«استراحة فسيحة في مدينة الدوادمي»، هي العنوان الذي أعطاه النحَّات السعودي طلال الطخيس لزيارة محترفه الفني. حسبنا المحترف يقع على مقربة من الاستراحة، ثم اكتشفنا أنها هي المحترف. وجه الغرابة هو أن «الاستراحة» مكان اعتاد الناس أن يذهبوا إليه للتخفف من أعمالهم والاستمتاع ببعض الراحة والهدوء كمنتجع صغير يبعدهم عن أجواء العمل ويمنحهم عوضاً عنها بعض المرح والمتعة. في المقابل وجدنا هذه الاستراحة مختلفة، فما أن تدخل من بابها الرئيس حتى تجد ورشة مجهزة كمحترف فني للنحت بالكامل، فيها الطاولات والرافعات وأنواع من العُدد والأدوات التي لا حصر لها، إضافةً إلى عددٍ من الحجرات.
مدخلٌ إلى عالم النحت
بادرنا مضيفنا بقوله ”هذا محترفي الرئيس في الدوادمي، ولدي آخر مصغر في الرياض عندما أضطر إلى العمل هناك”، هذا المكان أثيرٌ لدي لأنه المحترف نفسه الذي تعلمت فيه النحت، وأنجزت فيه عملي الفني الأول في 2009م”، واستطرد طلال في رواية قصة محترفه، وهي نفسها قصة دخوله إلى عالم الفن والنحت. فالمحترف الذي آل إليه جزءٌ منه يخص عمه النحَّات المعروف علي الطخيس وهو من روَّاد فن النحت في المملكة، قبل أكثر من 35 عاماً.
كان طلال ذلك الطفل الذي يمسك بيده المقص ليقص شريط افتتاح معارض النحت التي يشارك بها عمه. وكان يزور معه زملاءه الفنانين والنحاتين ومعارضهم، كما أماكن عملهم وإبداعهم. ومع الوقت، تنامت لديه ملكة تذوق الفن. فبدأ بتمييز الأعمال وتقييمها، وأصبحت لديه خلفية ممتازة عن المناخ الفني في المملكة. وبعد تخرجه، حصل على وظيفة في الدوادمي، حيث يسكن عمه، وبحكم علاقته الوثيقة به وميوله الفنية، أصبح دائم الملازمة له طوال خمسة أعوام، وهو يرسم المخططات الأولية لمشروعاته الفنية، أو يفكر بها، ويناقشها معه. وهكذا تشرَّب طلال فن عمه تماماً دون أن يكون قد أمسك إزميلاً بيده قط.
قصة المنحوتة الأولى
نشأته التي عرضته مبكراً لأنواعٍ مختلفة من الفنون، ومناخاتها المنفتحة والمتنوعة جعلته يتجه إلى الخط العربي ويهواه في سنواته المبكرة وحتى وقتٍ قريب من انتقاله إلى الدوادمي. وكانت له محاولاته التي قطعها انتقاله من الرياض. فالخط، كما يقول، يحتاج إلى المران والتدريب برفقة معلمين وأساتذة بشكلٍ يومي، وهو ما لم يكن بمقدوره القيام به. قرر طلال بأن لديه قامة فنية كبرى يمكنه التعلم منها، وبدأ في محترف عمه. وهناك أمسك الإزميل بيده لأول مرة وخط اسكتشاته لينحت حجراً. وشارك بعمله الأول في أحد مهرجانات التنشيط السياحي لمدينة الغاط، حيث نحت اسم المدينة على الحجر بشكل جمالي، محتفياً بعشقه وانبهاره بالخط العربي الذي لا يزال ظاهراً في كل منحوتاته.
يدخل طلال إلى محترفه عندما يكون “صافي المزاج”، أو عندما تلحّ عليه فكرة. وقد يقضي في هذا المحترف أكثر من عشر ساعات متواصلة، ينسى فيها الطعام، والمحيط الخارجي في ساعات متواصلة من الانبهار والاتحاد بفنه وأفكاره الخاصة. ويعمل طلال كمدرسٍ للحاسب الآلي في مدرسةٍ حكومية، لكنه ينسى كل شيء عن عمله بمجرد انتهاء دوامه، ويبدأ بالتفكير في فنه ومشروعاته الفنية ولا شيء آخر.
النحت عزلة!!
الأدوات التي بدأ بها الطخيس احترافه لفن النحت كانت مهداةً من عمه. كما المحترف الذي اتسع له، لكنه سرعان ما بدأ يقتني أدواته الخاصة، فهو يجمعها، ويشتريها من داخل وخارج المملكة، وبين هذه الأدوات المصفوفة والمرتبة بعناية عدد من الهدايا التي قدَّمها له نحاتون آخرون التقى بهم في ورش عمل، وفي معارض محلية ودولية.
الطخيس نحاتٌ منظم، يحب أن يضع كل شيءٍ في مكانه الخاص. أدواته مرتبة بعناية، وشديدة النظافة. فهو يحرص على تنظيفها بنفسه يومياً. هذا الترتيب اللافت جعلنا نسأله :هل كل النحاتين هكذا، أم أنك تعاني هوس النظافة والترتيب، فأجاب ضاحكاً: أنا ببساطة أتعامل مع أدواتي بشكلٍ إنساني، وهذه الأدوات هي التي أجبرتني على سلوك هذا النهج.
وعلى الرغم من كونه يحب أدواته، ويعاملها بكثير من الاهتمام، وربما يتعكر مزاجه لأيام إذا ما قام أحد بلمس هذه الأدوات أو تغيير مكانها، فإنه لا يمانع أن يزدحم محترفه بعشرات الأشخاص وهو يعمل. فقد اعتاد ذلك عند عمله الحي في المهرجانات وورش العمل. أما السبب الآخر الذي يجعله مرتاحاً على الرغم من حساسية حالة التكوين الفني التي يكون فيها، فهو أن النحت حالة عزلة كما يقول. فالأدوات الخطرة، وصوتها العالي، والغبار الذي تثيره تجبر الآخرين على ترك مساحة بينهم وبين النحات، وتزعجهم، أكثر من النحات الذي يكون متمرساً ومسلحاً بكاتم للصوت وكمامات ونظارات عريضة تحمي عينية وقفازات سميكة. فهو أشبه برجل الفضاء، فالنحات يعيش في عزلة تامة عندما يعمل ولا يعنيه سوى المنحوتة التي يستمر وإياها في حوارٍ متواصل.
أكثر سؤال يطرح على النحاتين
المشروع الحالي الذي يتشكَّل بين يدي الطخيس هو قطعة من الرخام أخضر اللون. وهو مشروع قيد الإنجاز سماه “نقطة شموخ”، يتمحور حول المرأة والاعتزاز بها بوصفها صنو الرجل، وعنصر فاعلٌ في المجتمع. ويتخذ النحت في العمل منحى الحوار واختزال هذا الحوار في بعض الأحيان، وقد تعرَّض إنهاء هذا المشروع لبعض التأجيل نظراً لجدول النحات المزدحم، إذ اضطر للسفر لفترة طويلة مباشرة بعد بدء العمل عليه.
طلال الطخيس
يفضِّل النحات طلال الطخيس العمل على الحجر من البيئات الطبيعية المحيطة به، على الرغم من أنه عمل على الرخام ومواد أخرى. وتمتاز منحوتاته ببعدها الثقافي ووحدة الموضوعات التي تطرحها عادةً، إلى جانب ميله إلى استخدام عناصر فنية متفردة مثل الخط العربي في أعماله.شارك الطخيس في عديد من المعارض والمهرجانات، ولديه ثلاثة مجسمات ضخمة معروضة في ساحات الدوادمي وجدة.
من أبرز أعماله: تمثال التضحية، وهو موجود في مكانٍ بارز في المتحف المفتوح في مدينة جدة، وهو على شكل الشمعة، باعتبارها رمزاً بسيطاً لقيمة التضحية.
يقول طلال الطخيس إن تحديد المدة الزمنية التي يستغرقها إنهاء منحوتة ربما يكون أكثر سؤالٍ تكرر على مسامعه ووجه إليه تحديداً كما غيره من النحاتين. ويقول إن تحديد وقت لإنهاء مشروع بشكل دقيق أمرٌ غير ممكن نظراً لطبيعته الفنية، التي تعتمد على عديد من العوامل منها مزاج الفنان، وحالته النفسية. لكنه يؤكد أنه في حال وجدت الفكرة وترجمت على الورق كتصميمٍ متكامل، وهي الطريقة التي يتبعها، فإن انتهاء المشروع لا يستغرق وقتاً طويلاً إذا لم تكن هناك مشاغل أخرى. ويمكن الانتهاء من منحوتة أبعادها 20X40 سم خلال أسبوعين إذا التزم الفنان بالعمل بمعدل ثلاث ساعات يومياً.
لا يحب الطخيس العمل على أكثر من منحوتةٍ في وقتٍ واحد. وهو يصرف معظم وقت إنجاز المشروع على تطوير الفكرة وتخطيطها ووضع تصوراتها على الورق، حتى تنضج تماماً. وأحياناً، تظل الفكرة حبيسة أوراقه لعامين متتالين حتى يقتنع باكتمالها. فهو يحرص على تضمين منحوتاته بُعداً ثقافياً وفنياً يضمن أقصى فائدة لمشاهديه في أي محفل أو معرض فني. وربما لهذا السبب، فإن أعمال الطخيس قليلة نوعاً ما، وأقصى عدد وصل إليه هو 12 قطعة في عام واحد، لكن المعدل الطبيعي لا يتجاوز الـخمسة أعمال، وقد تطلب منه المشاركة في بعض المعارض ويعوقه عدم وجود أعمال فنية كافية.
ويستقبل الطخيس في محترفه بعض أصدقائه المقربين للجلوس والحديث. وهو يقر بأن الدخول في مجال الفن قد حدّ نوعاً ما من علاقاته الاجتماعية، فالفنان، كما يقول، من السهل أن تنقلب فكرته أو مشروعه إلى هوس وشغف، يجعله يسخِّر كل حياته ويومه لإنهائه. وهكذا يكتشف في نهاية المطاف بأنه سخَّر حياته بأكملها لفنه. ولهذا السبب يركن طلال إلى الوحدة حتى عندما لا يعمل فهو يستغرق في التفكير في عمله. أما رسالته كفنان فتكمن في “إشاعة فن النحت محلياً بشكل خاص”. ولذا يحرص على المشاركة مجاناً في كافة المهرجانات المحلية، ومنها الجنادرية، ومهرجانات أرامكو السعودية، ومهرجانات التنشيط السياحي والتراثي الأخرى.
مساعد فنان!!
ويثير الانتباه حجم الصخور والمنحوتات والمواد، وكثرتها في محترف الطخيس، وهذا ما دفعنا إلى سؤاله عما إذا كان هناك أحدٌ يساعده؟ فأجاب بأنه حتى الآن لم يفكر في ذلك. لكنه قد يفعل في حال ضاق وقته واتسعت أعماله أكثر. فالفن الحديث، كما يقول، يجعل الفنان صاحب الفكرة، ويمكن أن يستعين صاحب الفكرة بآخرين طالما أنه يقوم بالإشراف عليهم ووضع التصور الكامل والأصيل لمشروعه. وتبقى الفكرة واردة إذا لم يستطع التوفيق بين العمل في الورشة والأعمال الأخرى، أو في حال طلب منه مشروعٌ ضخم في مدة زمنية قصيرة.