في زمن يشهد اندفاع الملايين في كافة دول العالم صوب المدن للإقامة والعمل أملاً في حياة أفضل، تكاد القرى الصغيرة أن تخرج من ذاكرتنا، بعد أن خرجت في القرن العشرين من قائمة مقاصدنا.
في سويسرا، وعلى مقربة من الحدود الألمانية، تحالفت الصدفة مع فضولنا ليقودنا ذلك إلى قرية كل ما فيها يقول للزائر إنه فيما يشبه فعلاً “القرية الفاضلة”.
بعدما تركنا مدينة كونستانتس الألمانية الضخمة، وعبرنا الحدود السويسرية، وجدنا على مسيرة أربع دقائق لوحة إرشادية كُتب عليها (Gottlieben)، دفعنا الفضول إلى استكشافها.
ويالغرابة ما اكتشفنا: قرية عمرها 750 سنة، يسكنها اليوم 300 شخص فقط قادرون بضرائبهم على جعلها تعيش في رخاء، ومدرسة عمرها أكثر من 100 سنة تضم 14 تلميذاً فقط، وفندقين من القرون الماضية، وطبيعة ذات جمال يفوق الخيال، وهدوء وسكون وخشوع، فلا تسمع إلا الهمس.
الخروج من الزمن
لا يوجد طريق يشق القرية، بل يجب أن تترك سيارتك في مكان ما خارجها، وتسير على قدميك دقيقتين، لتصل إلى ميدانها، الذي تهيمن عليه البيوت التقليدية المعروفة باسم «فاخ فيرك هاوس»، المصنوعة من الأخشاب الملونة. كل بيت يحمل لوحة تذكر تاريخه. هذا لشاعر كبير، وذاك المبنى الأثري للمدرسة القديمة، وذاك فندق عريق.. لكن الغريب أنها كلها تقوم على الجانب الأيسر من الميدان، أما الجانب الأيمن فهو عبارة عن أشجار عالية، وبوابة خشبية، لا يظهر ما خلفها.
في المتجر الوحيد في القرية، تجد كل شيء تريده، طعاماً وشراباً، وكتباً وهدايا تذكارية، ومطويات للسياح بلغات مختلفة، وبائعة كبيرة في السن، تشعر بأنها قادمة من أزمنة بعيدة. وعلى الرغم من تقدم سنها تمشي هرولة، وتأتيك بما تطلب من مشروبات ساخنة وسندويتشات، تقوم بإعدادها طازجة أولاً بأول، وفوق كل ذلك تزودك بالمعلومات التي تريدها.
سألتها عما وراء الأشجار العالية، فقالت إنها القلعة، لكن ساكنيها لا يحبون المتطفلين، فأحاطوها بهذه الأشجار التي تحجب الرؤية. ثم أضافت بنبرة حزن، لكن سيدة القصر ماتت في العام الماضي، وهي المغنية السويسرية العالمية ليزا ديلا كاسا، التي اشترت هذا القصر مع زوجها عام 1951م، ثم توقفت عن الغناء عام 1974م وهي في أوج مجدها، بسبب مرض ابنتها الوحيدة، فانقطعت عن العالم الخارجي، وتفرغت لإعمار القصر بغرفه البالغ عددها ثلاثين غرفة، وزراعة الحدائق المحيطة به. وفجأة همست لي البائعة، وكأنها تذكرت أمراً مهماً: «هناك طريقة وحيدة لمشاهدة القلعة وتصويرها، وهي أن تستأجر قارباً، فالواجهة المطلة على البحيرة، ليس فيها أشجار تحجب الرؤية، ومن هناك ترى القصر والبرجين القائمين على جانبيه».
تأسس الفندق المجاور للمتجر، واسمه «قلعة التنين»، في عام 1620م. وتركت هذه القرون الأربعة التي مضت بصماتها عليه. فتجد فيه روح الماضي في طراز أثاثه، وفي جميع مرافقه. السلالم الخشبية تحتفي بخطوات كل من يصعدها، فيسمعها كل سكان الغرف.. ويكفي هذا المبنى العريق أنه صمد أمام الفيضانات التي ألمَّت بالقرية مراراً خلال التاريخ.
في مواجهة الفندق مبنى آخر اسمه «فاجهاوس»، وهو عبارة عن مطعم من طابقين تابع للفندق ومطل على البحيرة. ولهذا المطعم أيضاً تاريخ عريق، فقد تأسس في عام 1687م، وشهد كثيراً من الأحداث، التي وقعت بين جنباته، وعلى مرسى القوارب القريب منه.
المنظر الذي يطالعك ما بين الفندق والمطعم، يأخذ بالألباب. الورد في كل مكان، وماء البحيرة ينساب في هدوء، والجزيرة الواقعة على الضفة المقابلة، عبارة عن محمية طبيعية، فيها طيور ونباتات نادرة، ولا تقترب منها يد الإنسان ولا عوادم السيارات.
يمر بجانبنا رجلان يعلو الشيب رأسيهما لكنهما يسيران بنشاط، مجموع عمريهما لا يقل عن 170 سنة، ويبدو أن الزمن هنا يحتسب بالقرون، وليس بالساعات والدقائق، على الرغم من أن سويسرا هي بلد أدق الساعات في العالم. المهم أن هذين الرجلين وقفا فجأة أمام شاطئ البحيرة، وخلعا ملابسهما باستثناء لباس السباحة، وقفزا في الماء البارد دون تردد، وراحا يسبحان بنشاط.. ليقطعا البحيرة بأكملها في دقائق قليلة، ثم ليجلسا على الجزيرة المقابلة ويتسامران قليلاً، ثم عادا بالنشاط نفسه.
من القلعة تبدأ الحكاية
تأسست هذه القرية عام 1251م، على يد أسقف مدينة كونستانتس، ويُدعى إبرهارد الثاني، بعدما سئم المشكلات الكثيرة مع سكان مدينته، فقرر أن يشتري قطعة أرض زراعية في هذا الموقع ويقيم عليها قلعة.
وبعد فترة من الاضطرابات التي واجهت المؤسس، استقرت الأمور تدريجياً، وصارت القلعة مقراً دائماً لأساقفة المدينة الذين وفَّروا الحماية لسكان القرية، ومنحوهم حق ممارسة التجارة في المدينة دون دفع ضرائب.
وبمرور السنين، أصبح من الضروري وضع أنظمة للعيش في القرية. فصدر في العام 1521م نظام يُعرف باسم القرية. ومن غرائبه أنه نص على أن يدفع السكان ضرائبهم بالسمك، لأن الأسقف الحاكم كان محباً لطعم السمك الذي يخرج من مياه هذه المنطقة، ويتفنن السكان في إعداده مدخناً ومحمراً. كما نصَّ النظام على عدم جواز حصول أكثر من ستة أشخاص على تصريح بالصيد. وأن يلتزم الصيادون بتوصيل الأسقف أو وكيله من المدينة إلى القلعة، وتحددت فترة الصيد بأشهر معينة حفاظاً على مخزون البحيرة من الأسماك. وضمن هذا النظام الرفاهية للمدينة، وعمّها الأمن، ولم يعد السكان في حاجة للتوجه إلى المحاكم، بل أصبح متاحاً فض كل نزاعات القرية بناءً على مواد هذا النظام. ولأن مثل هذا التنظيم الاجتماعي لم يكن متوافراً في بقية المناطق المجاورة، يُروى أن ثلاث عائلات عريقة انتقلت إلى العيش في هذه القرية لكي ينعموا بشرف الانتماء إليها.
بعد ظهور المذهب المسيحي البروتستانتي على يد مارتن لوثر، قرر أهل المدينة اعتناق المذهب الجديد. وكانت القوانين الجديدة تضمن حرية العقيدة، فانتهى تاريخ الأساقفة من القرية، وتحوَّلت ملكية القلعة إلى أثرياء ونبلاء وفنانين.
وفي عام 1837م اشترى الأمير لويس نابليون القصر، ووضع فيه الخطط لاستعادة العرش. وبعد فشل خطته في المرة الأولى، اضطر لبيع القصر في عام 1842م، حتى يشتري حريته. وبعدها انتقلت ملكية القصر لنبلاء ورجال أعمال أثرياء، حتى استقر لعائلة المغنية ليزا ديلا كاسا، كما سبقت الإشارة.
القرية اليوم
من يتعمق في تاريخ هذه القرية، يشعر أن كل بقعة فيها تحمل ذكريات كثيرة، ولكن هل يمكن أن يظل الماضي مهيمناً على حياة الناس، وأن يقضوا حاضرهم ومستقبلهم مع هذه الذكريات؟ لعل جولة في وسط القرية، بعيداً عن شاطئ البحيرة، تجلي صورة الحاضر والمستقبل.
بالإضافة إلى ميدان القرية الواقع على أطرافها، يوجد في داخلها ميدان آخر، يضم مبنى البلدية، وبجواره المبنى الجديد للمدرسة، وبعده بأمتار قليلة مدخل إلى حديقة صغيرة مملوءة بالورد البديعة. دخلتها لأكتشف أنها مقابر القرية، لكنها لا تتسع لأكثر من حوالي عشرة أشخاص، عموماً كل ما في هذه القرية صغير جداً، فلماذا لا تكون المقابر أيضاً بهذا الحجم؟
قررت أن ألتقي بعمدة القرية لأعرف شيئاً عن واقع القرية اليوم. فوجدت سيدة تُدعى روزماري أوبرجفيل، هي التي تشغل المنصب، وتقول مازحة بتواضع شديد، إن الخيارات أمام السكان لم تكن كبيرة، لقلة عدد المرشحين. لكن بعد أن أنصتنا لها، تساءلنا ما إذا كان ممكناً العثور على أفضل منها، لو كان عدد المرشحين أكبر من ذلك.
العمل التطوعي
قبل أن ننقل ما قالته عن قريتها، من المفيد أن نشير إلى أنها تدير القرية مع أربعة زملاء لها، كلهم وصلوا إلى مناصبهم بناءً على اختيار السكان. وأنها تقوم بكل هذا العمل مقابل خُمس وظيفة. أي أنها تحصل على 20 في المائة فقط من راتب الوظيفة، حتى لا تثقل على ميزانية القرية، على الرغم من أنها استطاعت مع زملائها تحقيق فائض في الميزانية. فهم يعتمدون على العمل الحر، ليحصلوا على دخل جيد. وتؤكد أن كل سكان القرية يشاركون في العمل التطوعي من أجل الجماعة.
النقطة التي كررتها كثيراً هي إصرار سكان القرية على استقلاليتها. فهم لا يريدون أن يندمجوا مع أية قرية أخرى ليصبحوا جزءاً من كيان أكبر، رغم أنها أصغر قرية على مستوى سويسرا بأكملها، وعلى الرغم من أن مدرسة القرية ليس فيها إلا 14 تلميذاً وتلميذة فقط، ورغم أن القرية التالية لا تبعد أكثر من كيلو متر واحد. كما أن سكان القرية يضطرون إلى دفع ضرائب تعادل ضعف ما يدفعه سكان أي قرية أخرى في المقاطعة، إلا أن اعتقادهم بأن أجدادهم حافظوا على استقلاليتها وتاريخها العريق، يجعلهم يتمسكون بذلك.
في اللحظة نفسها التي تتكلم فيها عن التاريخ، تؤكد رفضها اعتبار قريتها متحفاً تاريخياً. بل تراها قرية تنبض حياة. وتشير إلى وجود عشرين شركة حديثة صغيرة أو متناهية الصغر، وتشجيع القرية لشركات التقنيات الحديثة، مع الحفاظ على البيئة. ولذلك يصر سكان القرية على عدم وجود طريق يخترق القرية، ليصلها بغيرها من القرى والمدن، ويسعون بذلك إلى التوصل إلى طريقة لتحقيق التوازن بين المتطلبات الاقتصادية والبيئية.
حين تستفزها بالسؤال عن هوية السكان، الذين يتحدثون الألمانية، ويعيشون على بعد (قفزة قطة) كما يقول التعبير الألماني، من مدينة كونستانتس، علاوة على أن نصف سكان قريتها يحملون الجنسية الألمانية، توضح أن السويسريين ليسوا من الشعوب التي تتغنى بقوميتها. لكن كل فرد فيها يعتز بانتمائه إلى هذه الدولة ذات التنوع العرقي، التي تحمل اسم «الاتحاد السويسري». وتقول إن سكان هذا البلد محاصرون بالجبال من كل مكان، فاعتادوا على العمل في حقولهم والكدح والتعب والإتقان. وأصبحت هذه هي طريقتهم في الحياة، باختيار مجالات صغيرة ومحدودة، والسعي إلى الوصول بالمنتج إلى درجة الكمال، سواء تعلَّق الأمر بصناعة الساعات، أو حتى الشكولاتة.
تخيلنا أنها تنطلق من أيدلوجية حزبية، فسألناها عن الأحزاب المهيمنة على الحياة السياسية في القرية، فردت ببساطة بأنه لا توجد أية أحزاب في القرية. ولا يضيع أي جهد أو مال في حملات انتخابية. القضية ببساطة أن الناس تعمل من أجل الناس. وأضافت قائلة إن ما اعتاد الألمان أو الفرنسيون على القيام به من إضرابات عمالية، ومظاهرات من أجل زيادة الرواتب، هي أمور لا يعرفها السويسريون، لأنهم يشاركون في كل القرارات، هم من يحدد نسبة ما يدفعونه من ضرائب، وبنود الإنفاق، وهم من يوافق على المشاريع الضخمة أو يرفضها، وطالما أنهم هم أصحاب القرار فلماذا يتظاهرون؟ وأوضحت أن ظاهرة التهرب الضريبي، تكاد تكون منعدمة في سويسرا.
الانفتاح على الأجانب
عندما ألمحنا إلى وجود بعض الميول اليمينية في سويسرا، قالت إن ذلك صحيح. فالاتجاه المحافظ يهيمن أيضاً على القرية، لكن ذلك لا يعني العنصرية أو كراهية الأجانب. والدليل على ذلك أن نصف سكان القرية تقريباً من الأجانب، خاصة من الألمان. ولولا شعورهم بتقبل السكان السويسريين لهم، لما استقروا في هذه القرية، وأداروا ظهورهم لبلدهم.
سألناها عن اللاجئتين القادمتين من إقليم التيبت الصيني، ومدى اندماجهما في مجتمع القرية، فأوضحت أن ثلاث سيدات من سكان القرية تبرعن بتدريسهما اللغة الألمانية دون مقابل، حتى يتمكنا من المشاركة في النشاطات الاجتماعية، إذ لا يمكن الاندماج في مجتمع لا تفهم لغته.
فإذا كان الناس في هذه القرية يعطفون على من يأتي إليهم لاجئاً، ويكرمون وفادة من يستقر عندهم من الأجانب، ولا يتهربون من دفع الضرائب، ويتنازلون عن أجورهم حتى لا يثقلوا على الميزانية العامة، وإذا كانوا يحافظون على نظافة قريتهم، ويتعاونون في الشدائد والمحن، ولا يحتاجون إلى شرطة، وعندهم قوة مطافئ تطوعية من السكان، ويرتبطون بكل من حولهم في سويسرا أو ألمانيا بعلاقات متميزة، ألا تستحق قريتهم فعلاً لقب «القرية الفاضلة»؟