لم يولد بيكاسو في برشلونة ولم يمت فيها، كما أنه لم يعش في هذه المدينة الإسبانية إلا سنوات قليلة في فتوته، وانقطع لاحقاً عن زيارتها نهائياً لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن. ومع ذلك، ثمة لُحمة فريدة من نوعها وفي سببها ما بينه وبين المدينة التي تحتضن اليوم أكبر متحف لأعماله،ولم تغب يوماً عن وجدانه.

نشأته فيها
ولد بابلو بيكاسو في مدينة ملقة في جنوب إسبانيا عام 1881م، وكان في الرابعة عشرة من عمره عندما انتقل الى برشلونة، مع والده الذي كان أيضاً فناناً معروفاً. والتحق الاثنان بمدرسة لوتخا للفنون الجميلة، الأول للدراسة، والثاني للتدريس.

كانت برشلونة آنذاك مدينة صناعية صاخبة، تعج بالأفكار الطليعية والتقدمية في استعداداتها لدخول القرن العشرين. وراح الفتى الصغير يرسم بغزارة لا مثيل لها.. عشرات اللوحات وآلاف الرسوم على الورق أكدت موهبته الفذة، ما دفع والده إلى إرساله إلى مدريد لدراسة الفن في أكاديمية سان فرناندو التي كانت الأشهر في إسبانيا.

لم يحضر ابن السادسة عشرة على مقاعد الدراسة الأكاديمية إلا نادراً، وفضّل عليها تمضية الوقت في دهاليز متحف برادو لاستكشاف أعمال كبار الأساتذة القدماء. وعندما عاد عام 1899م إلى برشلونة، وضع خطاً فاصلاً بين ما تعلَّمه أكاديمياً وما يريد هو فعلاً أن يفعله.

وجد بيكاسو البيئة الحاضنة لأفكاره المتمردة والطليعية في مقهى “إلس كواتري غاتس” (القطط الأربعة)، الذي كان يرتاده فنانون طليعيون وشعراء وكتّاب. وفي عام 1900م أقام أول معرض منفرد لأعماله في هذا المقهى. وبعد زيارة قام بها في السنة نفسها إلى باريس حيث اطلع على أعمال سيزان وماتيس، عاد إلى برشلونة ليقلب مسار تاريخ الفن رأساً على عقب انطلاقاً منها.

بقي بيكاسو في برشلونة لسنوات خمس لاحقة، وتُعرف أعماله خلالها باسم المرحلة الزرقاء، لطغيان اللون الأزرق عليها وكأنه رسمها على ضوء القمر. وكل ما رسمه آنذاك كان من وحي برشلونة.

هجرانها
في عام 1905م، انتقل بيكاسو للاستقرار في باريس، حيث أرسى الفن التكعيبي بالاعتماد على كثير من الرسوم التحضيرية التي كانت في جعبته وأتى بها من إسبانيا.. بقي يزور برشلونة من حين إلى آخر لتمضية بعض العطل مع العائلة أو الأصدقاء، إلى أن كانت الحرب الأهلية عام 1936م، التي انتصرت فيها قوات الجنرال فرانكو. فقطع بيكاسو على نفسه عهداً بألَّا يزور إسبانيا طالما بقيت تحت حكم فرانكو. ولكن الجنرال بقي في الحكم حتى وفاته عام 1975م، وكان بيكاسو قد توفي قبله بسنتين، عام 1973م.

متحــف بيكاسو في برشلونة
هو عربون اللُّحمة الوثيقة ما بين الفنان والمدينة التي لم ينسها يوماً حتى وهو في منفاه الطوعي.

افتتح هذا المتحف في عام 1963م، ليضم اللوحات التي كان الفنان قد تبرع بها إلى «متاحف برشلونة للفنون»، وأيضاً تلك التي كانت بحوزة صديقه خاومي سابارتيس. ولأنه كان من غير المعقول إطلاق اسم شخصية معارضة للنظام على منشأة بهذه الضخامة، حمل المتحف في البداية اسم «مجموعة سابارتيس». وفي عام 1968م، ومناسبات عديدة أخرى، تبرع بيكاسو بعدد كبير من أعماله لهذا المتحف، وهو الذي كان يقول عن نفسه: «أنا أكبر جامع للوحات بيكاسو في العالم». وبعد ذلك، جاء دور الهواة للتبرع بما يملكون، بحيث بات هذا المتحف يمتلك اليوم أكثر من 3800 لوحة ورسم ومنحوتة من عمل هذا الفنان الذي عاش تسعين سنة ولم ينسَ برشلونة يوماً.