على هامش الألعاب الأولمبية في بيجنغ، ظهرت في المجلات المتخصصة في الرياضة والطب وحتى الأبحاث الجينية سلسلة من الأبحاث تتضمَّن أخباراً واستنتاجات علمية وتثير قضايا بالغة الأهمية. وعلى الرغم من أن هذه الأخبار والقضايا المتفرقة لم ترقَ في استقطابها لاهتمام العالم إلى مستوى لمعان الميداليات على صدور الأبطال، فإنها تسهم مجتمعة في رسم صورة الرياضة وما باتت عليه في الألفية الجديدة.
فريق القافلة يجمع هنا آخر ما توصل إليه العلم في رسم الحدود ما بين الرياضة ذات الصورة المحببة والمفيدة من جهة، وبعض ما يجري خلف هذه الحدود من جهة أخرى.
الرياضة..
والفرق بين الجهد والإجهاد
المعلوم أن الرياضة جيدة، بل ان الأطباء يؤكدون، محقين، أن قلة الحركة تقتل. أثبتت تلك الحقيقةَ العلميةَ تجاربُ وأبحاثٌ لا شك في صحتها. فأنصار المقعد الوثير والحركة بالسيارة فقط، يؤثرون الراحة على الصحة، ويكشفون أنفسهم لكبار القتلة: أمراض السرطان والقلب والسكر. ومع ان التمرين والرياضة في ظاهرهما استنفاد للقوة واستهلاك للجسم. فما الذي يجعلهما مفيدين، ومتى ينقلبان على صاحبهما؟
اسأل أي مهندس، عن الوسيلة إلى إطالة عمر المحرك في سيارتك، يقل لك بلا تردد: استخدمه بحرص ورفق! لكن نصيحة معكوسة تصح للبشر. استخدم جسمك برفق ولا تتعبه، يذوِ ويضعف! فهل نناقض نحن البشر قواعد الطبيعة؟
حين نأكل، نكون كمحرك سيارة نتزود وقوداً. كذلك نفقد الحرارة من أجسامنا، مثل المحرك. وننتج طاقة مثله أيضاً. لكن الفارق الأساسي هو أن الجسم البشري يعيد بناء نفسه، وهو يستهلك هذه الطاقة، ويتخلص من بقاياه. وحتى ينجح الجسم في كل هذا يحتاج إلى الحركة والنشاط.
فتاريخ تطور الإنسان يشير إلى أن نظامه الغذائي وحركة حرق الطاقة فيه تشكَّلا في العصر الحجري القديم، المسمى الباليولتيكي (Paleolithic)، حين كان الإنسان يسعى طول يومه تقريباً، بحثاً عن طريدة يأكلها ويُطعم أولاده. ويرى علماء تاريخ الطب، أن معظم أمراض العصور الحديثة، إنما نجمت من فارق بين ظروف عيش الإنسان في العصور القديمة، التي طورت نظام الأيض (metabolism) في الجسم البشري، وهو النظام الذي يعين وتيرة حرق الوقود وضبط التركيب الكيميائي في الجسم، وبين أسلوب العيش الحديث الذي تبدل كثيراً، منذ أن توقف الإنسان عن السعي الجسدي الشاق للبحث عن الطعام.
يقول لورين كوردين، عالم الفيزيولوجيا في جامعة ولاية كولورادو: «ليس من صيغة ولا وصفة سحرية بسيطة. ولكن إذا كنت تبحث عن الصحة، فمقدار التمرين اللازم أكثر بكثير مما تتصور». ويروي كوردين أن زميله كيم هيل، مكث مدة في منطقة الأمازون في البرازيل، ليدرس نمط عيش قبيلة أتشيه، التي تعيش من الصيد وحده، وهي اليوم أقرب الأعراق البشرية سلوكاً من الإنسان الحجري القديم. وأن هيل لاحظ أن الرجل في هذه القبيلة يمضي في كثير من الأيام بين 8 ساعات و10، في ملاحقة لصيد الطرائد في الغابة. ويروي هيل عن خروج إلى الصيد سنة 1980م، شارك فيه. وكان في حال ممتازة، لكنه بلغ غاية طاقته في آخر الصيد. ولاحظ كوردين أن هذا ليس نظاماً يومياً بالطبع، إذ يليه بضعة أيام راحة، لكن اليوم الاعتيادي عند الصياد في الأمازون، لا يخلو من سير وجري من خمسة أميال إلى عشرة. وهي أميال في الغابة، لا على رصيف مدينة عصرية. ومع هذه المسافة، ثمة أعمال كثيرة أخرى مثل جَزر الطرائد والاحتطاب وتسلُّق الشجر، وحتى الرقص. ولا يشبه يوم الصياد الأمازوني سوى يوم الرياضي الذي يجهد بشدة قبيل المسابقات، بأقصى ما لديه من قوة.
ويؤكد كوردين أن كل قياس طبي يتحسن مع زيادة الحركة ويتقهقر كلما اقتربنا من نمط الاستلقاء في البيت والاعتماد الكامل على السيارة خارجه. ولم يتردد في القول، إن سجل الأبطال الرياضيين الطبي، من حيث قياس فحص الدم والبول وضغط الدم وكل الفحوص الأخرى، يشبه القوائم النظرية المثالية التي يضعها العلماء معياراً. فالرياضة المنتظمة تحسِّن وظيفة الشرايين وتنظِّم نسبة الدهون في الدم وتوازن الأيونات بين الخلايا وترفع الحساسية حيال الأنسولين وتنشط عمل القلب. ولا تخفض هذه الأمور احتمال المرض فقط، بل يبدو أنها تقلل خطر الإصابة باختلال ألزهايمر أيضاً.
كيف ومتى؟
لا وقت متأخر لمزاولة الرياضة
ومن الأسئلة الجديدة المطروحة على عالم الرياضة يتعلق بالتمييز بين فوائدها النفسية من ناحية والجسمانية من ناحية أخرى. فالمتعود على الرياضة اليومية، تصيبه أعراض القلق وقلة النوم والشهية، حين يتوقف لسبب ما عن التمرن. فهل للوضع النفسي أثر؟ لو وضعنا السؤال في صيغة أخرى، أشد وضوحاً، لقلنا: هل تتساوى الفائدة حين تكون الرياضة طوعاً لا غصباً؟
تؤكد الباحثة هنرييت فان براغ، أن الرياضة تعالج الاكتئاب النفسي، وتحسن الحال، حتى لدى المرضى الذين يتعاطون الدواء المعالج. وأفادت «الرياضة» طوعاً وقسراً، الفئران التي اختُبرت في الحالين. حتى أن أداءها الذهني كان أفضل بالرياضة. ولوحظت نتائج شبيهة عند الرياضيين الذين يؤدون نشاطهم طوعاً، والجنود الذين تُفرض عليهم الرياضة فرضاً. إذن فالفائدة ليست نفسية. وثبت قطعاً أن الحركة الرياضية تقلِّل كثيراً ظواهر الشيخوخة كالخرف والزهايمر وغيرهما.
كل هذا مقبول، ولكن ما الذي يجعل الرياضة جيدة للجسم، فالسؤال الأول لم يجد بعد جوابه. ما الرابط بين الجري عشرة أميال، ومنع خلية متهالكة من التحول إلى ورم خبيث؟
لقد فسَّرت المختبرات هذا الأثر الإيجابي للرياضة، بظاهرة أشبه بمنطق اللقاح. فالحيوان الذي تحقنه بجرعة صغيرة من سم الديوكسين القاتل، يقوى على النجاة أكثر من مثيله الذي لم يحظ بهذه الجرعة، حين يتعرض كلاهما لجرعة كبيرة، فينجو الأول ويموت الثاني، في غالب الحالات.
إن النشاط الرياضي منتج للسموم في جسم الإنسان، لكن جرعة هذه السموم التي تنتج من الرياضة مخففة. وحين تركض تظهر في الدم جزيئات خطرة على الحمض النووي في خلايا جسمك. وتحدث هذه الجزيئات ضرراً حقيقياً في الخلايا وفي حمضها النووي، لكنها تحفز رد فعل في جهاز مناعة الجسم، بإنتاج إنزيمات ترمم الخلايا وهرمونات تعزز المناعة، وتبقي هذا الجهاز يقظاً لاستقبال أي سموم أخرى ومعالجتها بالمطلوب. فعلى المرء إذن أن يبقي جسمه مستنفراً جهاز مناعته، بالرياضة المستمرة.
وفي هذا الشأن بيَّنت الأبحاث أمرين أساسيين قد يغفل عنهما مزاول الرياضة، أو يفهمهما فهماً خاطئاً:
الأول – هو أن كثافة المزاولة الرياضية في سن الشباب، تزوِّد الجسم مناعة تكفيه لسن الشيخوخة، وهذا خطأ، لأن المناعة في حاجة إلى تحفيز مستمر، على الرغم من أن للمناعة عمراً لا ينتهي بانتهاء التمرن والتدرب الرياضي، وقد يمتد سنوات في مرحلة الخمول. ويلاحظ أن التوقف عن الرياضة، ربما يساوي بعد سنوات، بين من زاولها ومن لم يزاولها، من حيث «يقظة» جهاز المناعة.
الثاني – هو أن الرياضة دواء لمعالجة الأمراض، وهي في الواقع ليست دواء وقد تضر في بعض الحالات، حين يكون المرء مريضاً. لكن الرياضة حاجز يكافح المرض قبل ظهوره، بالمناعة. والصحيح أو الدقيق هو القول بأن الامتناع عن الرياضة يزيد خطر التعرض للمرض. وليس من وقت متأخر، لمن يريد أن يبدأ مزاولة الرياضة. فالشيخوخة، إذا كان الجسم لا يزال سليماً، لا تحول دون المزاولة. والرياضة في سن متقدمة تفيد الجسم مثلما تفيده في الصبا والشباب.
ولكن كل ما تقدم يبقى صحيحاً إذا بقيت الرياضة في إطار الجهد المفيد ولم تتعداه إلى الإجهاد. فهل ينطبق هذا على الرياضيين الساعين إلى إحراز الميداليات في الألعاب الأولمبية؟ أو لنطرح السؤال في صيغة مختلفة: هل تنطبق هذه الصورة «البريئة» والمبسطة لفوائد الرياضة على ما هو عليه عالم الرياضة في مبارياتها العالمية اليوم؟
التكنولوجيا..
في خدمة العضلات
إن روح الألعاب الأولمبية ليست جديدة. فهي موروثة من أيام الإغريق، قبل نحو 2500 سنة. وأهم ملامح هذه الروح، أن غرض التنافس هو الصداقة، وأن الكسب ليس مهماً والخسارة ليست عاراً، وأن من شيم المتنافسين أن يتبادلوا الود والسلوك الحميد فيما بينهم.
كان هذا هو الحال، قبل أن تدخل الشركات وما تحمل من مال إلى ميادين الرياضة، في تنافس من نوع آخر. وإذا صرفنا النظر مؤقتاً عن تجارة المنشطات التي تحظرها بصراحة وإصرار قوانين الرياضة، ففي التنافس التجاري الذي يحتدم بين الشركات الصانعة لأدوات الرياضة، ما يقف عند حدود المحظور، وما قد يجتاز هذه الحدود خلسة. فقد اقتحمت التكنولوجيا المتطورة معظم أنواع الرياضة الأولمبية، لتحسين الأداء في المنافسة بين الفرق والأبطال والشركات والدول. وقد شوهدت بعض المنافسات الرياضية تجري فيما يشبه فقاعات الصابون، لكن في هذه الأمور تدخلاً تكنولوجياً
لا يؤثر في الأداء الرياضي. التدخل التكنولوجي الحقيقي في الرياضة، بات يطال عدداً من المسابقات في المضمار وفي المسابح وفي أدوات الأداء الرياضي نفسه.
وقد جهدت اللجنة الأولمبية الدولية في إبقاء التنافس قائماً بين رياضيين، لا بين شركات صناعة وتكنولوجيا، على الرغم من أن هذا لم يكن سهلاً تماماً، ولا كان سهلاً على الدوام. ففي مقابل اللجنة الأولمبية، جهدت الفرق الرياضية، واجتهد المدربون، في محاولة الاستفادة أقصى استفادة، من أحدث مآثر التكنولوجيا. فالفرق الأمريكية الرياضية استطاعت في دورة ألعاب بيجنغ الأخيرة، أن تستخدم برنامج «دارت فيش» الحاسوبي، لتدريب الرياضيين، وهو برنامج يسجل أداء الرياضي، في أدق تفصيل، ويمكِّن المدرب والمؤدي من متابعة هذا الأداء على الفور، لدراسة مواطن الضعف والقوة، وتصحيح الوضع فوراً على المكان. أما شركة «جونسون وجونسون» فعملت على تحسين بصر اللاعبين الذين يعتمدون كثيراً على حاسة النظر في أدائهم، مثل لاعبي كرة الطاولة.
وكان ثمة حرص فوق العادة على أسرار التدريب، لدى بعض الفرق، مثل فريق الدراجات الأمريكي، إذ امتنع المدير جيم ميلر عن أي شرح للأسلوب والوسائل التي اعتمدها. ويتبين إذن أن التكنولوجيا لم تكتف بتحسين تقنية تصوير نهاية السباق أو تسهيل البث التلفزيوني، مثلما قد يظن البعض. بل إن تحسين الأداء الرياضي تحسيناً غير رياضي، بالاعتماد على وسائل غير قانونية مثل المنشطات، أو على وسائل قانونية، أهمها التكنولوجيا.
وفيما يلي بعض أنواع الرياضة الذي بات التدخل التكنولوجي شبه حاسم في نتائجها.
كرة الطاولة
تركز تطوير اللعبة خلال السنوات العشر الماضية، في البحث عن زيادة سرعة كرة الشمع على الطاولة وتسريع دورانها حول نفسها. ويقول تيودور غيورغ، المدير الفني في الفريق الأمريكي، إن كل كبار اللاعبين في العالم يستخدمون اليوم مِضرباً مطوراً، ولم يعد في استطاعة أحد أن ينفرد في هذا الشأن. أما وجه التطوير فهو كسوة وجه المِضرب بمطاط صناعي يتيح تماساً أوسع مع الكرة حين تلمسه، لتشتد الضربة. وفي الوقت نفسه، يتيح هذا النوع من المطاط التصاقاً أكبر مع الكرة، ويسمح للاعب بأن يزيد سرعة دورانها حول نفسها، وهو أسلوب يجعلها تبدِّل اتجاهها حين تلامس الطاولة في جانب الخصم، فتفاجئه. وتقضي القواعد أن يكون %85 من خشب المضرب طبيعياً. وفي النسبة الباقية، أي %15، نجد اليوم طبقة من التيتانيوم والكربون، فألياف الكربون تزيد السرعة، والتيتانيوم يتقوس ليطلق الكرة مثل قوس النشاب. وثمة مادة جديدة تدعى تكساليوم، مفيدة في اللعب الدفاعي، لأنها تمتص قليلاً من اندفاعة الكرة الآتية.
السباحة
ثوب السباحة المطور ويسمى LZR، لا يُحدث موجاً في الحوض فقط، بل يُحدث أمواجاً في محافل المراقبين الرياضيين أيضاً. فالثوب المطوَّر مصنوع من طبقات رقيقة من مادة بولي يوريتين، تخفف الاحتكاك بالماء، وطبقاتها تُحدث تموجاً. لقد حطم السباحون الذين ارتدوا هذا الثوب في السباق، 37 رقماً قياسياً، ولذا يقول منتقدوه إنه مساعدة تكنولوجية غير منصفة. أما مؤيدوه من المدربين فيقولون إن هذه الأرقام ليست من صنع اللباس وحده، بل دعمته أساليب تدريب جديدة.
الدراجات
كان التركيز هذه السنة على الدواليب، لا الدراجة نفسها. حتى أن الأمريكيين وظَّفوا المهندس الذي كان يعمل في مجال الفضاء، بول لو، من أجل صنع دواليب أخف وأقوى. وقد صنع لو فعلاً دواليب أدق وأرق، فصارت مقاومة الهواء أقل، والانسياب في شق الطريق أفضل.
واستُخدمت في صنع هذه الدواليب مادة مركبة من البورون، صُنِّعت في مركبات الفضاء. ويقول لو إن دواليب البورون أقوى ثلاث مرات من دواليب ألياف الكربون، والسعر المتوقع لدولابين من هذا الصنف، بعد الألعاب الأولمبية، سيبلغ 15 ألف دولار أمريكي.
القوس
يقول المهندس غيورغ تكمتشوف، الذي يعمل في صنع الأقواس في مدينة سولت ليك الأمريكية، إن الغرض الأساسي في صناعة الأقواس هو أن يكون أداء القوس في كل مرة ثابتاً،
فلا يتبدل. فالمتباري الذي يتدرب في مناخ موطنه الجاف، يجب ألا يضطرب أداؤه في مناخ بيجنغ الرطب. ولذا صُنعت أفضل الأقواس من الزبد الصناعي لأنه لا يتأثر لا بالحرارة ولا الرطوبة. وقد بدَّلت الشركة التي يعمل فيها تكمتشوف طلاء القوس، فاستخدمت بدل ألياف الزجاج، بوليميراً صناعياً كثيف الكربون، وهو أخف بكثير. كذلك استخدمت فرق أخرى عدسات تصوير تلتقط حتى 1200 صورة في الثانية، وهي تتيح للمدرب، الذي يستطيع مراقبة حركة النشاب الدقيقة، لأن لديه صورة مسافة كل إنشين، أن يدرس الأخطاء المحتملة التي ارتكبها الرياضي في أدائه.
كرة المِضرب
تَزوَّد اللاعبون هذه السنة مضاربَ مصنوعة من مواد لا تنقل إلى يد اللاعب سوى ذبذبات من تردد معين، واستُخدمت كذلك ألياف تيتانيوم، بتكنولوجيا النانو اللامتناهية الصغر، تزيد القوة لا الوزن.
هنا أيضاً دخل الفضاء ميدان الرياضة، إذ استُفيد من مادة آيروجيل الصلبة والخفيفة خفة مدهشة، وقد صُنعت منها شبكات لصيد الغبار الفضائي. وأما في المضارب، فهي توزِّع صدمة الكرة بالتساوي على مساحة المضرب. وقد أدى هذا إلى تحسين الدقة وزيادة الثقة، وإذن القوة.
الجري
أحدثت أحذية الرياضة هذه السنة الضجيج الأقوى. فالألياف الخفيفة التي استُخدمت في صنع بعضها، هي ألياف فكتران، التي صُنعت منها أكياس صد الصدمات في مركبات الفضاء التي هبطت على المريخ. وتركز اهتمام الصانعين على ضرورة أن يحس المتباري، كأنه يركض حافي القدمين. ولا يفيد هذا الإحساس بكون الحذاء أخف فقط، بل في أن المتباري، حين يظن أنه حافي القدمين، يميل إلى عدم رفع رجله مثلما يرفعها عادة حين يركض بالحذاء. وهذا الفرق الضئيل، لا يعود ضئيلاً في المسابقات التي يمتاز فيها المتسابق على الآخر إلا بجزء في المئة من الثانية. وقد تحطمت عدة أرقام بعد اعتماد هذه الأحذية.
الكرة الطائرة
الميكاسا، نوع جديد من الكرة، كان على الفرق المشاركة أن تتكيف بها في بيجنغ. فقد صُنع من هذه الكرة نوعان، واحد للملاعب المغطاة، وآخر للشاطئ. والنوع الثاني
لا يلتقط رطوبة البحر، فيبقى خفيفاً. وهو أيضاً مصنوع من خيوط أدق، من أجل تضييق مساحة الخياطة، ومنع الرمل من أن يعلق به.
أما كرة الملاعب المغطاة، فمختلفة جداً عن سلفها. فالشعيرات الميكروسكوبية التي زيدت عليها تخفف مقاومة الهواء وتتيح لها انسياباً أفضل. كما أن قماشة الكرة من الخارج، تؤمن التصاقاً أشد بيد اللاعب حين يلمسها. ولا يحسِّن هذا سيطرة اللاعب فقط، بل يزيد قدرته أيضاً على جعل الكرة تدور على نفسها. وهذا مفيد في اللعبة، لأنه يضعف قدرة الخصم على التحكم بالكرة واتجاهها، لدى استقبالها.
هذا غيض من فيض. إذ ما من نوع من أنواع الرياضة ومستلزماتها إلا وبات يحظى بـ «التحسين» اعتماداً على آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا والأبحاث في المختبرات بدءاً بالكيمياء وصولاً إلى تقنية النانو.
ومع ذلكن لم يكتف البعض بهذا الدعم التكنولوجي. «فالإنجاز» الرياضي المتمثل بالوقوف على منصة التتويج في الألعاب الأولمبية وغيرها من المباريات، يبدو ذا جاذبية، تشطح بعيداً جداً عن النظرة الأساس إلى الرياضة وفوائدها، لتصل إلى نقيضها تماماً: الاستهتار الخطير بصحة الرياضي وحتى بحياته.
من سموم المنشطات..
إلى العلاجات الجينية
ظهرت المنشطات الطبية، في البدء في نحو سنة 1930م. وكان غرضها طبياً حقاً، لمساعدة الرجال الذين كانت العضلات في أجسامهم تذوي، لنقص هرمون تستوستيرون. وهي تُصنَّف في فئة الستروييد الكيميائية. وتستطيع هذه المنشطات أن تزيد الحيوية وتنشِّط فعلاً الجسم والعضلات، فيشعر المرء بهذه الحيوية ويبدو عليه الشباب.
وقد اكتشف الرياضيون فائدتها في تحسين أدائهم الرياضي، قبل أن يكتشف العلم أضرارها الفادحة في المدى البعيد. وأخذ الأبطال يُقبلون عليها، لا سيما في رياضة سباق الدراجات. ومات عدد من أبطال هذه اللعبة، وهم في سن الشباب، من جرَّاء ما قيل إنه المنشطات.
وفي سنة 1970م، حظرت اللجنة الأولمبية الدولية استخدامها في الرياضة، فانكفأ الكيميائيون المصممون على مخالفة القوانين والاحتيال، إلى صنع منشطات
لا تكتشفها أساليب الاختبار التي اعتُمدت في المسابقات الرياضية، وبدأ سباق بين تحسين وسائل الاختبار، وتحسين وسائل الاختباء.
وفي كل موسم رياضي، وفي كل دورة أولمبية، صار الصحافيون يتسقطون الأخبار بانتظار فضيحة منشطات جديدة.
وتطول لائحة المنشطات المحظورة أولمبياً (والرائجة سراً)، ومن أشهر أنواعها وأكثرها رواجاً هرمون النماء البشري الذي يضخِّم العضلات ويقلِّل الدهون، غير أنه يُحدث نمواً غير طبيعي للعظام ولعضلات القلب، والكرياتين الذي يحفز النشاط لفترة قصيرة فقط ويسبب الإسهال والشد العضلي، وبيتا أغونتس الذي يضخم العضلات ويقلل الدهون ويسبب الدوار والقيء، والبرفليور كوبونات الذي يزيد دفق الدم إلى العضلات، ويسبب أمراض الإنفلونزا.. وغير ذلك الكثير مثل اللحمين، والبيتا والستيروييد الابتنائي (أنابوليك).
وتحظر المحافل الرياضية استخدام المنشطات لأنها تخل بمبدأ عدالة المنافسة الرياضية ونزاهتها. لكن ثمة أسباباً أهم في الحياة العامة، تحض على اجتناب المنشطات، وهي أن ضررها ثابت، لم يعد ثمة شك فيه. غير أن مجلة الجمعية الدولية للتغذية الرياضية تؤكد أن 3 ملايين أمريكي يتناولون المنشطات، من دونما غرض منافسة رياضية. إذ ان غرضهم تحسين منظرهم وتضخيم عضلاتهم والظهور مظهر النشاط والشباب, واجتذاب الجنس الآخر. وثمة من يعتقد أن هذا الرقم لا يعبِّر عن ضخامة المشكلة. فظاهرة سلفستر ستالوني، الذي اعترف علناً بأنه اعتمد على الستيروييدات في بناء عضلاته لفلم «رامبو»، أصبحت منتشرة بين الشبان في الولايات المتحدة، لا سيما عبر الشبكة الدولية «الإنترنت»، التي
لا تروِّج فقط للشاب المنفوخ العضلات، بل تيسر شراء هذه المنشطات بالتجارة الإلكترونية.
ولكن أسوأ فصول العبث بالقدرات الطبيعية للجسم البشري في عالم الرياضة، ظهر في الآونة الأخيرة تحت اسم «العلاج الجيني». والمحذر اليوم من مخاطره أحد الرواد في اكتشافه: الدكتور هـ. لي. سويني.
تعود أسس هذا العلاج إلى العام 1988م، عندما تم تحديد الجين المسؤول عن تنمية العضلات، وبسرعة ظهر نمط من العلاج يقضي بتحميل أحد الفيروسات هذا الجين المحدد وحقنه في دم حيوان. وبوصول الجين والفيروس إلى الكبد من خلال الدورة الدموية، يأمر الفيروس الكبد بإنتاج هذا الجين بالجملة، ليعود ويوزعه على عضلات الجسم عن طريق الدورة الدموية أيضاً. فتبدأ العضلات بالنمو.
ويروي الدكتور سويني أنه تلقى ذات مرة طلباً من أحد مدربي فرق كرة القدم، يسأله ما إذا كان ينتج مصلاً يكفي لفريقه بأسره. وهذا ما يحذِّر منه سويني مشيراً إلى أن تجربة هذا العلاج أدت إلى وفاة شخص، وفي تجربة أخرى أصيب أربعة أشخاص من أصل عشرة بسرطان الدم.
ولكن استطلاعات الرأي تؤكد أن الرياضيين الأمريكيين (وربما الكثيرين غيرهم) هم مستعدون لتعاطي «أي دواء» يساعدهم على الفوز حتى ولو علموا أن «هذا الدواء قد يقتلهم».
وأسوأ ما في الأمر، أنه بخلاف المنشطات الكيمائية فإن العلاج الجيني لا يزال من دون آلية تسمح بالكشف عنه أو عن تعاطيه. وهذا ما جعل تيودور فريدمان المسؤول عن تطوير العلاج الجيني في جامعة كاليفورنيا يقول: «من بين العشرة آلاف رياضي الذين شاركو في دورة بيجنغ الأولمبية، من المحتمل أن يكون هناك أكثر من رياضي واحد قد جرَّب العلاج الجيني، وهذا لا يفاجئني».
ويضيف: في الوقت الحاضر، إن العلاج الجيني ليس فقط غير قانوني، بل أيضاً غير آمن، وعلى الأرجح من دون جدوى. وإذا تم تطبيقه الآن، فما من شك أن تطبيقه سيكون سيئاً.