قول آخر

المعركة.. بين المريدين فقط

كانت المعارك الأدبية بين طه حسين وعباس العقاد «حرباً باردة» أو «خفية»! فلم تشتعل بين الفارسين الكبيرين خصومات عنيفة كالتي كانت بين أترابهما الألدَّاء! بل إن كتب الأدب تخبرنا أنه جرت بينهما مجاملات كثيرة، منها: أن طه حسين أهدى كتابه «دعاء الكروان» إلى العقاد صاحب ديوان «هدية الكروان»! كما أن العقاد خالف رأي حزبه «الوفد»، ودافع عن طه حسين أثناء محنته التي أعقبت صدور كتابه «الشعر الجاهلي»!

والسؤال المطروح هو لماذا لم تشتعل المعارك الحامية بين هذين الأديبين، على الرغم من أنهما مختلفان تمام الاختلاف في كل شيء، حتى كادا ألا يلتقيا أبداً على أي شيء؟! فمرجعية هذا الفكرية تتقاطع مع مرجعية ذاك، وهما ينتميان إلى مدرستين متنافرتين! فالعقاد يمثِّل الشخصية العصامية الجادة الأصيلة، في حين يمثِّل طه حسين الشخصية التشكيكية والمرتمية في أحضان الغرب! وشخصية العقاد لا تعرف المزايدة أو التلوّن أو الازدواجية، أما طه حسين فكان يجيد التكيّف حسب طبيعة الظروف!

لم يكن العقاد يرغب في خوض معارك مع آخرين، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، كأن ينزلق أحد الكُتَّاب مزلقاً خطيراً لا يمكن السكوت عليه، أو أن أحد الأدباء بدأ المعركة وأعلن الخصومة، فهنا تكون الواقعة قد وقعت بالفعل! مما يضطر العقاد إلى استخدام كافة أسلحته الخفيفة والثقيلة، ولا يسحب قواته من أرض المعركة إلا إذا أجهز على خصمه نهائياً. وكان طه حسين يخشى قلم العقاد، فلم يعرض له إلا لماماً وفي حذر شديد!

نقائص طه حسين في مرآة العقاد!
ومع ذلك؛ فإن للعقاد رأياً معيناً في صاحبه وفي منهج تفكيره وأسلوب كتابته، فمثلاً، كتب يقول: «أسلوب طه حسين هو أسلوب الإملاء الموقَّع الذي يجعل السكوت والابتداء فواصل ونغمات.. فهو يفكر ليُملي، ويُملي ليزاوج بين فواصل».

ويتناول طه حسين كتاب «أبو نواس» للعقاد، فيقول في نقده: «إن علماء التحليل النفسي لهم مذاهبهم في البحث يخطئون فيها ويصيبون وهم يعتمدون في بحثهم على التجارب، فتستقيم لهم حيناً، وتخطئهم حيناً. أما الأدباء فيذهبون في ذلك مذهب التقليد والمحاكاة لا مذهب الاستكشاف والاجتهاد، والعلم لا يجوز فيه التقليد».

كذلك عندما أصدر العقاد كتابه «رجعة أبي العلاء» قام طه حسين بنقده. فرد عليه العقاد بقوة! وبالرغم من هذه المناوشات بين الأديبيْن الكبيريْن؛ إلا أنه لم تحتدم المعارك الحامية بينهما. فقد كتب طه حسين كلمة في وداع العقاد سنة 1964م استهلها بقوله: «ما أشدّ ما كان بينك وبيني من خصام في السياسة أحياناً وفي الأدب أحياناً، وما أحلى ما كان بينك وبيني من مودة وإخاء..».

يبقى سؤال لا بد منه
ولكن على الرغم من انتهاء المعارك الأدبية بين طه حسين وعباس العقاد سواء كانت باردة، أو ساخنة.. فإن العداوة بين أتباع الأديبين أو بين «المدرستين» ما زالت مستعِرة، وهي عداوة ظاهرة مستحكمة، ومحتدِمة على أشدّها سواء في المعاهد والجامعات، أو في المنتديات والصالونات الأدبية، وحتى على صفحات الجرائد والمجلات، وانتقلت تِباعاً إلى الفضائيات والكواكب الأخرى! فهل هذا من الاختلاف المحمود أمْ من الخلاف المذموم؟ وهل يمكن أن يلتقي الطرفان على نقاط مشتركة؟ وهل يمكن أن تفلِح الوساطة بين المعسكريْن المتناحريْن؟!

لا يتوقع أحد حدوث أي توافق بين الفريقين.. إذ لا يبدو أن أياً من الفريقين سيقبل الصلح مع الآخر مهما كان نوع «الوساطة» التي سترعى مثل هذا المؤتمر التصالحي!

ذلك، أنه ثبت يقيناً أن أتباع طه حسين أشد لدادة، وأكثر تطرفاً.. بالإضافة إلى أن «أجندتهم» خارجية! أي إنهم يحتكمون إلى «لويس» أو «شارل»، ولا يحتكمون إلى «الجاحظ» أو «الزمخشري» حتى لو كان الأمر في مسائل الطهارة والصلاة!

ومما يؤخذ -أيضاً- على هذا المعسكر التغريبي، أنه ما زال مؤمناً بأخطاء -شيخهم- وخطاياه، حتى تلك التي تبرأ منها ككتاب «الشعر الجاهلي»، و«مستقبل الثقافة» وغير ذلك! من جهة أخرى فإن «العقاديين» أو أتباع العقاد معروفون بالحدَّة والصرامة المبالغ فيها، والتمسك الشديد بمواريثهم الفكرية والثقافية، وليسوا على استعداد للتخلّي عن حبة واحدة من مسبحة العقاد.. حتى لو بلغت الدماء ركب الخيل!

ومما يؤخذ على هذا المعسكر العقادي، أنه لم يستطع بعد أن يفهم مرامي العقاد ومقاصده الفكرية والثقافية، فلم يكن «شيخ الطريقة» منعزلاً عن الحياة، ولا متقوقعاً في ذاته؛ كما هو حال معظم «مريديه»! بل كان أكثر الناس انفتاحاً على الثقافات والحضارات الأخرى!

أضف تعليق

التعليقات