع بين الورقي والرقمي، فالمؤكد أن الكتاب الورقي
لا يزال محصناً في عرينه التقليدي القائم أساساً على اعتياد الناس عليه وعلى صيغته المألوفة والمحببة منذ مئات السنين، في حين أن حراكاً صاخباً وعنيفاً يشهده الخندق المقابل.. خندق الكتاب الرقمي والشركات الساعية إلى تطويره أملاً في انتزاع حصة من سوق الكتاب التقليدي الكبير.
فاضل التركي يتناول ما تشهده الساحة حالياً من عمليات تطوير متتابعة للكتاب الرقمي، والحراك الكبير القائم في الشركات المنتجة له، وآخر ما توصلت إليه في هذا المجال، حيث يبدو أن مقاييس تحسين الكتاب الرقمي هو جعله يبدو أقرب ما يمكن إلى الكتاب التقليدي. فلماذا تكبد كل هذا العناء للانتقال من الكتاب الورقي إلى الكتاب الرقمي؟..
الأجوبة كثيرة.
– أنا لا أحب أن أقرأ من الشاشة.. وأفضِّل الطباعة ثم القراءة!
–
لكنك لا تستطيع أن تبحث بضغطة زر في المطبوع، ولا أن تصغِّر أو تكبِّر ولا ولا!
– القراءة من الشاشة شاقة على العينين ومتعبة.
–
هناك أجهزة الكتب الإلكترونية التي لا تشع ضوءاً وتعمل بالحبر الإلكتروني، نأخذها إلى أي مكان مثل أي كتاب.. وتحمل مئات الكتب.
–
يكفيك حديثاً عن الأجهزة والكتب الإلكترونية والمسموعة والمرئية.. كلها ستذهب ويبقى الكتاب التقليدي..
هكذا يمضي الجدل الذي لا ينتهي عن مصير الكتاب الذي نعزّ ونكرم ونعشق. الكتاب، خير جليس، بقية ما بقي طيلة هذه القرون، نشمُّه ونضمُّه، ونرحل عبره إلى عوالم الفكر والعلم والإبداع والأسئلة؛ إلى أزمنة وأمكنة وأنساقٍ وأذواقٍ شتى.
أما تقنيته فقد ظلت لقرون هي نفسها، مجموعة أوراق سُطِّرت، قُصَّت في حجم واحد، ورقِّمت وربطت إلى حزام وجمعت بين غلاف وغلاف. ولربما كانت هذه البساطة، بوابة للغور في الأعماق ومدعاة لسفرنا بين شاطئين نتقلب بين أمواجهما!
مشاعر مختلطة تعتري عشاق الكتب الذين لا يكفُّون عن حملها معهم أينما ذهبوا، يتحدثون مع ذويهم وأقرانهم عنها، عمَّا بين صفحاتها من فكر وإبداع وعوالم الماضي والحاضر والمستقبل، عوالم الأسئلة والآراء، المعارف والحوارات والحكي والفن.
مشاعر مختلطة تعتريهم وهم يرون الكتب تتغير أوجهها وجلودها وطبيعتها. كل ما حولنا ينبئ بكتب بلا رائحة ولا ملمس، ولا بياض ولا صفرة، ولا بقية من حياتنا اليومية، أثراً من قهوة هنا وأثراً هناك، ولا جلودَ ولا علاماتٍ وفهارس ومسارد.
كم ملأت علينا بيوتنا ومكاتبنا، بنسخ مكررة! ألن نشعر بالوحشة لو تخلينا عن كتبنا.. وأصبحنا نملكها ولكننا لا نراها تؤنس وحشتنا وتملأ علينا الأركان؟ كيف سنذهب إلى مكتبة عامة أو دار للكتب لنتعرف إلى أصدقاء جدد نصافحهم ونقرأهم فور اللقاء؟
اليوم، نأخذ كتابنا معنا أينما ذهبنا، لا يزعجنا ثقله ولا ألمه. نجلس إلى الطاولة التي يغيب عنها كل شيء إلا قلم وأوراق وكوب شاي أو قهوة. ومهما اكتظت الأشياء حول كتابنا، فلا نشعر بشيء بعدها إلا سريان الفكر ومتعة العقل والروح، حتى ننتبه إلى حلول الوقت لوضع العلامة في مكانها لنغفو قليلاً قبل أن نعيد التقاطه من جديد. لا يزعجنا النظر في المسرد، أو البحث في كتب بلا مسارد عن نص ملهم أو فكرة حرجة توقفنا عندها، نراهن على وجودها، ونمضي الوقتَ بحثاً عن أثر لها في مكان ما على اليسار أو اليمين.
لنتابع معاً ما الذي حدث والذي يحدث للكتاب؟ كيف وصل الكتاب إلى هذا الشكل التقليدي، وإلى أين يتجه؟ لنسأل: ما هي إمكانات اليوم وإمكانات الغد وعادات اليوم وعادات الغد وما هي الطموحات والمخاوف؟
ما الذي يحدث هذه الأيام؟
منذ عام 1971م، حين ظهر مشروع غوتنبرغ لرقمنة الكتب ذات الملكية العامة، بدأ توجه لا محيد عنه نحو ظهور ما يسمَّى بالكتاب الإلكتروني أو الرقمي. لم نعد نتحدث عن صورة لكتاب تم مسحه، ورقيّ في شكل ملف، بل عن صيغة جديدة تبتعد بنا عن كتابنا التقليدي.
بدأ هذا المشروع، وتوالت المبادرات في توفير كتب رقمية على أسطوانات ووسائط التخزين الأخرى. ثم بدأت تظهر الحاجة إلى برامج لقراءة الكتب الرقمية وتصفحها. برامج لحماية حقوق الملكية والنسخ والتوزيع وللمساعدة في التصفح والبحث والقراءة. ثم ظهرت الكتب على الإنترنت بحلول عام 1993م، وكانت هيمنة الكتب الرقمية آنذاك احتمالاً غير وارد.
لكن، سرعان ما بدأت الكتب الرقمية تكتسب احتراماً أسوة بالكتب التقليدية! وشرعت الطموحات في تصور كتب مقروءة بالصوت مزينة بالصور والألوان والميديا. أصبح هناك توجه لبيع الكتب الرقمية وسوق يتبلور في يوم كانت هذه الكتب تُقرأ على الحواسيب الشخصية. ثم آن أوان أجهزة مصممة خصيصاً لقراءة الكتب، وكان لنا أن نتصوَّر بين أيدينا كتاباً لم يُطبعْ، نتصفحه ونقرأه ونبحث فيه بين أيدينا.
مع توافر التقنية وتوافر الأجهزة والحواسيب بكلفة قليلة، وتوافر الأجهزة في الجامعات والمؤسسات والمكتبات العامة والبيوت، أصبحت الطموحات والإمكانات الخاصة بالعتاد والبرمجيات أكثر وأكبر. صار بإمكاننا أن نتصور كتباً بلا وزن ولا رائحة، كتباً تنسخ، كتباً مجانية وكتباً تطبع حسب الحاجة؛ تطلب للطباعة في حلة قشيبة ساخنة وقتما نريد بثمن زهيد. لم تعد الكتبُ الكتبَ، ولا الموادُ هي الموادَ التقليدية؛ لقد تغيَّر كل شيء. لكن هل تغيَّر كل شيء إلى الأبد؟ هل هو طريق بلا رجعة؟
كيف وصلنا الكتاب التقليدي؟
لنرجع قليلاً إلى الوراء نتابع تقنية الكتب التقليدية منذ البداية ولنرَ كيف وصلنا ما نطلق عليه اسم «الكتاب التقليدي». لقد تلى زمن الكتابة على الحجارة وأوراق النبات والخشب والحرير وألواح الطين، ظهور ورق البردي في مصر بتقنية متقدمة نسبياً على كل ما سبقها. لكن الصينيين جاءوا باختراع الورق في القرن الأول الميلادي واخترعوا معه الطباعة بقطع الخشب. أما العرب، فقد تعلَّموا صناعة الورق من الصينيين ثم خلقوا ثورة في صناعة الكتاب الذي اتخذ الشكل الذي نراه عليه اليوم.
لقد تطوَّر لدى العرب فن الخط والتزيين وتجليد الكتب. وظهرت عندهم طائفة من الحرفيين أطلق عليهم اسم «الورَّاقين» و«الكتبيّين». وتم إنتاج نسخ من الكتب بكميات كبيرة بعد أن كان كل كتاب ينتج على حدة. لقد طوَّر العرب هذه الصناعة حتى تمكنوا من صناعة نسخ من الكتب بطريقة معتمدة بكميات كبيرة. كان ذلك بطريقة الإملاء حيث يملي المؤلف أو الناسخ على الورَّاقين أو الخطاطين النص وهم يكتبون فوراً، الأمر الذي كان يضمن وحدة النص المكتوب، ويضمن توافق كل النسخ بطريقة معيارية أولية. ومهَّد هذا إلى ظاهرة صناعة الكتب وتداولها وتجارتها. وفي مدن قرب مراكش وُجدَ شارع باسم الكُتُبيِّة ومسجدٌ باسم مسجد الكتبية، وكان في ذلك الشارع ما يقرب من 100 مكتبة.
ثم ظهرت فنون الطباعة وتقنياتها البدائية ولحقت بها المتطورة، وكَثُرت النسخ. ومرَّ زمن، وتطورت الصناعة والتقنية، وتطور معها شكل الكتاب إلى أن وصل إلى ما هو عليه اليوم. اختلفت الأحجام وجودة الورق والتزيين والخفة والثقل والتجليد واستخدام النصوص والرسوم والصور والألوان العالية. وفي العقود الأخيرة، تم إدماج الكتب بسماعات وأجهزة إلكترونية داعمة وتم تعطيرها وتزيينها بقطع تعزف الموسيقى. أما كتب الأطفال، فقد زادها مرحاً بعض الألعاب الملحقة بها في حالات معيَّنة.
لكن كل هذا لم يخرجنا من إطار الكتاب التقليدي. فأول عتبة على سلم الرقمنة، كانت في مسح الكتب كصورة في ملف إلكتروني ثم صف وكتابة الكتاب وإدخاله إلكترونياً في الحاسوب. وفي أواخر القرن العشرين، فوجئنا بظاهرة الانفجار المعلوماتي الذي لم ينقذ البشرية منه إلا عبورها إلى الصيغة الرقمية. وحين دخلت البشرية إلى هذه الصيغة الرقمية، توافرت على شبكة الإنترنت ووسائل التخزين كتب لم نضطر إلى طباعتها. وظلت هذه الكتب خارج المكتبات التقليدية. الأمر الذي أوجد حاجة إلى توفير طرق لقراءتها وتداولها واستعارتها وشرائها وطباعتها عند الحاجة. بعبارة أخرى، الحاجة إلى إنشاء سوق للكتاب الإلكتروني.
أين نتجه؟
بدأ الكتاب الرقمي أو الإلكتروني في دخول عالمنا عندما مسحنا وصوَّرنا الكتاب التقليدي، وعندما قمنا بإدخال النص إلى الحاسوب. ثم ظهرت أجهزة متخصصة في قراءة الكتب، لكن كل هذه الجهود لم تخرج الكتاب من هيئته التقليدية التي ما زلنا نتمسك بها حتى اليوم. إن رسوخ مفهوم الكتاب في أذهاننا طيلة هذه القرون أبقانا متمسكين به. وقد لا يكون ذلك غريباً ولا مدهشاً، وربما يكون المدهش أن يبقى الكتاب طيلة هذه القرون قائماً على تقنية لم تتغيَّر وسط كل ما تطوَّر وتبدَّل في مناحي الحياة من وسائل وتقنيات واختراعات وتسهيلات!
بين الماضي والحاضر
لم يتبدَّل الكتاب ظاهرياً كثيراً، لكن هناك ظواهر لم تكن في الحسبان، ومنها التغير في العادات وطريقة التعامل مع الكتب وتداولها. فهناك طارئ طرأ على طريقة القراءة وتحصيل المعرفة وإنتاجها. لقد تبدَّل كل شيء حول الكتاب، إلا شكله السهل الممتنع الساحر العملي. نقول «العملي»، وليكن ذلك حتى حين.
في الماضي، كان بإمكاننا أن نستشعر شخصية الكتاب من ثقله ولون الورق وجودة الطباعة والرسومات والزخرفة. نتصوَّر الكتاب واسمنا مكتوباً عليه مقروناً بالتاريخ والمكان والسعر أو مقروناً بالإهداء والتوقيع. لقد كنا نستمتع بتلك الكتب التي خلت من كل شيء إلا نص حيّ، أو تلك المزينة والمليئة بالرسومات والألوان والصور ذات الدقة العالية. لقد كنا نستعين باختراع اسمه المسارد، حيث نذهب في المسرد إلى كلمة أو فكرة واسم علمٍ، ثم نرجع إلى الصفحة برقمها في المسرد، ولا نستغني عن التطلع هنا وهناك بحثاً في الصفحة التي دلَّنا عليها المسرد إلى ما نريد. الفهرس والمسرد والمحتويات وإيضاحات المؤلف لأسرار الكتاب في المقدمة والخاتمة كان يسعف أحياناً. وقد يساعدنا في تحصيل الأشكال والرسومات وجود فهرس لها. ورغم إسهام الحاسوب وتقدم التقنيات في تطوير المسارد وجعلها أكثر شمولية إلا أننا حتماً، سنحتاج إلى خبرتنا ومِراسنا في القراءة في تحصيل ما ضاع بين كل هذا.
لقد تعودنا على إمساك الكتب بطرق معيَّنة والجلوس والقراءة في أوضاع محددة. ومهما تطوَّرت القراءة وأساليبها سواء أكانت سريعة، أو استكشافية، أو بحثية أو تفصيلية متأنية، فهي محكومة بخبرتنا ومراسنا وحركة العين وإمساك اليد وعادات أخذ الملاحظات والتفكير والتحليل أو التذوق السريع. كل شيء كان محكوماً بقيود فيزيائية.
أما اليوم، فمع لوحة المفاتيح وقدرتنا على الكتابة بسرعة تضاهي ما نستطيع بالقلم والورقة بكل مهارات الاختصار وأخذ الملاحظات -هذا لو تحدثنا عن لوحة مفاتيح وفأرة وحسب- فإننا نستخدم تقنيات بدأت تتدفَّق إلى عالم القراءة الرقمية، أصبحنا نفتقدها في نفس الوقت إن التفتنا إلى كتاب تقليدي بجوارنا. إنه يُمكِّننا من البحث عن أية كلمة بلا حاجة إلى إجهاد أعيننا وتسخير تركيزنا وكامل وعينا. ثم يظللها لنا الحاسوب فوراً دون الحاجة إلى مسرد ولا إلى بحث في الصفحة ذات العلاقة بعد أن نظهرها في المسرد. إن هذه الإمكانية بحد ذاتها ولوحدها جعلتنا نغيِّر طريقة القراءة واستخدامنا للوقت.
أصبحت متصفحات الإنترنت منذ زمن تظلِّل كل كلمة بلون مختلف وتظهر أدوات الترجمة الفورية، فضلاً عن الروابط الحيّة التي تدلك إلى مثيلات هذه الفكرة أو مواقع ذات صلة بهذا الموضوع. إذ يمكن اليوم البحث عن جملة أو كلمة، ويستخرج لنا الحاسوب كل ما له علاقة في متن الكتاب وما ارتبط به من جمل وكلمات تحمل المعنى نفسه وترتبط به. هذا فضلاً عن أنه يمكن أخذ الملاحظات وكتابتها وتبادلها ومناقشتها مع الآخرين. ويمكننا وضع علامات للرجوع لاحقاً إليها، كما يمكن نسخ ولصق المحتوى وتزيينه وتغيير مظهره ويمكننا إنتاج مواد نحتاجها لتصميم العروض وللبحث والكتابة. لقد تغيَّر كل شيء.
كنا نحاذر من استعباد الكتاب لنا بقراءة كل حرف فيه وكل كلمة وكل مقطع صفحةً صفحةً وسطراً سطراً. قليلٌ منا يتقن الخروج من هذه السيطرة تحت رحمة الكتاب التقليدي. لكننا في هذا العالم الرقمي، بالطبيعة، قد خرجنا منها وأصبح علينا أن نتعلَّم عادات جديدة للقراءة الجيدة في عالم فوضوي، رحب زخم، يمكِّننا من القفز فوق الأسطر والمحتويات بكل أنواعها. أصبحت تواجهنا صعوبات أخرى تتعلَّق بالتركيز والتحصيل والشعور بالانتهاء من القراءة. لقد أدى كل هذا إلى ظهور حالات لم نعهدها من قبل. هل أصبحنا قليلي القراءة أم كثيريها؟ هل أصبحنا نختار، أم نضيع وسط كل هذا الزخم؟ هل تترسخ المعلومة أكثر في أذهاننا أم لا؟ هل ماتت «القراءة» كما يدعي البعض؟
مواقع للقراءة والتأليف
إضافة إلى التقنيات التي ذكرناها سابقاً، فإن هناك اتجاهات جديدة تُسلك بالكتب والصحف والإنتاج الفكري والأدبي، سبلاً جديدة في القراءة والكتابة والتفاعل الاجتماعي يتعدَّى القراءة إلى التأليف. فقد تم تصميم وإخراج مواقع لبيع الكتب وعرضها على الإنترنت بمقابل وبدون مقابل. أصبح في مقدور مجموعة من القرَّاء قراءة مادة واحدة والتعليق عليها والتفاعل من خلالها. كما أصبح هناك من المؤلفين من ينتج مادته فصلاً فصلاً ويعرضها على القرَّاء الأذكياء والخبراء للتفاعل والدردشة عن المحتوى وتلقي التعليقات، ويتأثر بذلك، ويغير مساره ويضيف ويبدل في قديم ما نشر وجديده. ويمكن التجول في موقع «بوك غلوتن» (www.bookglutton.com) الرائد للتمتع بهذه الخبرة الجديدة. يوفر هذا الموقع مجالاً للقراءة الجماعية، وهامشاً للقرَّاء للدردشة وترك التعليقات والتواصل مع المؤلفين وباقي المتصفحين من ذوي الاهتمامات المشتركة. وبهذا، أصبح في مقدورنا أن نقيِّم الكتب بمقياس آخر لمعرفة الكتب الجيدة، وهو البحث عن القرَّاء الأذكياء وذوي الاهتمامات المشتركة والاطلاع على المحتوى الذي رافق قراءة هذا الكتاب أو ذاك والنقاش والتعليقات والانطباعات التي أثارها.
أما موقع «فوك» (www.vook.com)، فهو مسار آخر يُقدَّم فيه الكتاب في صيغة جديدة ويربط فيها بمادة فيديو وروابط من الإنترنت معروضة للقارئ بشكل جديد ويمكن تصفُّح هذا الكتاب على الإنترنت وعلى أجهزة الهاتف. وتقدِّم «غوغل» حالياً في مختبرها، خدمة تجريبية هي خدمة «التصفح السريع» على موقع
(www.fastflip.googlelabs.com). وتشبه هذه الخدمة من «جوجل» إلى حد ما، خدمته لتصفح الأخبار وتجميعها والبحث فيها.
وهناك ظاهرة الروايات التي يطلق عليها اسم روايات الهواتف المحمولة، التي ظهرت في اليابان أول الأمر عام 2003م. وكانت الرواية تروى على شكل رسائل قصيرة ترسل إلى الهواتف. ويأتي موقع (www.textnovel.com)
ليدعم هذه الموضة من الروايات. أما موقع
(www.fourthstorymedia.com) فهو لشركة تطمح إلى توفير قصص وحكايات في صيغ متعددة لا تقتصر على الكتب والنصوص أو الصوت أو الفيديو، كلاً على حدة؛ ولكن كما يطيب لرواة القصص، ستوفر قصصاً وروايات تروى في صيغة تشمل أصناف الميديا المتعددة الممكنة.
عصر الآيباد
أما على صعيد الأجهزة، فهناك الحواسيب والهواتف المحمولة، وهناك أجهزة جديدة تعد بكثير من التغيير في عادات القراءة الرقمية. وهناك تلك الشبيهة بشاشات الحواسيب التي تبث الضوء في عيون القرَّاء وتعرض الكتاب بشكله التقليدي، أو بشكل مشابه للتقليدي في التصفح وتقليب الصفحات، وينطبق هذا أيضاً على الصحف الرقمية. وفي مقدمة هذه الأجهزة، يأتي جهاز شركة «أبل» المسمى «آيباد» الذي يقدِّم في أناقة حالة جديدة من القراءة، دفعاً لناشري الكتب والصحف ليسهموا في المجال التجاري الجديد. ويعمل هذا الجهاز بواسطة بطارية قد تصل قدرتها إلى عشر ساعات. وفي المقابل، هناك الأجهزة المخصصة لقراءة الكتب مثل قارئ سوني وكندل وبوكين. هذه الأجهزة تعتمد تقنية الورق والحبر الإلكتروني، وتحاول أن تقدِّم إلى مستخدميها إحساساً شبيهاً بالورق والحبر التقليدي، ولا تبث ضوءاً في عين القارئ، وإنما تُقرأ مثلما تُقرأ الكتب التقليدية، اعتماداً على الضوء المتوافر في المحيط. وتقدِّم تقنية الحبر الإلكتروني استهلاكاً فعالاً للبطارية ويصل استخدامها إلى شهور، وتمكن من قراءة كتب كثيرة قبل أن نحتاج إلى توصيلها بالكهرباء لشحنها. غير أن تقنية الحبر الإلكتروني التي تسعف البطارية تحد من قدرات هذه الأجهزة التي تفتقر إلى الألوان والرسومات المتقدمة والمتحركة وإمكانات القراءة على الحواسيب.
فاليوم، يتوافر الكثير من الأجهزة التي تقرأ الكتب الرقمية بكل صيغها المختلفة وموادها النصية والوسائط المتعددة، وتمتد من الأجهزة الحاسوبية العادية إلى أجهزة الهاتف إلى الأجهزة المتعددة الاستخدام والأجهزة المتخصصة. لكننا لم نفلت تماماً من صيغة الكتاب التقليدي وفكرته البسيطة، حتى ولو بدا لنا أننا تطورنا كثيراً. وهناك من لا يستسيغ أن يبقى الكتاب الرقمي مشابهاً للكتاب التقليدي، وبوده أن يتغيَّر كل شيء، لأنه لا سبب يدعو إلى الإبقاء على هذا الشبه غير اعتياد القارئ والصانع على ذلك.
في هذه الأجواء من الابتكار والتجديد والتطوير، يجري حراك تجاري وتقني في مجال إنتاج الكتب وتوفيرها، تتصارع فيه كبرى الشركات والمؤسسات على الاحتكار والملكية الفكرية. صراع على التقنية والوسائل والطرق وتصميم عادات جديدة للتعامل مع الكتب وشرائها. وهناك الآن إمكانية عرض الكتب على القرَّاء قبل شرائها وإمكانية البحث والاستفادة منها مجاناً، كما يحدث في موقع «جوجل» للكتب وموقع «أمازون» وغيرهما. وهناك صراع على نوعية التقنية التي تصمم عليها هذه التجارة والكتب والصحف والمواد المقروءة والمسموعة والمرئية بشكل عام. وهناك تحدٍّ من أجل إقناع الكُتَّاب والمؤلفين والناشرين والمكتبات بدخول هذا العالم الجديد الذي يختلف في نموذج الربح والعوائد والتفاعل وتقييم المواد المنشورة وطريقة نسخها وإصدارها وتوزيعها وإدارتها. إن الكتابَ لم يعد الكتابَ والقراءة لم تعد القراءة ولا القارئ ولا المؤلف.
هل تصبح المكتبات متاحف؟
ما الذي سيحدث للمكتبات العامة ومكتبات الجامعات والمكتبات الأخرى؟ هل ستتحول إلى متاحف؟ هل ستحتاج إلى ثورة جديدة هي الأخرى؟ هل سنحتاج إلى نظام إعارة جديد ونظاماً أمنياً على الكتب يقنِّن نسخها وتداولها والاستفادة منها؟ هل سنحتاج إلى وسائل جديدة في عالم تتغيَّر فيه طبيعة القراءة والمتعة والاستفادة؟ هناك من يحذِّر من موت القراءة في زمن قريب؟ هل سيحدث هذا أم أن القراءة تحتاج إلى ثورة جديدة في عالم الانفجار المعلوماتي والتقني والإبداعي؟
الانفجار المعلوماتي والمعرفي والإبداعي لم يعد يرهبنا. لقد أصبح كل التراث الإنساني -الغابر والحاضر- عند أطراف أصابعنا. وأصبح بإمكاننا أن نستحضر كل ما كُتب عن مسرحيات شكسبير والوصول إلى آخر الأخبار وصيحات العلم ومتون الكتب، ونربط الشيء بالشيء مهما اختلفت الصيغ. إن إمكانات اليوم مرعبة وإمكانات الغد لا يمكن حدّها بحدٍّ. هل ستموت القراءة ويعزف عنها الإنسان؟ هل سيتبدل وجهها وتتغيَّر عاداتنا أم سنحاول التمسك بالتقاليد ولو تغيَّر المظهر؟ هل نحن مقبلون على طريقة جديدة في تحصيل المعارف لا تعتمد على النص، ونستخدم النص للحفظ والتدوين والتوثيق ونعيد إنتاجه في صيغ فيديو وأفلام وصوت ووسائل أخرى أسهل وأكثر رفاهية لنا؟
لن يكون هذا مدعاة للبهجة والسرور لعشاق الكتب والكلمة والفكرة المكتوبة. لن يقنعهم كل التقدم والإمكانات التي لن يتأخروا عن استخدامها، لكنهم حتماً سيذكرون أن الدقة في التعبير والتفنن في التفصيل وغنى الأساليب مازال سيده النص وإن سانده في ذلك غيره. من وجهة نظرهم، هناك وقت طويل قبل أن يظهر بديل مقنع. وفي وسط كل هذه الإمكانات والرفاهية، مازال عاشقو الكتب يسمعون الكتاب ويشاهدون صيغة الوثائقي منه، ويشاهدون كل ما يتعلق من قريب أو بعيد به ويناقشونه ويتابعونه، وها هم بعد كل هذا يعودون إلى النسخة التقليدية يقرأونها بإطلالة على الغلاف البديع، ثم الصفحة الأولى، ثم نظرة إلى الإصدار وتفاصيل الطبعة والإهداء والمقدمة والفهرس، ثم يواصلون القراءة. إنها متعة أخرى غير متعة تقنيات الرقمي وتقنيات القراءة الجديدة، إن كانت «قراءة». كتابهم هذا باقٍ والأجهزة ليست كذلك. كتبهم لها أرفف تؤثث بها، يعرفون أين يقطن كل منها. هي أثيرة عزيزة ترافقهم في القطار والطائرة ومكتب العمل والبيت. تعيش معهم الحياة وتسجِّل من يومياتهم أثراً وتاريخاً. وعندما يتركونها إلى غيرها، تبقى ذكرياتها حاضرة، تشغل فيهم نار الشوق للعودة إليها قراءة وتصفحاً وبحثاً فيها وتأملاً. تسافر معهم، يسافرون بحثاً عنها، يشترون منها نسخاً جديدة، وفاءً واعتزازاً، نسخاً لهم ونسخاً لمن يحبون. وعندما يشتد الشوق، فلن يثنيهم لوم العذال عن قراءتها من جديد، يلقون نظرة على الغلاف البديع، ثم الصفحة الأولى، ثم نظرة إلى الإصدار وتفاصيل الطبعة والإهداء والمقدمة والفهرس، ثم يواصلون القراءة.