المقال المهم الذي نشرته «القافلة» في عدد نوفمبر/ ديسمبر 2007م، والموسوم بـ «أما زال الغرب يقرأ الشعر؟» لدانا دجويا، يتقاطع مع مقال آخر يدور حول الموضوع نفسه ويحمل عنوان «الشعر الأمريكي في القرن الجديد» (نشرته صحيفة «الغاوون» في عددها الثاني، ترجمة وتقديم: فادي سعد)، كتبه جون بار رئيس «مؤسسة الشعر» الأمريكية التي نشأت على أنقاض «جمعية الشعر الحديث» بعد تلقّيها هبة مالية ضخمة (100 مليون دولار) من السيدة روث ليلي الوريثة الوحيدة للشركة الدوائية العملاقة «ليلي».
كلا الكاتبَيْن جاء من خلفية مهنية غير شعرية، إذا صح التعبير، فالأول يعمل في إدارة الأعمال، والثاني يعمل في البورصة. وفي هذا الإطار يبدو أن الحديث عن علاقة الشعر بالجمهور هو حديث عن تسويق الشعر، ولذلك يتنطَّح لنقاش هذا الموضوع من لديه خبرة تتجاوز «سلعة» الاستعارة والتشبيه إلى سلعة العرض والطلب. وهذا على كل حال ربما يعطي تفسيراً للهجة الإحصاء التي مرَّت عبرها معالجتا الموضوع.
تقاطعات عدَّة التقى فيها المقالان، لكن أبرزها على الأرجح تماثل الشاعر بهوية المدرِّس، في معنى تحول الشعر من فوضى الشاعر في وصفها تجسيداً أقصى للحرية، إلى التزام الموظف. هذا الانتقال المريب لـ «بندقية» الشعر من كتف (الحرية) إلى أخرى (الوظيفة)، يختزل في حقيقة الأمر مشكلة الأداء لا الهوية، أو بالأحرى مشكلة المكانة لا الأصل. فالنقاش اليوم يدور حول مقولات مثل: نحن في زمن الرواية لا في زمن الشعر، حتى تلك التي تحمل بريقاً قاتلاً مثل سؤال: هل مات الشعر؟.. فكلها أسئلة يقع مرماها في ملعب الوظيفة التي افتقدها الشعر في رحلة الشاعر من «وظيفة» المؤرّخ (لأمجاد قبيلته) وعالم الأنساب واللغوي و… إلى وظيفة -لا تحتاج إلى وضع قوسين- هي وظيفة المدرِّس.
سنكون أكثر موضوعية إذا تناولنا «خسارة» الشعر من منظار الدور. أي تحديداً من تبدُّل وظيفة الشاعر ومكانته، وبالتالي أهميته. إذ لم يخسر الشعر من دون أن يربح الفن عموماً. خذوا السينما مثلاً على ذلك. الصورة السينمائية التي كانت -في الماضي- حكراً على الشعر، بل ومن اختراع الشعر، صارت اليوم فناً قائماً بذاته. الصورة الكاريكاتورية التي برع فيها الشعراء صارت اليوم أيضاً فناً قائماً بذاته، وهكذا دواليك.
الشعر أنجب أبناء… يحاولون اليوم (كعادة جميع الأبناء) قتل الأب!
في هذا المعنى يكون الشعر هو أبو الفنون، لا المسرح. صحيح، تذكّروا المسرح أيضاً (وإن لم يأخذ الصيت الذي فاز به الشعر في العالم كله) والحديث عن موته. ألم يخسر المسرح من صحته لمصلحة فنون أخرى أيضاً؟ الشعر -كالمسرح- فن أبوي إذا صح التعبير، وبقية الفنون أبناء… وإن يكن عقوقها جميل وساحر بالنسبة إلى أبناء جيلنا المتأخر.
في العالم العربي خسر الشعر أكثر من سواه، وهذا طبيعي بسبب ارتباطه البنيوي بالحضارة العربية. لقد أفل نجم الشعر العربي منذ أفول نجم الحضارة العربية، والحديث عن مرحلة النهضة أوائل القرن المنصرم هو حديث يفتقد الدقة كما يفتقد اللباقة التاريخية.
في أمريكا، السيدة روث ليلي المليونيرة التي حاولت نشر بعض القصائد في مجلة «شعر» الأمريكية وقوبلت بالرفض يومها، عادت وتبرَّعت بثروتها لهذه المجلة. هكذا بين ليلة وضحاها تحولت مجلة شعرية عريقة وفقيرة إلى مجلة ثرية. وممن؟ من سيدة ثرية رفضت المجلة نشر قصائدها.
لحظة من فضلكم. الصورة أصبحت على الشكل الآتي: رفضت مجلة «شعر» قصائد روث ليلي وقبلت نقودها؟ رفضت مديحها وقبلت ثأرها؟ نعم، ثأر جميل وبديع قامت به المليونيرة ليلي.
أخيراً، وجد المال الطريقة المناسبة للثأر من الشعر. للأسف، في بلادنا العربية المال لا يفكِّر في الثأر أبداً!