..وفي هذه الأيام أكثر من أي أيام خلت تتسمر عيوننا على الشاشات.. وأينما توجهنا في البيت أو المكتب أو السيارة. إنه عصر الشاشة المضيئة. عيوننا على شاشة التلفزيون وعلى شاشة الكومبيوتر وعلى شاشة الجوال بل حتى على شاشات القيادة. شاشات شاشات شاشات.
ولكثرة ما تتعرض عيوننا لهذه الشاشات يتكون لدينا إحساس بحرقة خفيفة على سطح العين، نتعودها بل ونكاد ندمنها. وكأننا أصبحنا فراشات يجذبها نور المصباح ولا تستطيع منه فكاكاً. ويصبح النظر إلى صفحة غير مشعة، مثل صفحة كتاب أو مجلة، باهتاً وغير جذاب. إننا نتوق إلى الشعاع الوهاج يدغدغ أطراف العين، بل وكأن بؤبؤ العين سوف يتحول من شكله الدائري إلى شكل الشاشة مع مرور الزمن.
وإذ يكثر هذه الأيام الحديث عن أن الكتاب الإلكتروني سيحل محل الكتاب المطبوع، نرى أننا في الحقيقة في منتصف الطريق بين هذا وذاك. وقد ضعف شغفنا بقراءة الكتاب المطبوع، إلا أننا لا نتصور من ناحية أخرى أننا سوف نقرأ رواية أو كتاباً على سطح الشاشة المضيئة، فهذه للمتابعة الإخبارية أو التسلية أو العمل. أما المطالعة فأمرها يختلف تماماً ومتعتها لها طعم آخر.. ولو أننا لم نعد نمارسها كما كنا نفعل سابقاً. فقدنا هذا ولم نكسب ذاك.
لكن فقدان متعة النظر إلى غير الشاشة المضيئة قد يتعدى حتى موضوع القراءة إلى كل أنواع النظر. إن العيش لساعات طويلة كل يوم صباحاً ومساءً مع هذه الشاشة قد يفقدنا بمرور الوقت متعة مشاهدة أي شيء خارجها، ويصبح ما نراه عليها هو كل ما نراه ونُعجب ونتأثر به: الصور والبرامج والأفكار والناس وحتى الطبيعة.
ومع الوقت، لا نفقد الرغبة في القراءة على الورق فحسب، بل أيضاً في مشاهدة الطبيعة في البر والبحر. يصبح عالم الشاشة هو العالم الحقيقي الوحيد والعالم خارجها هو العالم الثانوي والعرضي. ويصبح شخصاً على الانترنت حقيقياً أكثر من ذلك الذي يوجد معك في الغرفة، أكان صديقاً أم أخاً أم زميلاً.
علينا أن نستيقظ من مس الشاشة.. ونتطلع من النافذة، فالشجرة الخضراء والسماء الزرقاء والوجه المليح هناك.