صفحات.. صفحات.. صفحات.
تنبثق أرتال الصفحات من بطون آلات الطباعة تماماً كما تنبثق الينابيع من بطن الأرض.
تدور المطابع ليل نهار.. يتردد صداها كدوران عجلات القطار. مع كل دورة تسحب الآلة الطباعية ورقة ثم أخرى .. تطبع عليها حروفاً وألواناً وصوراً.
فما هي قصة الطباعة؟ وكيف تعمل هذه الآلات التي لا تكل لتحقق دورها كوسيط لا غنى عنه بين الكاتب والقارئ.. وكيف تحوّل الكلمة المكتوبة إلى كلمة مطبوعة وعلى مئات ملايين الأوراق في كل أنحاء المعمورة، مع مطلع كل صباح،لتبث العلم والمعرفة..والأخبار.
تعدد في خدمة الكلمة
المطبعة.. ذلك المكان المكتظ بتفاصيل المهنة، لا زال يحتفظ بكثير من أسراره الغائبة عن الكثيرين.. ما هو حاضر فـي أذهان الناس عن هذه الصناعة الجبارة، أنها تدفع إليهم كل يوم بتلال من الكتب والصحف والمجلات والمنشورات.
هذه الصناعة تتعرض الآن لتغيرات طال انتظارها، وليس لهذه التغيرات علاقة بالخشية من أن تغادر الكلمات صفحة الورق إلى صفحة الشاشة الإلكترونية. إنها تنحصر باختصار فـي المراحل العديدة والدقيقة التي تمر بها هذه العملية ابتداءً من يد المؤلف إلى أفواه مكائن الطباعة.
فـي هذا الملف تعريف بمختلف أوجه هذه المهنة الجبارة التي طبعت عصرنا، مع إلقاء الضوء على متغيراتها، من غير أن نحرم القارئ من تاريخها الشيّق فـي العالم وفـي دنيا العرب.
تاريخها.. قبل غوتنبرغ.. بعد غوتنبرغ
كانت مهمة الطباعة في كل العصور ولا تزال حتى اليوم واحدة: إنتاج عدة نسخ من أصل واحد مرسوم. لكن تنوع أساليب الطباعة وفقاً للحاجات والوظائف المختلفة ظل موضع بحث لم ولن يتوقف، والسعي إلى تحسين وسائل الطباعة وتسهيل استخدامها هو ما صنع تاريخها.
وقد سمح فن حفر الخشب للصينيين بأن ينتجوا أول كتب مطبوعة عرفها الإنسان. وأقدم كتاب مطبوع وصــل إلينا هو «درة البوذيـــة» الذي طبـــع عام 868م، وطابعه هو وانغ تشيه. وكان نص الصفحة يحفر كاملاً
على الخشب ويحبّر للضغط والطبع على الورق.
ويُروى أن الأوربيين في القرون الوسطى لم يصدقوا ما سمعوه من رحالتهم الشهير ماركوبولو، عندما أخبرهم أن سكان الصين يستعملون نقداً من ورق ممهور بمادة قرمزية اللون. رفض الأوربيون آنذاك هذه الرواية، لأنهم عجزوا عن أن يتصوروا ورقة مطبوعة تحلّ محل الفضة والذهب، ولكن هذه الورقة المطبوعة انتصرت لاحقاً أينما كان في العالم، وحلّت بالفعل محل الذهب والفضة. في ذلك الوقت، كان اليابانيون يطورون تقنية مختلفة للطباعة بتفريغ اللوح الخشبي وتعبئة الفراغات بالحبر لتطبع أشكالها على الحرير. وهي طريقة شبيهة بمبدأ طباعة «الاستنسيل» التي نعرفها اليوم.
من صنع لي حرفاً
غير أن المفصل التاريخي في مسيرة الطباعة يتمثل في رجل واحد يردّ إليه الكثيرون من باب التبسيط «اختراع الطباعة» ألا وهو الألماني يوهانس غوتنبرغ (7931 – 8641م). كان غوتنبرغ أول من طوّر فكرة صناعة حروف معدنية منفصلة عن بعضها البعض، يتم تجميعها لتؤلف كلمات الصفحة الواحدة. وبعد طباعة هذه الصفحة، كان يعاد فرط هذه الأحرف، ليعاد استخدامها مرة أخرى.
إلى ذلك، صنع غوتنبرغ بنفسه ماكينة الطبع الخشبية التي تعمل بالضغط على هذه الأحرف، وتجهزها بالحبر المناسب للطبع، وصنع السبيكة المعدنية لإنتاج الأحرف نفسها.
كانت الأحرف التي صنعها غوتنبرغ بارزة، وهي ما تعرف حتى اليوم بـ «الأبهات». وبطرق هذه الأحرف على النحاس يُصنع القالب الذي يسمّى «الأمهات». وفي هذا القالب، صبّ غوتنبرغ سبيكته المؤلفة من الرصاص والقصدير والأنتيمون ليحصل على الأحرف المعدنية، التي تصنف في خانات صندوق كبير على طاولة مائلة، لإنتاج الأحرف نفسها، يُعرف بـصندوق الحروف، تجمع منه الكلمات والأسطر.
تغلب غوتنبرغ على كل الصعاب التي واجهته، واستطاع طباعة 002 نسخة من كتابه الأول بلون واحد، مضيفاً إليه حروف البدء والزخارف الحمراء والزرقاء يدوياً. وحتى اليوم، يوجد في العالم 34 نسخة من طبعة غوتنبرغ، أشهرها النسخة المحفوظة في مكتبة الكونغرس، والتي اقتنتها عام 0391م بأكثر من مليون دولار.
جُوبهت المطبعة في بدء ظهورها بعداء كبير من فئات عدة ولأسباب مختلفة. فالنُّساخ اهتزت مكانتهم، وقضي على مهنتهم فيما بعد. وتجار الكتب استخفّوا بقيمة هذه الكتب المطبوعة، ولم يؤمنوا بقدرتها على منافسة المخطوطات الجميلة. أما الكُتّاب والمؤلفون فقد توجسّوا شراً من انتشار الغثّ والثمين على مستوى واحد. ونعى أحدهم الاختراع الجديد بأنه: «سيجعل من المستطاع نقل أكثر الأفكار حماقة إلى صفحات ألف كتاب في لحظات».
لكل هذا، حاولت الكتب المطبوعة الأولى أن تكون شبيهة بالمخطوط إلى أقصى حد ممكن. وقد حاكم برلمان باريس أحد تلامذة غوتنبرغ ويدعى فاوست بتهمة الغش؛ لأنه باع كتاباً مطبوعاً على أساس (أنه) مخطوطة.
لكن الاختراع الجديد لم يتوقف عن التقدم والانتشار، فسرعان ما شقّت المطبعة طريقها في أوروبا المتعطشة للكتب. وهذا التعطش كان يتغذى من جملة تحولات شهدتها الحياة الأوروبية آنذاك على مختلف الصُعد في الفنون والآداب والفكر، وكانت تعكس نظرة جديدة إلى الإنسان ودوره في هذا العالم، أي ما نسميه اليوم بــ «النهضة الأوروبية». وهكذا انتشرت المطابع في إيطاليا وانجلترا وبلجيكا وهولندا والنمسا وأسبانيا قبل نهاية القرن الخامس عشر. وصارت العودة إلى الوراء أمراً مستحيلاً.
وفي حين أن غوتنبرغ قلّد في تصميم حروفه المعدنية خطوط النُّسّاخ، وضع الإيطالي مانثيوس أول حروف طباعة مائلة، ولعل هذا ما يفسر تسمية الحروف المائلة حتى اليوم بـ Italic، للدلالة على أصلها الإيطالي، كما أنتج هذا الطابع أول كتب جيب صغيرة الحجم في العالم.
احتاجت المطابع الجديدة إلى الورق وبكميات تفوق مئات المرات حاجات النُّسّاخ القدامى، فاضطرت أوروبا لتصنيع الورق آلياً بعد أن كانت تستورده من الشرق، أو تصنعه يدوياً. كما افتُتحت دور «سبك الحروف» الخاصة لتغذية المطابع. وتطلبت طباعة الكتب تجليداً يواكبها، فبدأ فن التجليد والتغليف الآلي. وهكذا راحت الصناعة الكبرى تتفرع إلى مجموعة صناعات من الباطن إذا جاز التعبير.
استمرت الرسوم المحفورة على الخشب ترافق الكتب المطبوعة، لكن الطابعين الجدد عكسوا الطريقة التقليدية باختراعهم الحفر الغائر على النحاس، ومن ثمَّ تحبير الأماكن المحفورة فقط للحصول على أحسن النتائج في الطباعة. وجذب هذا الأسلوب عدداً كبيراً من أشهر فناني أوروبا الذين تصدوا له بإبداع كبير. ومن أبرز هؤلاء الفنانين الرسام الشهير البريخت ديورر، الذي أولى هذا الشكل الطباعي لرسوماته الأهمية نفسها التي كان يوليها للوحاته الزيتية. ولكن المهم هو أن الفن بقي ملازماً للطباعة، وترسخت العلاقة ما بين المهنتين، بعد أن اعتقد البعض لوهلة أن الطباعة الآلية ستقضي على الأبعاد الفنية في الكتاب.
بعبارة أخرى، كان تحوّل الطباعة إلى صناعة وعمل آلي على يد غوتنبرغ، منعطفاً مهماً في تاريخ العالم، دخل منه إلى عصر جديد، تيسرت فيه المعارف والعلوم لأعداد هائلة من البشر. كما كان لهذا التحول الفضل الأول في ظهور اختراعات جديدة مثل الصحف اليومية والمجلات الدورية، وتطورت بفضله فنون وصناعات عدة بدءاً بفنون الإعلان والزخرفة، وصولاً إلى صناعات الملابس وتعليب الأطعمة.. حتى صارت الطباعة صناعة ضخمة تلفّ حياة المجتمع المعاصر من كل حَدَب وصَوْب.
المواكبة العربية ..
لم تتأخر الطباعة العربية أكثر من مئة وخمسين
عاماً عن الطباعة في الغرب، مما سمح للمطبعة العربية أن تلعب دوراً تنويرياً مهماً في النهضة العربية الحديثة، فقد يسرت نشر العلم والمعرفة في مجتمعات كانت بأمس الحاجة إليها، وعززت الروابط الثقافية بين الأقطار العربية.
ناضلت المطبعة العربية لتبقى وتتقدم في أقسى الظروف الاجتماعية والسياسية. عاصرت الحروب والاستعمار، وكافحت الأمية والتخلف، وأوجدت مراكز إشعاع رئيسة،ارتبطت بكل بقعة من دنيا العرب، من المحيط إلى الخليج.
كان المتصدون لهذا العمل الجديد من كبار المثقفين، حتى أن معظمهم كان المؤلف والمصحح والإداري والناشر في آن واحد. وفي جانب آخر شكلت الطباعة قطاعاً صناعياً جديداً ، ساهم إلى حد ملحوظ في التطور الاقتصادي والتنموي.
تعود حكايات المطبعة العربية إلى مدينة حلب في سوريا في بدايات القرن الثامن عشر، فإلى هناك وصلت أول مطبعة عربية هدية من حاكم مقاطعة الأفلاق برومانيا إلى رئيس إحدى الطوائف المسيحية. ووجدت هذه الهدية في شخص الرائد الطباعي العربي الشماس عبدالله زاخر مايؤهلها للعمل والاستمرار.
كان عبدالله زاخر منذ صغره موهوباً في مهنة الصياغة والنقش. تعلم صناعة الساعات وسبك الفولاذ، وتلقى تعليمه في المدينة من دون أن ينتظم في مدرسة. ومن المؤكد أنه درس العربية على يد الشيخ عبدالله النحــوي، فقد كانـت حلــب، عندمــا ولد فيهــا عبدالله زاخر عـام 4861م، مركزاً ثقافياً مهماً.
وقد عرفت مطبعة حلب الأولى التي أدارها زاخر باسم صاحبها «الدبّاس». وتمكن زاخر في سنوات قليلة من طباعة ثمانية كتب في هذه المطبعة، كان أولها عام 6071م. ولكن خلافاً حاداً نشب بين زاخر ورئيسه الذي استصدر أمراً يقضي بقطع رأسه، فهرب من المدينة، لتتعطل بذلك مطبعة حلب وينساها التاريخ.
كان من حسن حظ الطباعة العربية أن يلجأ عبدالله زاخر إلى دير هادئ بالشوير في لبنان عام 2271م، ويمكث فيه قرابة خمس وعشرين سنة حتى وفاته.. فقد أتيح للرجل أن يتفرغ لصناعة وتجميع أول مطبعة عربية خالصة.
رسم زاخر الحروف النسخية، وصنع قوالب للأبهات والأمهات. وكان صندوق حروفه يحوي 009 شكل،
على طاولة طولها 81 ذراعاً. وجاءت حروفه واضحة على عكس الحروف التي جاءت من أوروبا. كما أنه أدخل الشدّة والفتحة والضمة والتنوين لأول مرة. وصنع بنفسه المصبّات والمكابس، إضافة إلى الحبر الطباعي الذي كان يركبّه من الأعشاب وعصير الرمان وغبار الدخان الأسود. وكتب رسالة في صناعة الأحبار الطباعية. ولخبرته بالرسم والحفر، كان يحفر «الكليشيهات» بنفسه. وأول كتاب طبعه في مطبعته عام 4371م، اتبع فيه الطريقة العربية في الترقيم والتي تقضي بتكرار آخر كلمة على الصفحة في مطلع الصفحة التالية.
استمرت مطبعة الشوير بالعمل لأكثر من قرن ونصف بعد وفاة زاخر سنة 8471م. وقد اُعتبر زاخر رائد الطباعة العربية، وأول مصمم وسابك حروف عربي. وتكمن أهميته في جانب آخر، في كونه فاتح الباب
الطباعي الذي دخله كثيرون.
ضجيج جديد يعم بلاد العرب
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت أكثر من 52 مطبعة في لبنان، إضافة الى معامل التجليد ومسابك الحروف بلغات متعددة، منها العربية والتركية والفارسية والسريانية والكلدانية. وكانت المطابع اللبنانية سبّاقة في استخدام التقنيات المتجددة في مجال الطباعة، إذ استُعمل المحرك البخاري في المطبعة الكاثوليكية عام 8781م. وافتتحت المطبعة الأمريكية قسم التصوير الشمسي عام 5781م، وفي عام 0391م أديرت المطبعة الكاثوليكية بالكهرباء.
وفي مصر، بدأ فن الطباعة بمطبعة الحملة الفرنسية التي جلبها نابليون معه عند احتلاله مصر عام 8971م. وجلب معها حروفاً عربية من مطبعة الجمهورية الفرنسية، لكن الفرنسيين أعادوها معهم بعد انتهاء فترة احتلالهم القصيرة. ثم جاء محمد علي باشا فأوفد بعثات لتعلم الطباعة في إيطاليا وفرنسا، وأنشأ المطبعة الأساس في تاريخ الطباعة المصرية: مطبعة بولاق، عام 1864م. ومنذ مطلع إنشائها بدأت مطبعة بولاق كبيرة، إذ عرفت الطباعة الحروفية والحجرية وأنشأت مسبكاً لإنتاج الحروف الطباعية ومصنعاً لتجهيز الحبر الطباعي. وساهم المتدربون فيها بتشغيل المطابع الحكومية والأهلية التي انفتح الباب واسعاً أمامها. وببدء مطبعة بولاق بطباعة صحيفة «الوقائع المصرية» افتُتح عهد الصحافة المصرية المرتبطة بالطابع الحديـث، فظهرت مطبعة جريدة الأهرام لسليم تقلا بالإسـكندرية عام 1876م، وجريدة ومطبعة وادي النيل عام 1866م، ومطبعــة ومجلة الهــلال عام 1898م والكثير غيرها. وعرفت الطباعة المصرية تطورات سريعة في بدايات القرن العشرين، إذ أدخلت آلة الجمع الآلي «لينوتايب» العربية عام 1908م.
وفي العشرينيات تولت الطباعة الحجرية طباعة الملصقات الإعلانية الضخمة للمسرحيات، كما جلبت مجلة (اللطائف المصورة) أول آلة طبع كليشيهات الصور المحفورة على الزنك عام 1915م، وبحلول عام 1909م وصل عدد المطابع إلى 131 مطبعة في كافة أنحاء مصر. وأدخلت مصلحة المساحة أول طابعة أوفست عام 1912م.
أما سورية فقد عرفت الطباعة قبل لبنان، وذلك بظهور مطـبعة حلب للبطريرك دباس عام
1706م. ولكن اختفاءها السريع وهجرة مهندسها الأول عبدالله زاخر إلى لبنان أوقف تقدم الطباعة فيها، إلى أن ظهرت «مطبعة بلفنطي» الحجرية عام
1814م ثم مطبعة الدوماني عام 1855م ومطبعة ولاية سورية بدمشق عام 1864م، التي أنشأتها الحكومة التركية.
وفي العراق عُرفت الطباعة الحجرية منذ عشـرينيات القرن التاسع عشر، وافتتحت أول مطبعــة رسـمية عام 1866م، ومطبعة المساحة «بالأوفسـت» عام 1925م. وظهرت أول مطبعة في القدس عام 1830م. أما أول مطــبعة في الأردن فقــد بــدأت في عام 1922م.
وفي المملكة العربية السعودية ظــهرت «مطبعة ولاية الحجــاز» عام 1882م، وكانت تدار بالقدم، ثم أنشئت المطبعة الأميرية التي صدرت عنها صحيفة «الحجاز»، وفي عام 1919م أنشئت مطبعة «القبلة»، وعمل جلالة الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، على تطوير هذه المطبعة وأطلق عليها اسم «مطبعة أم القرى». وأرسل 17 طالباً للتخصص في الطباعة في مطبعة بولاق المصرية. وأنشأ السلطان عبد الحميد الثاني أول مطبعة باليمن عام 1877م. كما عرفت أول مطبعة حجرية بالسودان حوالي عام 1880م. وعرفت الطباعة في البحـرين عام 1939م. وفي الكويت عام
1947م. وقطر عام 1956م. ولم ينقض منتصف القرن العشرين إلا وكانت المطابع قد عمّت كل عواصم العالم العربي.
ورغم أن الطباعة بدأت في تاريخ مبكر في كل من بيروت والقاهرة، إلا أن ظروفاً مختلفة سمحت لهذه المهنة في الانتشار والتطور في بيروت بشكل خاص، لدرجة أن قيل في الستينيات «القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ !». ولاشك أن بيروت كانت ولازالت رغم سنين الحرب الأهلية من أكبر مراكز الطباعة في الوطن العربي. بل وكانت لسنوات مُصدرة لخبرات طباعية إلى دول الخليج، حيث ساهمت في إنشاء عدد كبير من المطابع .
وكما كانت بيروت سباقة في الطباعة ، كانت سباقة في حرفة فرز الألوان، وهي في الأساس حرفة مستقلة عن المطبعة نفسها ، وقد اشتهر فيها من اللبنانيين الأرمن بشكل خاص ، وهم حرفيون ماهرون أتقنوا فنوناً مشابهة كالتصوير الفوتوغرافي وغيره.
الطباعة المعاصرة
أبقت الطباعة المعاصرة على جميع فنون وتقنيات الطباعة الأولى، لكنها من جانب آخر طورتها، وأضافت إليها القدرة على الطباعة الملونة الكاملة، كما أضافت إليها دقة متناهية، لكن التطور الأهم والأبعد أثراً كان السرعة الطباعية الفائقة، وليس أدلّ على ذلك من الصحف اليومية التي تمكنت من أن تطبع ملايين النسخ بعشرات الصفحات الملونة. شيء من هذا القبيل لم يكن ممكناً في الماضي، لا بل إن هذه الصحف لم تكن تتصور يوماً أنها سوف تطبع صوراً ملونة وبعضها لا يطبع بهذه الصور حتى الآن!
وقد عزّز هذه القدرات في العشرين سنة الأخيرة دخول الكمبيوتر، خاصة في عملية إخراج الصفحات وتحسين الصور وضبط الطباعة.
الأوفست
معظم مطبوعات اليوم تطبع بطريقة الطباعة الملساء المعروفة باسم (الأوفست)، وهي تقنية طباعية عالية الدقة، عُرفت منذ أكثر من مئة عام، مطورة من أفكار الطباعة الحجرية. وتعتمد على فكرة تنافر الدهن والماء في الألواح الطباعية. فالمساحات التي عليها الأصل المطلوب طباعته تكون دهنية السطح بينما تكون بقية اللوح قابلة لمرور الماء عليها. ولما كانت أحبار الطباعة دهنية التكوين فإن المساحات الدهنية في اللوح تلتقط اللون بينما تظل الأجزاء الأخرى المرطبة بالماء بلا لون، ومن هنا يكون اللوح جاهزاً للطبع على الورق.
على آلات الأوفست يمكن إكمال طباعة مطبوعة بعدة ألوان مرة واحدة عبر وحداتها، التي تتولى كل منها طباعة لون محدد. وهذه الطريقة هي المفضلة في طباعة الصحف والكتب والمجلات الملونة، لدقتها وسرعتها وإنتاجيتها العالية.
لكن قبل البدء في الطباعة لابد من العديد من التجهيزات اللازمة من صف للنصوص وإخراج فني للصفحات واختيار للألوان وإعداد للصور.
تجهيز النصوص
يعتبر(صف) النصوص الركن الأساس في عمليات الطباعة، حيث لا يجب أن ننسى أن المطبعة وجدت أساساً لصف نصوص الكتب وطبعها. وهناك في هذه المرحلة الطباعية عدة طرق لجمع النصوص:
1- الصف اليدوي: تجمع فيه الحروف البارزة يدوياً على مجرى معدني لتكوين كلمات ومن ثم أسطُر، ترتب على إطار معدني للطبع مباشرة، وتكون فيه الحروف مقلوبة الاتجاه.
2- الصف الآلي: ويتم عبر لوحة مفاتيح تُصب بالضرب عليها الحروف المكونة للنص آلياً في أسطر وأعمدة تكون جاهزة للتركيب على الإطار المعدني للطبع.
3- الصف التصويري: وقد ظهر منذ الستينيات. وفيه يتم صف النصوص على لوحة مفاتيح، بينما يقوم الجهاز بطبع النصوص تصويرياً من فيلم دقيق بداخله على ورق فوتوغرافي يستخدم كأصل للطباعة.
أما في مطابع اليوم، فإن معظم عمليات صف النصوص وتصميم الصفحات تتم على كمبيوترات خاصة. ومن خلالها يمكن الحصول على نموذج نهائي لشكل الصفحة المطبوعة.
الإخراج الفني
تتكون الصفحة المطبوعة من نصوص وعناوين وصور ورسوم، إضافة إلى رقم الصفحة. وفي إخراج (تصميم) الصفحة يراعى ترتيب هذه العناصر بحيث تخدم هدف المطبوعة، وتقدم مادتها بشكل جذاب ومريح.
اللون في الطباعة
الطباعة من حيث المبدأ نص أسود على ورق أبيض. هكذا كانت النشرات الأولى ولازال كثير منها إلى يومنا هذا. واللون الأسود هو الأكثر شيوعاً في طبع النصوص، ومن ضمنه هذا النص الذي تقرأه، وذلك لوضوحه وسهولة قراءته، خاصة على الورق الأبيض الذي يكثر استخدامه.
مع مرور الزمن دخلت ألوان جديدة إلى الطباعة، حتى البدائية منها، سواء أكان ذلك في النصوص أم في الزخارف التى تظهر على أطراف الكتب الدينية وغيرها. وكانت هذه الزخارف الملونة تطبع بألوان صرفة، أي جعل كل شكل أو جزء منها بلون محدد مثل الأصفر والأحمر أو الأزرق أو غيرها. ولم يكن متيسراً في بدايات الطباعة مزج الألوان خلال عملية الطباعة، فكان كل لون يطبع بمفرده خلال عملية طباعية قائمة بذاتها ثم يأتي دور اللون الذي يليه.
الصور نفسها، التي كانت قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي لوحات فنية، كانت تطبع بألوان منفصلة، كل لون على حدة. ومن أجل أن تظهر الصورة بوضوح، كان عدد الطبعات فوق بعضها البعض يصل أحياناً إلى العشرات.
في مرحلة متوسطة استخدمت عدة طرق لطبع الألوان وخصوصاً ألوان الصور. فمهما كانت طريقة الطباعة، سواء أكانت حجرية أم حفراً على المعدن أم المطاط أم مكائن الأوفست الحديثة أم غيرها، كان لابد من عملية انتقاءٍ للألوان، كل لون على حدة ولو بالبصر ليسهل طبعها. وهكذا طبعت الصور والمجلات منذ بدايات القرن العشرين. ولعلنا نذكر الكثير من المجلات والصحف المصرية حتى عقدي الخمسينيات والستينيات وقد طبعت ملونة بأساليب الحفر على المطاط والمعدن.
إن أهم ماحملته الطباعة الحديثة هو إمكانية طباعة الصور ذات الألوان الممزوجة والمتداخلة كما هو الحال مع أية صورة فوتوغرافية.
لقد اختصرت طباعة الألوان في أسلوبين:
1-الطباعة بالألوان المنفردة: والتي يتم اختيارها قبل الطبع وتمزج أحبارها حسب اللون المطلوب. وتُسهل عملية اختيار الألوان كتيبات خاصة تتضمن آلاف الألوان بدرجاتها.
2- الطباعة بالألوان الممزوجة: وهي طريقة تستخدم في طباعة الصور الملونة والألوان المتدرجة. ويتم ذلك عن طريق عملية تسمى (فرز الألوان) . فما هو فرز الألوان؟
الألوان تفرز إلى أربعة فتطبع سوية لتعود وتجتمع.
إذا نظرت إلى الصورة الملونة فستجد أن فيها ألواناً ممزوجة لا حدود لها. ومن أجل طباعة هذه الصورة تفكك إلى ألوان الطبيعة الأساسية الثلاثة، وهي الأزرق والأحمر (الماجنتا) والأصفر، مضافاً إليها اللون الأسود. عملية التفكيك هذه تتم عبر استخدام شبكات من النقاط الناعمة، حيث تستخلص نقاط كل لون على حدة في فيلم خاص بهذا اللون فيصبح لدينا أربعة أفلام، وإذا وضعت هذه الأفلام فوق بعضها تعود الصورة لتتشكل من جديد، وهذا ما يحدث خلال طبعها بالضبط، أي تفكيك ألوان الصورة إلى الألوان الأربعة ، هي الأزرق والأحمر والأصفر والأسود، ثم تطبع هذه الألوان الواحد فوق الآخر مكونةً الصورة، الأزرق وفوقه الأحمر وفوقهما الأصفر ويأتي الأسود ليحدد معالمها.
وإذا حملت مكبراً الآن ونظرت إلى صورة من الصور الملونة في هذه المجلة، فسوف تجد أنها تتكون فعلاً من نقاط دقيقة ملونة بالألوان الأربعة هذه. ويستطيع هذا النظام اللوني أن ينقل كل الألوان التي يمكن رؤيتها في أية صورة بدقة فائقة، وهي تصل إلى ملايين الظلال، ولا يعجز هذا النظام سوى عن قلة من الألوان التي تتطلب أحباراً طبيعية خاصة.
إلى الألواح الطباعية
تُجهز أفلام الصفحات التي تحمل الصور والنصوص المرغوب طباعتها، كل فيلم مخصص للون واحد. ويتم تعريض الأفلام ضوئياً على سطح الألواح الطباعية (البليتات)، وهي ألواح معدنية رقيقة حساسة للأشعة فوق البنفسجية، وينتقل الأصل من الفيلم إلى اللوح. وبعد (تحميضه) تتحول المساحات السالبة في الفيلم إلى مساحات موجبة في اللوح، وفي النهاية تتجمع لدينا أربعة ألواح طباعية للتركيب على آلة الطباعة.
من الألواح الطباعية إلى الورق
تتكون آلة الأوفست من وحدات طباعية، تتولى كل وحدة طباعة لون واحد من الألوان . وبالتالي يركب على كل وحدة اللوح الطباعي واللون الخاص بها.
ويتم تركيب اللوح على اسطوانة في داخل الآلة. وعند التشغيل يلتقط اللوح اللون من اسطوانة التلوين المجاورة له، وينقل الطبع إلى اسطوانة مطاطية أخرى، تنقله بدورها إلى الورق الذي يبدأ بالمرور
عبر الأسطوانات لتحمله من لون إلى لون.
تقنيات وحِرَف طباعية ..إضافية
الطباعة البارزة والغائرة
وفيها يتم حفر الرسوم والخطوط على قطعة من المعدن بطريقة كيميائية، وتركب القطعة على آلة خاصة لتنقل الرسم بالضغط على الورق.
البصم الذهبي
ويستخدم فيه لوح معدني محفور عليه الرسم بارزاً.
وعند الطبع يتعرض المعدن للتسخين ويضغط على شريط من اللون المعدني (ذهبي أو فضي مثلاً) فينقل اللون مطبوعاً على الورق.
القص المفرّغ
كثيراً ما نشاهد أوراقاً مطبوعة وعليها تفريغ لإظهار شكل ما، ويتم ذلك بإعداد قالب سكيني بشكل القص المطلوب وتركيبه على آلة للضغط على الورق، واحدة واحدة لتفريغه . يضيف القص المفرغ آفاقاً من الدهشة والطرافة للمطبوع إضافةً إلى وظائفه الطباعية الأخرى.
الورق بالقياس ..
والملمس
امسك هذه الصفحة، فهي من الورق غير المصقول الذي يتمتع بنوعية ممتازة. ورق الصحف من عائلة هذا الورق نفسها، ولكنه أقل جودة وللاستهلاك اليومي. أما ورق القافلة الأساسي فهو مصقول ومطفي، أي من دون أي لمعان لتوفير الراحة فـي القراءة، وذلك على عكس الملف المصور فـي وسط المجلة، الذي هو أكثر سماكة وأشد لمعاناً. أما الغلاف فهو كرتوني وينتمي إلى الأوزان الأثقل مثل التي تستخدم فـي أغلفة الكتب وغيرها، حيث أن الورق يحسب بوزن المتر المربع منه فيقال ورق 250 جرام أو 80 جرام وهكذا.
إن أنواع الورق كثيرة وبلا حدود، تختلف فـي ملمسها ونوعيتها وجودتها وسماكتها وأحجامها.
أنواع الورق المصقول تعتمد جودتها على متانته ومقاومته للتمدد مع الرطوبة. أما الورق غير المصقول فأجوده وأجمله ملمساً وأغلاه سعراً ما يحتوي على نسبة عالية من القطن. وقد راج فـي السنوات الأخيرة أنواع خشنة من الورق «المدوّر»،الذي بدأ التفكير به لحماية البيئة وانتهى بزيادة أرباح مُصنّعيه.
ويأتي الورق فـي أغلب الأحيان بمقاسات عالمية موحدة، تناسب أحجاماً من الكتب والمجلات، اصطلح على تسميتها بالقطع الكبير والمتوسط والصغير. ومن أشهر هذه الأحجام مقاسات (100×70) و(60×90 ) و(57× 82) سنتيمتر، والأخير خاص بالكتب الصغيرة. وفرخ الورق يُطوى أربع طيات أو أكثر حسب حجم الصفحات المطلوبة، وتحسب الصفحات على أساس الملزمة وهي 16 صفحة مثل صفحات هذا الملف، ولهذا فإن عدد صفحات الكتب والمجلات محكوم بأن يكون مشتقاً من أربع صفحات على الأقل، ولا يستطيع الناشر أن يضيف صفحة واحدة أو ثلاث صفحات مثلاً، بل هو ملزم أن يضيف 4 أو 8 أو 12 صفحة ..إلخ.
وبشكل عام، فإن الكتب المدرسية والكتب العادية المتوفرة في المكتبات تطبع على ورق تتراوح زنته ما بين 07 و 08 غراما، أما أغلفة الكتب فتصنع من ورق يصل وزنه إلى حوالي 003 غرام.
رحلة كتاب من قلم المؤلف إلى رفوف المكتبات
لن تنسى المطبعة سبب وجودها الأول: الكتاب، إذ أن لديها المقدرة على إنتاج نسخ فخمة وطبعات شعبية منه فـي آن واحد.
بعد استلام نص المؤلف تبدأ عملية (صف النص) ومن ثم الإخراج الفني على الكمبيوتر. وتتم هذه العملية وفق تصميم مدروس، يحدد حجم الكتاب وأحجام الحروف ونوعية الخطوط المستخدمة بالإضافة إلى شكل الغلافين الأمامي والخلفي. ثم يدفع بنموذج منه إلى المصحح الذي يراجع لغة الكتاب ويصحح الأخطاء الطباعية «وما أسهل تسربها إلى نص صحيح في الأصل».
بعد اكتمال التصحيح وموافقة المؤلف على النماذج النهائية، تصور الصفحات على أفلام طباعية وتجمّع في شكل «ملازم» لتطبع على أفرخ ورقة كبيرة. عادة ما تجمع الملزمة الواحدة ثماني أو ست عشرة صفحة على وجهي الورقة. ويتم ترتيب الصفحات في الملزمة بطريقة معينة حتى تأتي الصفحات بعد الثني والقطع مرتبة.
وبعد الطبع والطي والقص، يدخل الكتاب مرحلة التجليد بضم الصفحات، إما عن طريق الخياطة أو التدبيس أو التغرية، ثم يضاف إليه الغلاف الذي يطبع منفصلاً لاختلاف ألوانه وورقه. وربما استعمل الكرتون المغلف بالقماش أو الجلد الصناعي أو البلاستيك أوالمخمل. وقد يستخدم البصم الذهبي لنقش اسم الكتاب على الغلاف. وأحياناً تطبع سترة خارجية خاصة تحمي التجليد وتزيّن الكتاب في رفوف المكتبات.
إن كتب اليوم أكثر أناقة ودقة، لأن الإمكانات الطباعية الحديثة سمحت بنقل أفضل للرسوم والصور الجيدة، وأعادت للكتاب النَفَسَ الفني الذي عُرف به عندما كان مخطوطاً.
الصحف
تتميز مطابع الصحف الحديثة بقدرتها على طباعة كمية كبيرة منها، في مدّة زمنية قصيرة لا تتجاوز بالعادة بضع ساعات.
وتبدأ هذه الطباعة بالصفحات غير الإخبارية، كالصفحات الثقافية والاقتصادية وغيرها انتهاءً بالصفحتين الأولى والأخيرة. فالجريدة التي تحاول أن تحصل على آخر الأنباء الهامة قبل أن «تقفل العدد» كما يقال، تنهي عمليات التحرير والصف في وقت لا يتجاوز في العادة منتصف الليل، لأن الجريدة يجب أن تكون مطبوعة جاهزة للتوزيع مع ساعات الفجر الأولى، لأنها إن تأخرت في الوصول إلى القارئ في الوقت المناسب، ضاعت عليها فرصة البيع.
تُطبع الصحف على آلات أوفست ضخمة تستخدم بكرات الورق الكبيرة. ويمر الورق كشريط يطبع على الجانبين. وفي الجزء الأخير من الآلة توجد وحدة للطي والقص، فتخرج الجريدة وحدة كاملة مطبوعة مطوية بكل صفحاتها وجاهزة للتوزيع.
وبسبب الازدهار المبكر للصحافة في بيروت والقاهرة انتشرت الطباعة الصحفية الحديثة هناك قبل العواصم العربية الأخرى مع فارق أن مطابع الصحف المصرية أكبر بكثير بسبب حجم التوزيع. وفي العقدين الأخيرين انطلقت طباعة الصحف في المملكة لتواكب الإمكانات الحديثة، بل حققت أكثر من سبق، حيث نجد اليوم لدى عدد من هذه الصحف معدات حديثة بإمكانات تكاد تزيد عن حاجة السوق المحلية.
أنواع المطابع
هناك المطابع العامة التي تطبع كتباً وكتيبات وملصقات وتقارير سنوية. وهناك مطابع متخصصة مثل مطابع العلب والتغليف والكرتون ومطابع الأظرف ومطابع ورق الكمبيوتر، ثم هناك مطابع صغيرة متخصصة بنوع خاص من الطباعة الفاخرة مثل التي تعتمد التذهيب والتفريغ وما شابه ذلك. إضافة إلى مطابع العملات والأوراق الرسمية والأمنية مثل الجوازات والهويات، وهي قليلة العدد والتي تكون عادة بإشراف حكومي. ولكن تبقى أهم المطابع هي مطابع الكتب ومطابع الصحف التي هي أساس مهنة الطباعة والمحققة لوظيفتها الأسمى.
ماذا تطبع
المطبعة اليوم؟
إذا دخلت إلى مكتب ما مستفسراً، فإن الموظف قد يدفع إليك ببعض (المطبوعات)، التي ربما يتصدرها (بروشوراً) جميلاً من عدة صفحات، مطبوعة على ورق قد يكون مصقولاً أو بملمس خشن لذيذ. تقودك الصفحة الأولى بهدوء إلى الداخل الذي رتبت فيه علامات وصور ونصوص أنيقة تُغنيك عن كل سؤال.
يُعبّر (البروشور) عن الجهة التي أصدرته: من هي وماذا تفعل؟ وهو وسيلة للدعاية هادئة وأنيقة، ولكنه، فـي نفس الوقت، استعراض لأقصى إمكانيات المطبعة التي أنجزته. وإمعاناً فـي تأكيد حضورها، ترسل العديد من المؤسسات رسالة إخبارية إلى عملائها، تتولى المطبعة طبعها على ورق خفيف، سهل التداول.
فـي أيامنا هذه، ساد التعريف بالشخص من خلال تقديمه لبطاقته الشخصية. والمؤسسات والشركات تحتاج إلى قرطاسية كاملة من البطاقات الشخصية المعرفة للموظفين، والخطابات الرسمية وأوراق الفاكس والظروف المصممة بعناية، ضمن سياسة المؤسسة الدعائية. فـي مثل هذه المطبوعات تقدم المطبعة أقصى ما لديها من طباعة الأوفست والبصم المذهب والأحبار المعدنية والطبع النافر والغائر على ورق متميز وربما مصنوع يدوياً.
تحتاج المطبوعات الشخصية للتمييز. وبسبب التنافس الاجتماعي، فإن بطاقات الدعوة إلى الأفراح لا تتكرر. وكل دعوة يجب أن تكون مدهشة وغير متوقعة. وتكون أسلحة المطبعة فـي هذه الحالة الرسوم المزخرفة والخطوط الأنيقة والألوان المبتكرة والثني والتفريغ المفاجئ، على أغلى أنواع الورق.
وما سقناه ليس إلا نماذج بسيطة لتعامل المطبعة مع مطبوعاتها. فلكل مطبوعة قصة خاصة ومسار مبتكر داخل المطبعة. وإضافة لكل ما ذكرناه تطبع المطبعة الأدلة والتقاويم والتقارير والصور واللوحات وكل ما يخطر بالبال.
إن من يتعمق فـي هذه الطرق الطباعية يفاجأ بقدرتها على الرغم من اعتمادها على مواد ووسائل غير مضمونة، بمعنى أنها تتأثر بالبرودة والحرارة والرطوبة، مثل لوح القصدير المطوي واسطوانة المطاط ونقط الحبر، التي تقفز إلى الورق خلال عملية الدوران التي تمرر الورقة على الأسطوانة. بل الورق نفسه قابل للتمدد أو الانكماش مما يؤثر بشكل كبير على النتيجة الطباعية.
وبالمقابل يفاجأ الإنسان بالتطور الذي شهدتة آلات الطباعة خلال العصر الحديث، مما جعلها تحقق هذه الطباعة الدقيقة والواضحة فـي النصوص والصور. فلكي تظهر الصورة الملونة المطبوعة بالألوان الأربعة نقية واضحة، لا يجوز أن تحيد النقاط عن مواقعها ولو جزءاً من المليمتر. أما اليوم فإن المتفحص لكل مراحل الطباعة يشعر أنه آن الأوان لأن تفارق هذه الحرفة العظيمة والعملاقة تلك الأساليب المتوارثة من أيام غوتنبرغ إلى أساليب أبسط وأقل تعقيداً، مستفيدة بنوع خاص من الأنظمة الإلكترونية المعاصرة وهو ما أخذ يحدث بالفعل.
آفاق التطور
ما سقناه حتى الآن يعبر ببساطة عن الطرق المتبعة عموماً في معظم المطابع. ولكن العصر الحديث فتح آفاقاً رحبة جداً أمام تطور الوسائل الطباعية التي تهدف جميعها إلى تحقيق غايتين رئيستين هما: تحسين مستوى الإنتاج الطباعي لناحيته الجمالية، واختصار الوقت الطويل.
بالأمس، ظهر الكومبيوتر كاختراع غالي الثمن، ولكنه انتشر بسرعة، ودخل المطابع وصولاً إلى أكثرها تواضعاً ليختصر وقت صف الأحرف والإخراج بشكل كبير. واليوم…
مرت القافلة بمعظم تقنيات الطباعة، بدءاً بالحروف الرصاصية مروراً بصف الحروف الآلي ثم التصويري وطباعة الأوفست، واليوم تتم طباعة مجلة القافلة على سبيل المثال وفق تقنية هي أحدث ما تم التوصل إليه في طباعة الأوفست. ويتمثل هذا التطور في أن نظاماً آلياً حديثاً تمكن من اختزال مرحلة عمل الأفلام، فصارت الصفحات تنتقل مباشرة من الكومبيوتر إلى اللوح المعدني، من دون الحاجة لأفلام فرز الألوان التي تستهلك وقتاً طويلاً، وتبقى مصدر أخطار فنية تستوجب الحذر. وهذا النظام الجديد الذي تطبع به القافلة هو الأول من نوعه في المملكة العربية السعودية، ويمثل أول افتراق مهم عن أساليب الطباعة المتوارثة.
انتهى الموضوع؟
لا، لم ينته بعد..
فدهاليز المطابع متشعبة، وتحوي أشكالاً مختلفة من الخدمات الطباعية، وإن كانت أقل استعمالاً من طباعة كتاب أو كرّاس.
وفي الطباعة، ما من اختراع ألغى الآخر، بل كان يطوره. وتعدد التقنيات الطباعية التي ذكرناها سابقاً، وبقاؤها جميعها على قيد الحياة في القرن الحادي والعشرين، هو خير دليل على ذلك، فأكثر الأساليب تطوراً في الطباعة الملساء لم يلغ الطباعة الحجرية، التي لا تزال ناشطة لإنتاج أعمال فنية غالية الثمن. وتدنّي كلفة الطباعة الحجرية لم يلغ الطباعة الحروفية التي لا تزال رائجة في كل مكان من العالم. وأكبر مطابع العالم لم تؤد إلى إقفال المطبعة الصغيرة التي يديرها شخص واحد.
فالحاجات إلى المطبوع تختلف من مكان إلى آخر حجماً وكماً ونوعاً، وعالم الطباعة يحوي آلاف الأعمال الصغيرة التي يمكن لعامل في مطبعة متوسطة أن يلبيها..
وحتى بعد وصولها إلى أرقى المستويات في التطور الرقمي، تعرف المطابع الكبرى أن عليها العيش بجوار مطابع صغيرة، وأن عليها أن تبقى على احترامها لأصولها.. هذه الأصول التي تعود إلى غوتنبرغ وما قبله إلى الصين العتيقة والمسمار السومري القديم.
————————–
كادر
استثناء طباعي
«.. ابتداءً من سنة 1691م ظهرت المطابع الكبيرة في المنطقة الشرقية من البلاد، لتواجه مطالب التطور الذي أصاب هذا الجزء من المملكة بعد التقدم في استخراج البترول وتكريره، ولتلبي رغبات التجار والشركات، لا سيما شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو) التي كانت تطبع أغلب مطبوعاتها في بيروت.
وكان قد صدر قانون في السعودية يمنع طبع أي مطبوع خارج المملكة، واستثنيت من هذا القانون مجلة (قافلة الزيت) ريثما تتمكن المطابع السعودية من طبعها بنفس المستوى الذي تطبع عليه في لبنان.»
الدكتور خليل صابات في كتابه
(تاريخ الطباعة في الشرق العربي) ص 533
————————–
كادر
الطباعة الحجرية )الليثوغراف(
ظهرت بعد منتصف القرن التاسع عشر، وفيها يستخدم لوح من حجر اللايمستون المصقول، ليرسم عليه الأصل بمادة شمعية قادرة على التقاط الحبر الطباعي دون بقية اللوح، ثم يضغط عليه الورق فيلتقط الطبعة. نجحت هذه الطباعة في نقل الرسوم اليدوية وصفحات الكتب المخطوطة وبألوان مباشرة. وقد اعتمدها الفنانون في طبع نسخ من أعمالهم. ومن هذه الطريقة الطباعية انطلق فن الملصقات، خصوصاً على يد فناني المدرسة الانطباعية.
لقد تجاوزت المطبعة الطباعة الحجرية، ولكنها تحولت إلى أداة فنية راقية لها جمهورها العريض من الفنانين ومحبي الأعمال الفنية.
————————–
كادر
التجليد كالخياطة الراقية
أكثر ما يجذب المتنقل بين رفوف المكتبات تلك الكتب المتراصة بلون واحد، وقد زينت حواشيها زخرفة طبعت بماء الذهب أو الفضة. فالجلد الأسود أو الكحلي أو البني أو حتى الأحمر الذي يكسوها يجعلها فـي نظر الباحث بينها فـي مرتبة الكتب النفيسة.
فالأشخاص الذين يرغبون فـي الاحتفاظ بكتب أو وثائق أو حتى مجلات يعتبرونها مميزة، يعمدون إلى تجليدها فـي محاولة لحفظها من عوامل الزمن. والتجليد كما الخياطة الراقية، تصاميم مختلفة بأنواع من الجلد تبدأ بالطبيعي وتنتهي بما هو من مشتقات البلاستيك. وأكثر الأنواع المطلوبة هو الجلد الاصطناعي أو ما يسمى بـ «سكاي» لرخص ثمنه ومتانته، وقد يمزج البعض بين نوعين: جلد اصطناعي للغلاف، وجلد طبيعي لظهر الغلاف يكون من لون مختلف، يشبه ما كان رائجاً فـي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
والتجليد فن يتقنه حرفيون قلة فـي القاهرة وبيروت ودمشق. وبسبب تناقص أعدادهم تراجع الراغبون فـي تجليد كتبهم. فالأدباء والشعراء والمؤرخون ورجال العلم صاروا يكتفون بالغلاف المصنوع من الورق المقوى. فـي حين أن التجليد يقتصر على المقتنيات التي تحتفظ بها المؤسسات، وأطروحات الدكتوراه، وإنتاج المؤسسات الصحافية للتوثيق والكتب الدينية.
يعتمد الحرفـي فـي عمله على تقنيات مازالت بدائية فـي عصر التطور التكنولوجي. فالصفحات يتم رصها وجمعها بواسطة نوع من الصمغ الاصطناعي، وهو يعتبر أفضل من الصمغ العربي لاحتوائه على مواد تمنع العث من التغلغل إلى الورق. وبعد اختيار نوع الجلد ولونه لكسوة الكتاب به، يتم اختيار نوع الحرف وحجمه لطباعة اسم الكتاب ومؤلفه، وفـي أحيان كثيرة يعمد مقتنو الكتب إلى طباعة أسمائهم عليها، وبعضهم يختار زخرفة معينة للغلاف. ويتم تحويل كل ذلك إلى كليشيهات من الرصاص، وبواسطة المكبس والحبر الذي تم اختياره، فـي معظم الأحيان من ماء الذهب، يجري طبع الكلمات على الغلاف باستخدام الحرارة.
الرغبة فـي التجليد لا تقتصر على الجلد، فالبعض يختار القماش المخملي، لكنه غير مرغوب بكثرة لأنه سريع العطب، ويلتقط الغبار بسرعة. وهناك من يعمد إلى تغيير أغلفة كتب قديمة واستبدالها بأخرى، لكن ثمة كتب قديمة تكمن قيمتها فـي أغلفتها، وهذه لا تنزع إنما يتم ترميمها.
————————–
كادر
الورق والعالم
ينتج العالم سنوياً نحو 003 مليون طن من الورق لتلبية شراهة المطابع. وتشير إحصائيات نشرت مؤخراً، أن الولايات المتحدة الأمريكية وحدها تطبع بليوني كتاب و52 بليون صحيفة يومية سنوياً.
وإذا كان هناك من يستخف بحجم المنشورات الدعائية الصغيرة والمطبوعات الصغيرة الحجم لغايات تجارية، فعليه أن يعرف أن الأمريكيين يتلقون في البريد سنوياً نحو 09 بليون مطبوعة دعائية أو تجارية عبر البريد.
————————–
كادر
مطبعة.. لخدمة القرآن الكريم
«بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى بركة العلي القدير.. إننا نرجو أن يكون هذا المشروع خيراً وبركة لخدمة القرآن الكريم أولاً، ولخدمة الإسلام والمسلمين ثانياً، راجياً من العلي القدير العون والتوفيق في كل أمورنا الدينية والدنيوية، وأن يوفق هذا المشروع الكبير لخدمة ما أنشىء لأجله، وهو القرآن الكريم ولينفع به المسلمين وليتدبروا معانيه».
بهذه الكلمات وضع خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز حجر أساس «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف» بالمدينة المنورة والذي افتتح عام 5041هـ، وبطاقة طباعية تبلغ 01 ملايين نسخة للوردية الواحدة سنوياً.
ومنذ إنشائه حتى اليوم أنتج المجمع 09 إصداراً في 591 مليون نسخة من المصاحف الكاملة والأجزاء والترجمات وكتب السنة، وبأكثر من 04 لغة.
————————–
كادر
المعاينة.. الطباعية
حين تدخل مطبعة وتتجول بين آلات الطباعة يسكنك شعور غريب. فهذه الآلة الصماء تحوّل الورقة البيضاء إلى ورقة تحمل نصاً وصوراً ورسوماً. تأخذ ورقة تلو الأخرى وتبث فيها (الكلام).
لقد حضرت لتتأكد أن مطبوعاتك سليمة.. تقترب من الطابع.. وهو إنسان يشعر بقيمة خبرته ودقة دوره، وبين فينة وأخرى تراه يأخذ ورقة خرجت للتوِّ كي يتفحصها ويتأكد أن العملية الطباعية تسير سيراً حسناً وأن النتيجة سليمة.
ثم تأخذ الورقة أنت وتتأملها بدورك، كل شيء سليم، المشهد مطمئن وجميل. بالنسبة لك نجاح الطبعة أشبه ما يكون بنجاح عملية جراحية لشخص عزيز. مقابل ذلك فإن أي خطأ يُكتشف متأخراً يعتبر مصيبة، حيث لا مجال للتصحيح. الكمية يجب أن تتلف ويعاد طبعها من جديد.
————————–
كادر
اقرأ للطباعة
عبدالله زاخر..
مبتكر المطبعة العربية
الدكتور جوزيف كحالة
مركز الإنماء الحضاري،
حلب 2002م
كتاب يوثّق السيرة الشخصية لرائد المطبعة العربية عبدالله زاخر، ويلقي الضوء على تجربته الطباعية ومؤلفاته ورسائله مع نماذج من أعماله.
تاريخ الطباعة في
الشرق العربي
الدكتور خليل صابات
دار المعارف بمصر 9691م
مرجع هام دوّن فيه الدكتور خليل صابات تاريخ الطباعة العربية منذ نشأتها وحتى أواخر ستينيات القرن العشرين. تناول بالتفصيل والوثائق الطباعة في لبنان ومصر وسوريا والأردن والسعودية.
حكاية الكتاب.. من لفافة البردي إلى قرص الليزر
محي الدين اللبّاد
دار الشروق 7991م
المصمم والرسام المعروف محي الدين اللباد يستعرض في (كتالوج) من 04 صفحة رحلة الكتاب وأشكاله وطرق طباعته عبر العصور، مدعماً بحثه بالمعلومات والصور والرسوم وبأسلوب سلس وممتع.
———————————–
مصطلحات في المطبعة
هذه بعض المصطلحات الشائعة فـي كواليس المطابع، بعضها عربية وبعضها من أصول أجنبية مختلفة.
أحرف النصوص
بنط: وأصلها فـي الغالب (Point) مقياس حجم الحرف فـي النص. ومن أجل قراءة النصوص يتراوح فـي العادة ما بين قياس 10و.16 أما العناوين فهي عادة أكبر.
فونت (Font): وهو يدل على نوع الحرف (الخط)، فمثلاً حروف هذا النص هي من فونت منال بنط 14,5. وفـي هذا السياق أيضاً يتم تحديد المسافة المطلوبة بين الأسطر وتسمى (ليدنغ Leading).
عمود: وهو وحدة قياس عرض أسطر النص المتتالية، عادة ما يكون عمود الجريدة فـي حدود 4 سم فـي الصحف. ( هذا العمود مقاسه حوالي7 سم).
الورق
A4: ورق رسائل مقاس 21×27.9 سم.
A3: ورق الملصقات الصغيرة مقاس 42 x 27.9 سم.
الملزمة(Signature):ما يساوي 16 صفحة من الكتاب.
فرخ الورق: الورق الكامل بحجم (70×100) أو (60×90).
الماعون: رزمة الورق الكبيرة (100 ورقة أوأكثر).
الورق المطفي :(Matt)ورق غير لامع.
الكوشيه(Couché): الورق المصقول.
الكتاب
القطع الكبير: مقاس الكتاب 22×32 سم.
القطع المتوسط: مقاس الكتاب 17×24سم .
القطع الصغير:مقاس الكتاب 17×12سم.
المتن: كتلة النص الأساسية فـي الصفحة.
من أنواع الطباعة
طباعة الويب (Web): طباعة الورق المتصل ( البكرات) مثل طباعة الصحف.
طباعة الفلكسو(Flexoprint):تقوم على عمل قوالب خاصة للطباعة على البلاستيك وأكياس التغليف.
طباعة التيبو: الطباعة بالحروف الرصاصية وهي فـي طريقها للانقراض.
طباعة الأوفست (Offset): الطباعة الملساء من الألواح
المسطحة والتي تستخدم فـي طباعة أغلب كتب ومنشورات اليوم.
طباعة (U.V): وهو نوع جديد من الفارنيش (أي الطبقة اللامعة) الذي يعالج بالأشعة فوق البنفسجية ومن صفاته أنه بالإضافة إلى اللمعان الذي يعطيه يجف بسرعة ويحمي المطبوعة من الخدش.
بروفة(Proof) : نموذج قبل الطبع لإطلاع العميل وأخذ موافقته النهائية.
كرومالين: بروفة ملونة من الفرز الملون للتأكد من جودة الصور ومطابقة ألوانها مع الأصل.
بليد(Bleed) : حدود قص الصفحة.