أثناء تجولك في شوارع مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، فينيسيا الشمال كما تسمى، سيلفتُ نظرك وجهان يشغلان كثيراً من الأمكنة والقلوب، بطرس الأكبر مؤسس المدينة، صاحب الحُلم الذي أصبح حقيقة بإنشاء نافذة على الغرب حملت اسمه، والشاعر ألكسندر بوشكين الذي غرّد يوماً في سمائها، ونسج معها قصة عشق متفردة، ولفظ أنفاسه الأخيرة فيها، إنه شاعر روسيا والشرق في زمانه.
ألكسندر بوشكين هو أمير الشعــر الروسي، العبقـري الذي يطلق الروس عليه هذه الصفة، كلما نسجــوا حديثاً حوله، أو استعادوا في مجالسهم الكثيرة شيئاً من إبداعاتــه. وهو برأيهم بدايـــة كل البدايات، كما قال عنه الكاتب الكبير مكسيم غوركي.
جعل بوشكين من بطرسبورغ مرتع خياله ومنزل إلهامه، لذا بعد وفاته كرّمه أهلها كما لم يكرِّموا أي شاعر أو أديب آخر.
في معاهد المسرح، سترى من يردِّد اسمه وكلماته ويدرس ويدرّس أفكاره. وكيف لا وهو أبرز من كتب في أدبيات المسرح الروسي. وكما كرَّر البروفسور على مسامعنا عشرات المرات في أكاديمية فنون المسرح بأنه “يجب على المسرح أن يحرّك في الناس الضحك، والرعب، والشفقة”. كذلك قال بوشكين وقد أصاب، فلا مسرح إن لم يحرك واحدة، على الأقل، من هذه المشاعر.
بوشكين والمدينة
أمضى بوشكين في مدينة سانت بطرسبورغ سنوات عشر حافلة أدبياً، ومع حساب سنوات الدراسة في مطلع حياته، يكون المجموع ست عشرة سنة، كانت كما يصفها أجمل سنوات يفاعته، ونصف حياته الإبداعية، وأكثر فترات نضجه.
سنوات أمضاها يقرأ في دفاتر المدينة، ويحاول تلمّس الطريق إلى أسرارها، فتصدّه مرة وتقرّبه في أخرى، فيهمس لها: “كم فيك من الغرائب يا بطرسبورغ”. إلى أن تأتي تلك اللحظة التي يصل فيها إلى عمقها، ويكشف سرّها، فيختصرها بكلمات ثلاث: “المظهر الصارم الرشيق”.
تحبه المدينة وتبجّله، وتنحني أمام عبقريته وشاعريته، وتبكي مع أولئك الذين انتظروا طويلاً في الشوارع برغم الصقيع والبرد حتى جاءهم خبر موته يوم العاشر من فبراير عام 1837. فخرجوا بالآلاف في موكب تشييعه، وخرجت المدينة معهم.
وكأن المدينة لم تتقبّل فكرة موت ابنها الشاب، صوتها الذي زاد من ألق سحرها وتفردها بين مدن الأرض، فزرعت تماثيله في ساحاتها، معلنة أنه سيبقى في أماكنه المحببة، قريباً من قراء حفظوا قصائده، ولم ينالوا فرصة اللقاء به.
الشاعر يلحق بك
على مدخل المتحف الروسي، في قلب ساحة الفنون، يقف شامخاً، حارساً لكنوز المكان، ماداً ذراعيه كمن ينشد قصائده، مرحباً بالزوار القادمين من شتى جهات الأرض، ومخبئاً الحمائم في قلبه وعلى سفوح يديه.
تودع الشاعر مؤقتاً، وما هي إلا دقائق حتى تلتقي به من جديد، هناك في آخر شقة سكنها في المدينة منذ أكتوبر عام 1836، وحتى التاســع والعشريــن من يناير 1837.
ستراه حاملاً قبعته الكبيرة، ممسكاً بها بيسراه، بينما يمينه تبدو وكأنها تعاتبك بلطف على تأخرك القليل في الوصول إلى الشارع النهري، ثم الدخول إلى عمق المكان، لترى آثار الشاعر، وتسمع ضحكاته وكلماته وأنفاسه الأخيرة.
ستحتاج إلى فنجان من القهوة لتجلس وتفكر في كل ما حصل معك خلال الدقائق الأخيرة، ولن تجد خيراً من بوشكين ليدلك إلى مكان مميز، يدعى المقهى الأدبي. قبل دخولك إلى هذا المقهى سترى اسمه مكتوباً بأشهر لغات العالم ومنها العربية، فتشعر أنك في مدينتك، تدخل مقهاك المفضل، وتتوقع أن ترى كثيراً
من معارفك يشغلون مقاعده.
لكنك ستراه هناك، يشغل مكانه المفضّل يتبادل النظرات مع رواد المكان، متأملاً، ينسج مفردات قصيدة جديدة وربما مسرحية كتلك المسرحيات التي كتبها ودفعت الروس لمقارنته بشكسبير.
ترتشف قهوتك مؤمناً أن رحيل بوشكين المبكر، أسهم في تحويله إلى أسطورة، ربما لم يكتب لها القدر أن تكون بسعة هذا الانتشار والتبجيل لو قدّر للشاعر أن يعيش سنوات طويلة. وكأن الاحتفاء بموت الشاعر الشاب، هو احتفاء بما كان سيقدمه لمدينته الأثيرة ولبلاده ولعالم الشعر في ما لو بقي حياً.
تحييه مودعاً، فيرد عليك التحية بكلمات عربية، مذكراً إياك أنه عاشق قديم لحكايات الشرق، قارئ لمعاني القرآن الكريم باللغتين الفرنسيــة والروسية، ومفتون بآياته.
وكأن الحديث عن اللغة والإبداع، هو ما يحملك نحو تمثال نصفي له عند مدخل معهد الأدب الروسي، فتراه كمن يصغي بانتباه إلى محاضرة عن أدب، هو أحد واضعي لبناته الأساسية.
تقصد محطة الميترو المسماة باسمه، فتزداد فرحاً وأنت أمام تمثاله الناصع، يودِّع ويستقبل المتنقلين بين أرجاء المدينة.
تضع وردة إلى جوار ورود وضعها مسافرون آخرون، وردة للشعر والحُب والمستقبل، لقلب الشاعر النابض بالحياة، وكأني به يترجم عبارة قالها صاحبه يوماً: “القلب يحيا في المستقبل”.