لا يمضي أسبوع تقريباً إلا وتطالعنا دراسة طبية جديدة حول كيفية العيش السليم، وحول فوائد هذا الغذاء ومضار ذاك.. هذه تنصح باستهلاك مزيد من القهوة، وأخرى تحذِّر منها، وتلك تحدِّد حصص الفاكهة في اليوم الواحد، وأخرى تشجِّع على ممارسة المشي وتربطها بفوائد علاجية تتجاوز توقعاتنا.. وسيل لا يتوقف من الدراسات التي تحدِّد ما هو مضرّ وما هو مفيد، حتى بات الأمر محيِّراً للغاية بل متناقضاً.
روابط لا علاقات سببية
يقول المفكر والفيلسوف فريدريك نيتشه إنه على الإجمال، «لا توجد حقائق، بل فقط تأويلات». هناك كثير من الصحة في هذا القول عندما يتعلق الأمر بالدراسات الطبية التي تتوجَّه بخلاصاتها إلى العامة عبر وسائل الإعلام.
يتم اختبار معظم القضايا المتعلِّقة بالتغذية أو أسلوب الحياة في حقل ما يُسمى بـ «علم الأوبئة»، حيث ترصد الدراسات المعلومات حول الأنظمة الغذائية وفوائد التمارين الرياضية واستخدام العقاقير الطبية والمكملات الغذائية وعوامل أخرى، كما أنها تراقب نسب الأمراض والوفيات. وتنتج عن تلك الدراسات فرضيات حول العلاقة بين زيادة الوزن وداء السكري مثلاً، أو بين التدخين وأمراض القلب، ومن ثم يدرس الباحثون البيانات ويطلعون بوشائج أو علاقات تربط ممارسات وحالات معيَّنة بأمراض محددة. ولكن الروابط أو العلاقات ليست أدلة ثابتة عن السببية.
قد يتزامن أمر ما مع مرض معيَّن، ولكن لا يمكننا أن نجزم بأن الأول يسبب الثاني. فعلى سبيل المثال، غالباً ما يقوم الأشخاص الذين يتبعون نظاماً غذائياً صحياً، بالتمارين الرياضية المنتظمة ويتجنبون التدخين، وإذا ما كانت موروثاتهم الجينية سليمة يمكنهم أن يعيشوا حياة مديدة. وقد يُظهر تحليل العوامل المشتركة بين هؤلاء الأشخاص، بالمقارنة مع أولئك الذين يموتون باكراً، بأن المعمرين كانوا يتبعون نظاماً غذائياً سليماً. ولكننا لا نستطيع القول إن النظام الغذائي السليم هو سبب عمرهم المديد. قد يكون السبب مزيجاً من العوامل التي كان يمكنهم التحكم بها، أو قد يعود إلى أوضاعهم النفسية، الأمر الذي قد يدفعهم إلى اتباع ما نعرفه بالعيش الصحي السليم.
يحاول علماء الأوبئة تفسير ذلك من خلال تحليل تعدد المتغيرات، حيث يتم اختبار كل عامل على حدة بعد عزل تأثير المتغيرات الأخرى. ومع ذلك، تبقى نتائج الدراسات مرتكزة فقط على الروابط التي يمكن تصنيفها بكونها ضعيفة أو قوية لكنها لا تثبت وجود علاقة بين السبب والنتيجة.
إمكانية التضليل
إن صدقية هذه الدراسات مسألة جدية جداً، لأنها كما يقول الطبيب البريطاني المهتم بالصحة الغذائية جون بريفا، «يمكنها أن تعطي أفكاراً مضللة حول ما هو مهم للصحة وما هو غير ذلك». إذ إن هناك كثيراً من التضليل والتحريف والحيرة فيما يتعلَّق بالأدلة التي تقدمها هذه الدراسات. فهناك من يقول إن الصوديوم لا يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، وهناك من يؤكد عكس ذلك، كما أن هنالك من يشير إلى أهمية استهلاك النشويات وكذلك من يدعو إلى تجنبها تماماً، وجميعهم على استعداد للإشارة بأنهم استمدوا معلوماتهم من هذه الدراسة أو تلك.
ينفق الأشخاص بشكل عام الملايين من الدولارات على المنتجات الغذائية الصحية، من الكتب التي تنصح بالأنظمة الغذائية المعيَّنة إلى الأطعمة الجاهزة والمكملات الغذائية والأدوات الرياضية
ولكن السؤال، هو: لماذا يوجد هذا الاهتمام الكبير للاطلاع على الدراسات الطبية بالإجمال؟ تقول بيث سكاريكي، الكاتبة في مجال العلوم: «هناك ميل عام للاستجابة، وبقوة، للتحذيرات من الخطر والوعود بالأمور المفيدة (مثل الصحة السليمة وخسارة الوزن) خاصة إذا كانت هذه التحذيرات أو الوعود قابلة للتطبيق. وبالنسبة للسلوك الغذائي والصحي ينطبق هذا الأمر بشكل كبير». ويشعرنا ذلك بالراحة النفسية من خلال اعتقادنا بإمكانية السيطرة على ما يؤثر على صحتنا الجسدية.
ولهذا السبب هناك استغلال فعلي لهذا الميل العام في العصر الحديث. ينفق الأشخاص بشكل عام الملايين من الدولارات على المنتجات الغذائية الصحية، من الكتب التي تنصح بالأنظمة الغذائية المعيَّنة إلى الأطعمة الجاهزة والمكملات الغذائية والأدوات الرياضية. وكلها تُقدَّم ضمن وعود بحياة أطول وأكثر صحة، ولكنها في أكثر الأحيان تكون جزءاً من التكتيكات التسويقية واللعب على حيرة المستهلك. ومن هنا ضرورة البحث عن الجهات التي تقف وراء تمويل هذه الدراسات وتساعد في إعلان النتائج التي توصلت إليها.
تحيز في النشر
هل تساءلت يوماً لماذا يبدو كل شيء واعداً جداً في المجلات الطبية؟ فنحن لا نرى كثيراً من التقارير الطبية التي تتحدث عن مساوئ هذا العقار الطبي أو أخطاء الدراسة السابقة مثلاً. وتأكيداً على ذلك، استطاع فريق من الباحثين الوصول إلى مراجعات قامت بها إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة الأمريكية لـ 74 بحثاً أُجري بواسطة بعض الشركات على 12 عقاراً طبياً مضاداً للاكتئاب. وقد أشار فريق الباحثين هذا إلى أن «الدراسات التي حُكم عليها من قبل إدارة الغذاء والدواء بأنها سلبية، باستثناء ثلاثة، إما لم تُنشر أو أنها نُشرت بطريقة أوحت بنتائج إيجابية. وهكذا، وفقاً لما نُشر، يبدو أن %94 من التجارب كانت ناجحة، ولكن الحقيقة التي أظهرتها تحاليل إدارة الغذاء والدواء أن %51 منها فقط كان ناجحاً». وقد خرج الفريق بالاستنتاج التالي: «قد يكون للنشر الانتقائي لنتائج التجارب الطبية انعكاسات سلبية بالنسبة للباحثين والمشاركين في الدراسات والأطباء بالإضافة إلى المرضى».
والحقيقة أن هناك اتجاهاً لتغيير هذا الواقع. إذ أصبحت «اللجنة العالمية لمحرري المجلات الطبية» تفرض، كشرط لإمكانية النشر في مجلاتها، تسجيل الأبحاث فيما يُسمى بـ «سجل التجارب الطبية»، حيث يمكن التأكد من مدى جدية البحث والوثوق بنتائجه.
لكن الصحافية أليسون باس في كتابها «آثار جانبية: محاكمة مدعي عام ومبلّغ ومضاد الاكتئاب الأكثر مبيعاً»، تتناول التحيز في منشورات المجلات الطبية، مشيرة بوضوح إلى أن «هناك كثيراً من المجلات الطبية التي كانت (وما زالت) غير مهتمة بنشر النتائج السلبية. فعلى الرغم من أن كثيراً منها يحقق أرباحاً طائلة من إعلانات عقاقير الأدوية التي تنشرها، فإن ميلها للنتائج القطعية الواضحة التي تجذب القرّاء وتحقق لها الرواج المنشود يلعب دوراً أكبر».
يقول الدكتور مارك هيلفاند، أستاذ الطب في جامعة أوريغون للصحة والعلوم، الذي درس هذه المسألة بصفته رئيس «مركز الممارسة المرتكزة على أدلة» إن المجلات «تريد أن تنشر نتائج ذات عناوين لافتة. وهي ليست مهتمة بنشر الأدلة الدقيقة التي قد تعكس رسائل مختلطة أو رأياً أكثر توازناً».
وهناك كثير من الأطباء البارزين الذين يوافقون على هذا الرأي، حيث يقول الدكتور جوزيف م. هيمان العضو في الرابطة الطبية الأمريكية: «هناك احتمال أكبر لنشر الأبحاث الطبية ذات النتائج الإيجابية من الدراسات ذات النتائج السلبية أو الفارغة».
التأكد من الصدقية؟
لسوء الحظ، لا يوجد بديل للتحقق من الدراسات الطبية من قبل الخبراء المختصين. ولكن إذا ما كان ذلك غير ممكنٍ، فمن الممكن القيام بعدة أمور ليصبح أي شخص مستهلكاً متنوراً للبحوث الطبية. ومن أهم هذه الأمور، الاطلاع على بعض المواقع المتخصصة بالتحقق من جدية البحوث الطبية، مثل موقعي (Minnesota Health News Review) و(Medicine Plus) اللذين يشيران إلى نوع الاختبار الذي أُجريت الدراسة من خلاله، مثل ما إذا اختبر العلاج على الحيوانات فقط أو في أنبوب اختبار فقط، بحيث يجب طرح عديد من علامات الاستفهام حول فعالية العلاج على البشر. وإذا أجري الاختبار على البشر يمكن السؤال عن أوجه الشبه بين الشخص المعني وبين العينات التي ركزت عليها الدراسة. وبالطبع هناك أسئلة مهمة أخرى، مثل: هل اختبرت الدراسة الآثار الجانبية مثلما اختبرت الفوائد؟
وهناك مسألة مهمة أخرى، وهي أن معظم الدراسات تستثني الأطفال والمسنين إما لدواعٍ أخلاقية أو لدواعي الأمان. وبالإشارة إلى نقطة الضعف هذه قدَّم أرون كارول، أستاذ طب الأطفال في جامعة إنديانا الأمريكية ومدير مركز «السياسات الصحية والأبحاث المهنية» في الجامعة نفسها، مثالاً مفاده أنه بناءً على التجارب العشوائية التي تناولت الراشدين فقط، أدت وصفات العقاقير الطبية المعروفة بمثبطات مضخة البروتون للرضع المصابين بمرض الجزر المعدي المريئي، إلى زيادة هذا المرض لديهم سبعة أضعاف بين عامي 2000 و2004م. ولاحقاً، وفي عام 2009م فقط، أُجريت دراسة مباشرة على الأطفال الرضع، وكانت خلاصتها أن هذه العقاقير تسببت لهم بالأذى دون أن تقدم لهم أي فوائد.
في نهاية المطاف لا توجد دراسة واحدة كاملة، ولا يمكن للمرء أن يكون متأكداً من نتائج أية دراسة. فالخيار الأفضل يبقى الانتظار حتى تتراكم الأدلة من عدة دراسات تستخدم عينات مختلفة من البشر. ومما لا شك فيه أنه لا يوجد سوى القليل من العلاجات المسلَّم بصحتها تماماً. وعندما يظهر واحد منها، سنرى الموافقة عليه، ليس من مصدر واحد فقط، وإنما من مصادر مختلفة.