الثقافة والأدب

بيكاسو والمسرح
فنان خارج فنه…

  • 68e (DWF15-410078)
  • <Pierrot> by Pablo Picasso
  • 70b
  • Pablo Picasso
  • 70d (8)
  • <Harlequin> by Pablo Picasso
  • 70f (10)
  • 72a (9)
  • 72b (1)
  • 72c (6)
  • Ballet Dancers Perform <Mercury>
  • Leonide Massine "Pulcinella"
  • Picasso at Bullfight
  • 68d (DWF15-410075)

يلتصق اسم كل فنان بمجال واحد ومحدَّد من الفن صنع شهرته، فيدخل في ذاكرة العامة على أنه رسَّام أو نحَّات أو موسيقي.. الخ. ومن النادر أن تلتفت الذاكرة إلى مجالات فنية أخرى يمكن أن يكون قد أبدع فيها لبعض الوقت، علماً بأن معظم الفنانين يخرجون من حين إلى آخر من أطر أعمالهم المعهودة، ليضعوا أيديهم في مجالات فنية أخرى. والأمر ليس مجرد نزوة عابرة، بل يعود إلى وجود صلة قربى ما بين الفنون، وحتى ما بين الفنون والآداب.
إبراهيم العريس يسلِّط الضوء هنا على جانب شبه مجهول تماماً من صورة بيكاسو، ألا وهو بيكاسو المسرحي، وعلاقة هذا الرسَّام والنحَّات بفن المسرح التي كانت أكبر مما يظنه الكثيرون.

عند الحديث عن بابلو بيكاسو (1881 – 1973م)، غالباً ما يفوت المتحدثين (حتى بمن فيهم من نقاد ومؤرخين) الإشارة إلى علاقة هذا الرسام الإسباني الذي شغل العالم طوال القرن العشرين، بفن المسرح.

ولكن ثمة كتاباً حول هذا الموضوع، فريداً من نوعه أصدره الناقد دوغلاس كوبر للمرة الأولى عام 1968م ثم أعيدت طباعته مراراً بعد ذلك..كما أن معرضين على الأقل أقيما، أولهما عام 1960م -بمساهمة من بيكاسو نفسه- ثم عام 2006م في فرانكفورت، وضعا أمام أعين مندهشة مئات القطع واللوحات والوثائق التي تقول تلك البديهة التي نسيت كثيراً: ومفادها أن بيكاسو بقدر ما كان رجل رسم ونحت وخزف، كان رجل مسرح أيضاً.. رجل مسرح ولكن من نوع خاص جداً.

البدايات
«كان واحداً من أحلامي في ذلك الحين أن أصغي إلى قيثارات بيكاسو وهي تعزف موسيقاها»… قائل هذا الكلام كان جان كوكتو وهو قاله ذات يوم حين سئل عن علاقته بانصراف الرسام الإسباني الكبير إلى فن المسرح أواسط العشرية الثانية من القرن العشرين، بعدما كان بيكاسو قد بلغ من الشهرة مبلغاً كبيراً وبدأ يغزو الحياة الفنية الباريسية من حيث لم يكن أحد يتوقع.

نعرف من خلال سيرة بيكاسو أن كوكتو قد حقق ذلك الحلم، ولكن بشكل موارب: عن طريق سيرغاي دياغيليف،المسرحي والإداري الذي غزا بدوره أوروبا، حين استقدم مجموعة كبيرة من فناني الباليه الروس، في ذلك الحين لتقديم ما عرف بـ «الباليهات الروسية» مجدداً في فنون الرقص والموسيقى والأزياء والديكور. ولعل في وسعنا أن نقول الآن إن التجديد في هذا المضمار الأخير حمل توقيع بابلو بيكاسو.

والحقيقة أنه حين اتصل دياغيليف، في ربيع العام 1917م، بالشاعر الشاب جان كوكتو مكلفاً إياه بكتابة نص لعرض باليه تقدِّمه فرقته في روما لم يكن يعرف أن ذلك الاتصال سوف يضع بيكاسو نفسه في قلب حلم له هو الآخر. ذلك أن كوكتو حين اتصل بدوره بصديقه الرسام الشاب ليكلفه برسم ستارة العرض وأزيائه وديكوراته، لم يفعل هذا لمجرد أن بيكاسو صديقه، أو لمجرد أنه رسام، أو غارق في الحداثة حتى أذنيه، بل تحديداً لأنه كان قد لاحظ أن الرسام ومنذ وصوله باريس، وعبر خوضه مرحلة رسمه الزهرية ثم الزرقاء وصولاً إلى مشاركته في ابتكار الفن التكعيبي، إنما كان يفرد للمشاهد المسرحية مكانة خاصة. وليس فقط عبر تنظيمه اللوحات بشكل مسرحي استعراضي، بل أيضاً وخاصة عبر رسمه مختلف الشخصيات المسرحية الآتية من عالم «الكوميديا ديل أرتي» (الهزل المسرحي الإيطالي العريق)، أو شخصيات السيرك، أو حتى مصارعة الثيران، مصوراً هذا كله ببعد استعراضي أكيد يقول الكثير عن توق بيكاسو إلى أن يكون هو نفسه بذهنيته وألوانه ومواضيعه، جزءاً من الاستعراض المسرحي.

في الوقت نفسه إذاً، فإن بيكاسو، بخلاف رفاقه الرسامين الذين شاركوه اختراع «التكعيبية» واعتادوا الاجتماع أسبوعياً في مقهى «لاروتوند» في حي مونبارناس، بدا وكأنه كان يريد أن يضاهي في خوضه المسرح، رسامين سابقين له، جعلوا من المسرح موضوعاً لهم: (ديلا كروا ولوتريك، كذلك دومييه وديغا). أما مضاهاتهم فكانت تكمن بالنسبة إليه، في أن يكون هو، منفرداً من بينهم، داخل المسرح وجزءاً من اللعبة، لا مجرد متفرج من الخارج. لقد كان تولوز لوتريك أقرب الجميع إلى الوجود داخل اللعبة الاستعراضية، لكنه حدّ نفسه بالأندية الليلية.. أما بيكاسو فإنه سيحلِّق مسرحياً ذاهباً أبعد بكثير. وهذا الأمر أتاحته له دعوة جان كوكتو.

فشل العرض ونجا بيكاسو
انطلاقاً من تلك الدعوة إذاً، ولأن دياغيليف، كان يقدِّم عروضه ذلك الحين في روما، توجه كوكتو وبيكاسو معاً إلى العاصمة الإيطالية ليصيغا العرض الأول لفرقة «الباليهات الروسية» على إيقاع موسيقى لا تقل جنوناً عن عملهما، كتبها إريك ساتي، الذي تلاقت نظرته إلى فن خالٍ من العواطف مع «شعر» جان كوكتو الذي كان في أساس العرض، مع تكعيبية تزيينية صاغها بيكاسو، ستارة وديكوراً وأزياءً. ولقد حمل ذلك العرض عنواناً ولا أبسط هو «العرض» (Parade) إنما بالمعنى القاموسي للكلمة: أي الاستعراض الساخر الذي يقوم به قوم بائسون. ونعرف أن هذا النوع من القوم كان قد ملأ لوحات سابقة لبيكاسو، ومن هنا لم يكن صعباً عليه أن يضع الرسوم، لنص من كوكتو، يقوم على وجود ثلاثة أشخاص عند باب مسرح يدعون المارة إلى الدخول والفرجة مقدمين عند الباب أجزاءً من المشاهد الموعودة في الداخل.

اشتغل ساتي وبيكاسو وكوكتو يومها مع دياغيليف وفرقته بكل نشاط وإيمان بما يفعلونه..ولكن، حين قُدِّم العرض في ليلته الأولى لم يكن النجاح في الانتظار. ولم يكن الجمهور الحاضر في المسرح الوحيد الذي صخب احتجاجاً، بل إن النقاد والصحافة صرخوا معاً في صبيحة اليوم التالي:
يا للفضيحة!.

فشل العرض، لكن بيكاسو لم يكن خاسراً، فهو استثني من الشتائم النقدية بعد أن كان الجمهور صفق لإسهامه التكعيبي في الستارة والأزياء. لكن هذا لم يكن مكسبه الوحيد، إذ كانت هناك أيضاً بطلة المسرحية، أولغا كوكلوفا، الذي وجد بيكاسو نفسه يغرم بها، فيصادقها ثم يتزوجها ليبقيا معاً نحو ثماني سنوات، تركته بعدها إلى غير رجعة. وقد لا نكون هنا في حاجة إلى أن نشير إلى أن السنوات التي أمضاها بيكاسو مع أولغا، تزامنت مع سنوات عمله في ديكورات وملابس وستارات -وأحياناً مساهمته في النصوص- والموسيقى التي قدمت من خلال فرقة دياغيليف، إنما من دون كوكتو هذه المرة -حتى وإن كان بيكاسو سيعود إلى التشارك مع صديقه الشاعر والمخرج الفرنسي في أكثر من عمل لاحقاً، خارج إطار فرقة الباليهات الروسية- وكأن بيكاسو انكبَّ على عمله مع دياغيليف كرمى لعيني أولغا. وعلى هذا النحو توالت الأعمال المسرحية: ففي عام 1919م وانطلاقاً من موسيقى إيمانويل دي فاليا، مواطن بيكاسو، كان هناك عرض «ثلاثي القرن». وفي العام الذي تليه، اقتبس ليونيد ماسين، على وقع موسيقى رائعة لإيغور سترافنسكي استعراض «بوليتشينيلا» من مسرح «الكوميديا ديل آرتي» الذي رسم ستارته وأزياءه وديكوراته بيكاسو، مستوحياً مشاهد الهزل القديمة التي كان شاهدها في روما يوم زارها مع كوكتو أيام «العرض» وظلت مؤثرة فيه، رسماً ونحتاً وديكورات حتى نهاية حياته.

وفي العام 1922م، اشتغل دياغيليف مع بيكاسو وفاسلاف نيجنسكي (الذي كان يُعد أعظم راقص باليه في القرن العشرين في ذلك الحين) لتقديم «بعد ظهر حيوان» على وقع موسيقى كلود ديبوسي. وفي العام 1922م أيضاً، كان بيكاسو قد عاد إلى التعاون مع كوكتو، في مسرح «الأتيليه» الباريسي، ولكن ليس في عرض باليه هذه المرة، بل في عرض مسرحي تراجيدي مأخوذ من سوفوكليس (انطيغونا) من إخراج شارل دولان. والحقيقة أن إلهام بيكاسو التزييني (ديكور وملابس) في هذه المسرحية جعل كثراً يتحدثون عن مؤثرات إغريقية ورومانية في فنه. وبعد عامين من ذلك، عاد بيكاسو إلى موسيقى إريك ساتي، ليرسم ديكور وأزياء وستارة عمل باليه ضخم عنوانه «مركور» أخرجه ليونيد ماسين.

وهكذا إذاً، كان بيكاسو قد بدأ يغيب عن نشاط فرقة دياغيليف تزامناً مع بدء مشكلاته مع أولغا. ولكن في أواخر ذلك العام عادت الظروف تجمع مرة أخرى بين بيكاسو وجان كوكتو ونيجنسكي ودياغيليف، لكن هذه المرة في عمل موسيقى من داريوس ميلو، في عرض سيكون أشبه بأغنية البجعة، أي باليه الوداع، للتعاون بين كل هذا العالم الجميل، عنوانه «القطار الأزرق» المستوحى من خط قطار باريس-تولوز الذي كان بدعة تقنية في ذلك الحين.

نهاية علاقة أم تقطع؟
بعد «القطار الأزرق وبعد انفصاله عن أولغا، انتهى عمل بيكاسو مع فرقة الباليهات الروسية بشكل نهائي. لكن علاقته بالمسرح لم تنته، حتى وإن كان سيغيب سنوات وسنوات عن النشاط المسرحي المباشر. فإذا كنَّا لن نلتقي بيكاسو مسرحياً، إلا بشكل نادر خلال السنوات الخمسين الأخيرة التي عاشها حتى رحيله عام 1973م، وفي نشاطات جزئية: تصميم صولجان لمسرحية «اندرماك» يحمله جان ماري (1944م)، وقبله ستارة لمسرحية عنوانها «14 يوليو» (1936م)، أو ستارة أخرى لمسرحية راقصة لجاك بريفير ورولان بيتي عنوانها «موعد» (1945م) مع استثناءات قليلة تمثلت في تصميمه ديكورات مسرحية «أوديب ملكاً» (1947م)، أو مسرحية «نشيد جنائزي» (1945م) من قصيدة لفدريكو غارسيا لوركا، مع عودة إلى «بعد ظهر حيوان» في أوبرا باريس هذه المرة (1960م)، فإننا نعرف أن بيكاسو لم يكن، منذ العشرينيات، في حاجة إلى العروض المسرحية نفسها كي يؤكد اهتماماته بالفنون المسرحية وغوصه فيها.

إذ إن هذا الفنان الكبير، الإسباني الأصل والذي ملأ القرن العشرين طولاً وعرضاً ورسم مئات اللوحات الرائعة وحقق أعمالاً لا تضاهى في النحت وفنون الخزف، كما كتب نصوصاً ولا أجمل، حرص خلال العقود المتبقية من حياته، على أن يصنع فنه كله تقريباً، تحت شعار المشهد المسرحي. بكلمات أخرى لم يعد هذا المشهد جزءاً مكوناً من معظم المشاهد الذي يرسمها فقط، بل جزءاً من روح فنه. ولعله في هذا قد أعاد لهذا الفن مسرحيته الداخلية، التي كانت له قبل أن ينخرط في اللعبة المسرحية الاستعراضية بشكل مباشر.

وعلى هذا النحو، عاد دائماً للاهتمام برسم شخصيات السيرك، في عملها كما في بؤسها وبالشخصيات المستقاة من الكوميديا ديل آرتي: أرلكان وبيارو. عاد إلى رسم المهرجين لكنه في الوقت نفسه، حرص في كل لوحة من لوحاته، حتى حين كان يرسم بورتريه لابنه ولامرأة من نسائه، أو لأفراد عائلته، على أن تكون الوقفة والجوهر مسرحيين.

مسرحي من نوع خاص
في هذا السياق لن يكون من المغالاة القول، إن بيكاسو اشتغل طوال حياته في اتجاهين متكاملين: مسرحة الحياة، لرسمها، ثم مسرحة الرسم لإضفاء، الحياة عليه. وهو من أجل هذا، لم يكتف بأن يجعل من أصحابه وأبنائه وأقاربه، في لوحاته موديلات مسرحية (كأن يلبس ابنه بول ثياب المهرج ليرسمه)، ولم يكتف بأن يجعل مشاهد كثيرة لديه مجرد «إخراج» لمشاهد من الحياة وكأنها تقدم على خشبة مسرح كبير. بل إنه، أكثر من هذا، حين أراد أن يعيد رسم بعض اللوحات الرائعة التي أحبها لدى رسامين سابقين عليه، لم يحاكي تلك اللوحات تماماً، بل إنه مسرحها: استخلص ما في جانب منها بُعد مسرحي ليرسمه: هذا ما فعله، مثلاً، مع لوحة بيلاسكويث «لامينيناس» ومع «غداء على العشب» لمانيه ومع «3 مايو» لغويا، على سبيل المثال لا الحصر. كما أن هذا كان ما فعله مع مشاهد لم يأخذها من المسارح القديمة أو من فنون اليونان والرومان، أو من أسلافه الكبار، بل من الحياة نفسها. مثلاً هل يمكننا اعتبار لوحته الشهيرة «امرأتان راكضتان على الشاطىء» غير عمل كبير مستوحى من الحركة المسرحية وحركة رقص الباليه في آنٍ معاً، في العام 1922م أي في العام الذي كان منخرطاً فيه، في العمل المباشر للمسرح مع دياغيليف؟

ثم، ولعل هذا أهم ما في هذا السياق كله: ألا يمكن اعتبار لوحته الكبرى «غرنيكا» التي رسمها مستوحياً المجزرة النازية الكبيرة التي ارتكبت عام 1937م في حق قرية إسبانية وادعة، مشهداً مسرحياً متكاملاً، ليس فقط في عناصره المكونة أو العلاقة بين هذه العناصر، بل في التكوين البعدي للوحة؟

ترى، ألا يقول لنا هذا كله إن بيكاسو كان في المقام الأول، رجل مسرح واستعراض، انطلق من مشهد فيه مصارعة الثيران، ليصل حتى إلى مسرحية كتبها وقدمها بنفسه هي «اللذة ممسوكة من ذنبها» مروراً بلوحاته وديكوراته، وقد آمن أن المسرح موجود في كل شيء. إن الحياة مسرح كبير. فلماذا لا يعيده جوهرياً إلى قلب كل شيء..إلى قلب كل عمل له؟

أضف تعليق

التعليقات