ملف العدد

البطل

  • 41Malaf-19
  • 41Malaf-20
  • 41Malaf-22
  • 41Malaf-23
  • 41Malaf-24
  • 41Malaf-25
  • 41Malaf-26
  • 41Malaf-27
  • 41Malaf-28
  • 41Malaf-29
  • 41Malaf-30
  • 41Malaf-31
  • 41Malaf-32
  • 41Malaf-33
  • 41Malaf-34
  • 41Malaf-35
  • 41Malaf-1
  • 41Malaf-2
  • 41Malaf-3
  • 41Malaf-4
  • 41Malaf-5
  • 41Malaf-6
  • 41Malaf-7
  • 41Malaf-8
  • 41Malaf-10
  • 41Malaf-11
  • 41Malaf-12
  • 41Malaf-13
  • 41Malaf-14
  • 41Malaf-15
  • 41Malaf-16
  • 41Malaf-17

سواءً أكان مصاغاً من أصل حقيقي أم كان من نسج الخيال جملة وتفصيلاً، يبقى البطل واحد: إنه القادر على القيام بعمل لا يستطيع غيره القيام به.
وفي حياة كل فرد ومجتمع بطل أو أكثر، يمثِّل القدرة البشرية في ذروتها. إنه البارز والمميز. وهو أيضاً قيمة أخلاقية ومعنوية ومثل أعلى، كما أنه مصدر زهو المجتمع، خاصة عندما يكون المجتمع في ذروة ضعفه وتأزمه. وكأني بالبطل تارة حلم وتارة أخرى مجرد تعزية.
إن الأبطال الذين أنجبتهم الآداب والفنون هم أكثر عدداً من أولئك الذين أنجبهم الواقع. وحتى عندما يخرج من الواقع بطل حقيقي، نراه يُوجَّه فوراً إلى ورشة الآداب والفنون لتضع لمساتها على حلته كما يشترط المجتمع أو يتوقع. ولذا، كان من الطبيعي أن تتقلب صورة البطل وتتنوع بتقلب أنماط الحياة الاجتماعية وقيمها، وبالتالي تقلب الآداب والفنون المعبرة عنها.
في هذا الملف، يأخذنا هشام عودة وفريق التحرير إلى عالم البطل الخالد في صموده أمام كل الصعاب، ما عدا قلم الأديب ومزاج الفنان، في كل الثقافات والأزمنة وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين.

لا بد من وجود البطل..
فهو حاجة اجتماعية وثقافية. وما يؤكد ذلك هو أن الثقافات التي يشحُّ واقعها بالأبطال الحقيقيين تلجأ إلى اختراعهم جملة وتفصيلاً. فمن ليس عنده عنترة العبسي، يمكنه أن يخترع «سوبرمان».. وعلى الرغم من الفوارق التي لا تعد ولا تحصى ما بين هذين البطلين أو كل الأبطال المنتمين إلى نوعيهما، فإن وظيفة البطل واحدة: ملء فراغ لا يمكن لغيره أن يملأه في ثقافة المجتمع، أي مجتمع، ونظرته إلى نفسه.

ويرتبط البطل في الوعي الجمعي للناس بجملة صفات إيجابية، عاش بعضها قروناً طويلة من الزمن، وتبدَّل بعضها في العصر الحديث بفعل التغيرات الجذرية التي طرأت على حياة المجتمعات أينما كان في العالم بعد الثورة الصناعية، وبشكل خاص خلال القرن العشرين.

ولكن، وبشكل عام، تبقى صفات البطل كامنة في قدرته الخارقة على إنجاز ما لا يستطيع أي كان إنجازه. إنه الشخص المستعد لمواجهة الصعاب حتى حدود التضحية بالنفس من أجل مصالح مجتمعه، أو من أجل الدفاع عن قيمه ومعتقداته، التي غالباً ما تكون منحازة إلى مصالح غالبية الناس من حوله.. فينظر إليه هؤلاء على أنه حاميهم والمدافع القوي عن الآخرين، بعبارة أخرى، على أنه منقذهم.

وتشكَّل البطولة طليعة المفاهيم التي تبدأ بالتغلغل في عقل الإنسان منذ طفولته، من خلال قراءاته الأولى لكتب الحكايات، أو حتى منذ قدرته على فهم معانيها وهو يسمعها من ذويه يتلونها عليه قبل النوم. ومهما تقلب مفهوم البطولة في عقل الإنسان عندما يكبر، فإنه يبقي على جوهره التربوي من خلال مجموعة صفات حميدة أبرزها درء اليأس ما أمكن أمام الصعاب، والإيثار الضروري لحسن الحياة في المجتمع.

من النادر أن يكون مجتمع ما قد عرف أبطاله حقيقة عن قرب، أو حتى أن يكون قد عاش في عصر هذا البطل. فالوجدان الشعبي لا يبدو مكترثاً بالحقيقة التاريخية للبطل بقدر ما هو مهتم بصورة هذا البطل كما صاغها الأدب أو الفن، فجردها من عيوبها الإنسانية الصغيرة، وجمَّل ما أمكن تجميله من صفات هذا البطل. ولذا يبدو انبهار الإنسان (وحتى المجتمع ككل) ببطل معيَّن، هو أقرب إلى أن يكون تعبيراً عن تطلعات وأمنيات، منه إلى تكريم البطل الحقيقي لإنجازاته العظيمة. وكأن المطلوب من البطل أن يكون صورة تحظى بالإجماع على احترامها، ويجب على المجتمع أن يرتقي إلى مستواها في مواجهة تحدياته.

يعرِّف قاموس «وبستر» البطل على أنه «شخص أسطوري خرافي، يكون غالباً ذا صفات استثنائية، ويتمتع بقوى أو قدرات خارقة، وهو مقاتل لا يُقهر ويتحلَّى بخصال نبيلة وشجاعة نادرة». كان يمكن لمثل هذا التحديد أن يكون قابلاً للمناقشة لو أنه ظهر في أثينا أيام حربها مع طروادة، أما اليوم، فإننا نقف أمام مفاهيم للبطولة
لا تعد ولا تحصى، بدأت بالظهور في أزمنة ساحقة لم يؤرخ لها بدقة، وظلَّت تتقلب حتى يومنا هذا.

البطولة في عصر القوة
يربط الكثيرون نشأة مفهوم البطولة بالحضارة الإغريقية. ولكن هذا الربط ليس دقيقاً تماماً ولا يمكن تبريره إلا بكثرة ما وصلنا من الأدب اليوناني الذي يروي سير أبطال تلك الحضارة، بيغماليون، أخيل، هوراسيو، هيكتور، هرقل.. وغيرهم. ولكن الواقع أن كل الحضارات القديمة مجَّدت أبطالها الأقوياء. فلو دققنا قليلاً في الرسوم الفرعونية والآشورية، لوجدنا ملوكها وفراعنتها يمارسون أعمالاً لا يقوى عليها إلا الأبطال. ففي مشاهد الصيد مثلاً، نرى الفرعون المصري أو الملك الآشوري يصطاد الأسود بالرمح خلال اشتباك معها، وليس عن بعد، وهذا ما لا يجرؤ أي كان علي القيام به. وحتى في ما يخص المجتمعات الأولى العائدة إلى ما قبل هذه الحضارات، يؤكد علماء الأنثربولوجيا أن قيادة العائلات والقبائل كانت للأقوى، الأقدر في الدفاع عنها، وفي الإتيان إليها بأكبر كمية من طرائد الصيد.

إن الجديد الذي طرأ على البطولة في حضارة الإغريق، كان اكتساح مفهوم البطولة للأدب برمته. فالإلياذة والأويسة والمؤلفات المسرحية اليونانية كلها تقريباً، تدور حول البطولات وسِير الأبطال. وفي هذا الأدب، تأسس المفهوم الأولي للبطل ومقاييسه الذي ظل قائماً في أوروبا حتى القرن التاسع عشر. إنه الرجل المفتول العضلات، القادر على استخدام السيف بمهارة لا مثيل لها عند أعدائه، وهو الذكي، الشهم، الذي لا يعرف الخوف، يعيش بطولته في كل يوم من أيام عمره، ومآثره سلسلة طويلة من الأعمال المهيبة والمثيرة للإعجاب.. ولكن ليس من الدقة في شيء القول بفضل الأدب اليوناني على ظهور المفاهيم المشابهة للبطولة في ثقافات وحضارات أخرى، ولا حتى على الأرجح، على استمراره في أوروبا حتى القرن التاسع عشر.

فكيف نفسر ظهور أبطال مشابهين إلى حد بعيد لأبطال اليونان القديمة في ثقافات لم تدرس هذا الأدب، مثل عنترة العبسي والزير سالم وسيف بن ذي يزن وغيرهم ممن عُرف عنهم أولاً قوة الساعد ومهارته في استخدام السيف إلى جانب باقة الخصال الحميدة وعلى رأسها الشهامة والترفع عن الصغائر والفخر بالذات وما إلى هنالك؟

إن ما دفع بالقوة الجسدية لأن تكون المقياس الأول للبطولة هو طبيعة التحديات التي واجهتها المجتمعات، وأخطرها على مصيرها كانت الحروب. ولأنه حتى رواج الأسلحة النارية (القاتلة عن بعد)، كان السلاح الأبيض هو أداة القتال الرئيسة، فإن القدرة على استخدامه بمهارة كانت مسألة حياة أو موت لهذه المجتمعات، فمجدت تلك النخبة من المقاتلين الأشداء أكثر من غيرهم، أيما تمجيد، ورفعتهم إلى مرتبة تسمو على التراتبيات العسكرية المتعارف عليها، وسمتهم «الأبطال».

ولأن التحديات العسكرية لم تكن الوحيدة التي تشكِّل خطراً على الناس والمجتمعات، بل كانت هناك الطبيعة بغضبها وضواريها ومشقات سبلها، كان على البطل أن يجمع إلى قوته الجسمية، الذهن المتوقد ذكاءً، الضروري أصلاً لمحاربة الأعداء أيضاً. فالبطل كإنسان مكون من عقل وجسم. أي لا يمكن تقطيعه إلى كتلة عضلات ضخمة يعلوها عقل خامل. إنه إنسان يكرس حياته وأفعاله للدفاع عن القيم التي يؤمن بها أو يسعى إلى نشرها. ولذا، عليه أن يتحلى بهذه القيم، وهذا يتطلب منه أن يكون مفكراً.ومهما طغت براعة وروعة الجوانب الجسمانية والحركية في حياة البطل أو قصته، إلا أن عليه، ليكون بطلاً حقيقياً أن يكون «مفكراً» بالمعنى العملي، كما أن عليه بصفته مثلاً أعلى، أن يتحلى بأهم الصفات الحميدة كما يحددها المجتمع الذي ينتمي إليه. فهل بالسيف فقط حقق أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ما حققوه في ميادين القتال، أم أيضاً بمجموعة القيم الفكرية والأخلاقية الإسلامية التي كانوا يدافعون عنها؟

إن البراعة والقوة في استخدام السيف تتلازم مع الولاء للسلطة السياسية عند البطل الإغريقي أخيل في إلياذة هوميروس، تماماً كما هو الحال عند الفارس دارتاينان في رواية الأديب الفرنسي ألكسندر دوماس «الفرسان الثلاثة» التي ظهرت في القرن الرابع عشر، تماماً كما تتلاءم القوة مع الحب الرقيق والمخلص في سيرة عنترة بن شداد والبطل المتخيل جملة وتفصيلاً «سبايدرمان» كما شاهدناها على شاشات التلفزيون مؤخراً.

وفي العصر الحديث
البطل يحط على نهر الهدسون!
لو قيل لنا من دون كثرة تفاصيل إن أقوى دولة على وجه الأرض أجمعت شعباً وحكومة على اعتبار أحد أبنائها بطلاً قومياً، واحتفت به بصفته هذه، لتخيلنا (حتى اليوم أيضاً بفعل الكثير المترسب في لا وعينا) أنه شاب في الثلاثين أو الأربعين من عمره، مفتول العضلات قام بعمل خارق لا يقوى عليه إلا الجبابرة جسمياً وعقلياً. ولكن الحقيقة أن هذا البطل هو شخص عادي جداً يميل إلى النحول أشيب الشعر، على مشارف الستين من عمره، إنه الطيار الأمريكي الذي تعطل محركا طائرته بعيد إقلاعها من مطار لاغوارديا في نيويورك قبل أشهر قليلة، فاختار نهر الهدسون ليحط عليه. الأمر الذي أنقذ المسافرين على متن الطائرة من كارثة كانت لتبدو محتمة فيما لو قرر العودة إلى المطار الذي كان قد أصبح بعيداً عنه.

إن رفع هذا الطيار إلى مرتبة الأبطال لا يتضمن مبالغة، ولا هو غير مستحق. بل يكشف عن التحول الكبير الذي طرأ على مفهوم البطولة في العصر الحديث، بعدما غاب السيف عن ميدان المعارك، وحيث لم تعد العضلات تجد مبرراً لتغذيتها إلا في مباريات كمال الأجسام في الأندية الرياضية. إن البطل اليوم هو شخص عادي جداً، يعيش حياة عادية جداً، ولكنه قادر في لحظة حرجة أن يستنفر كل قواه العقلية وما تيسر له من قوة جسمية (إن تطلب الأمر)، للتصرف بحكمة، ليعود بعدها إنساناً عادياً، تماماً كما فعل هذا الطيار الأمريكي.

ومن الصور الموضحة لمفهوم البطولة في عصرنا، الاستفتاء الذي تجريه شبكة «سي إن إن» التلفزيونية، حيث تدعو مشاهديها إلى اختيار بطل العام من بين عدد من الشخصيات المختلفة، ويكشف التدقيق في منجزات المرشحين أنهم كلهم تقريباً من العاملين في الشأن الاجتماعي مثل محو الأمية، أو مساعدة المحتاجين، أو التطبيب في الأماكن النائية من البلدان الفقيرة، وما شابه ذلك.

أصل البطل المعاصر
على الرغم من ظهور الأسلحة النارية في القرن السادس عشر، فإن السلاح الأبيض ظل مستعملاً في بعض الحروب حتى بدايات القرن العشرين (الحرب العالمية شهدت معارك عديدة خيضت بالفرسان والخيول والسيوف). ومع ذلك، فإن أبطال السيف اختفوا منذ العصر الوسيط في البلاد العربية، ومنذ عصر النهضة في أوروبا. وإذا لم يكن ظهور السلاح الناري هو من قضى على البطل المحارب، فمما لا شك فيه أنه لا يدعم إحياءه على الإطلاق. فالأسماء اللامعة في الحروب المعاصرة هي أسماء الجنرالات والساسة أصحاب القرار، وليست أبداً أسماء أبطال الميدان الذين قضوا على الكثير من الأعداء. وحتى عندما يقدم الأدب أو السينما أو حتى الاستطلاع الوثائقي صورة بطل ميداني تتوافر فيه كل صفات البطل التقليدي فإننا ننسى اسمه بمجرد خروجنا من صالة السينما أو الفراغ من قراءة قصته.

إن العقلانية التي بدأت تسيطر على نمط التفكير في أوروبا منذ عصر النهضة، وبلغت ذروتها في عصر الثورة الصناعية، غيَّرت مفاهيم كثيرة بتغييرها لحاجات المجتمعات على الصعيد الوجداني.

فالعدو الجديد قد يكون الآلة (كما هو الحال في الطائرة التي تعطلت محركاتها فجأة)، أو قد يكون وضعاً اقتصادياً عاماً، أو قد يكون في عجز فئة اجتماعية كاملة عن الحصول على الطبابة التي تحتاجها، وقد يكون تحدياً علمياً يتطلب قدرات ذهنية غير متوافرة للجميع، ناهيك عن تطلعات الشعوب إلى الارتقاء إلى مستوى شعوب تنعم بأوضاع أفضل… وقد أسهمت الآداب والفنون (وأحياناً مراكز القرارات السياسية) في صياغة مفاهيم جديدة للبطولة، وتساعدها وسائل الإعلام المتعاظمة نفوذاً، على تعميم هذه المفاهيم وانتزاع الاعتراف العام من المجتمع بصحتها. وهكذا صار هناك أبطال في عوالم الرياضة والسياسة والعلوم والفنون والآداب والعمل الخيري والشرطة والدفاع المدني.. وكلهم أناس عاديون، غالباً ما تتجلى بطولتهم لمرة واحدة في العمر وفي مجال واحد، ليعودوا بعدها بلحظات أناساً عاديين مثلهم مثل غيرهم من أبناء مجتمعهم.

ولكن هذا البطل الحقيقي الذي صارت بطولته تخضع للتدقيق قبل إعلانها، لم يقضِ تماماً على البطل ذي القوى الخارقة المنسوج جزئياً أو كلياً من الخيال، فقد ظل هذا النوع التقليدي من الأبطال حاجة. ولكن واقع الحياة المعاصرة لا يوفر المادة اللازمة لتلبية هذه الحاجة، فهبت الفنون لصناعته.

«سوبرمان» رجل يطير، لا يخترقه الرصاص، يستطيع أن يحمل عمارة، وذو نظر يخترق الجدران، «الرجل الوطواط» رجل يتنكَّر بملابس الوطواط إخفاءً لهويته ليحارب عصابات المجرمين، ومثله «الرجل العنكبوت» وأيضاً الرجل الآلي «غراندايزر».. كلهم أبطال صاغهم الخيال، للأطفال أولاً، فلقوا القبول نفسه من الكبار. ولا عجب في ذلك، لأن الجريمة ومحاربة المجرمين من أبرز هواجس المجتمعات المعاصرة، وسحق المجرمين الذين يصعب على أدوات العدالة التقليدية القضاء عليهم هو حلم هذه المجتمعات.

الأبطال القوميون
إن كان السيف بكل ما يرمز إليه من قدرة على مواجهة الأعداء قد خرج من مقاييس البطولة «العسكرية أو الوطنية» في العصر الحديث، فقد حلَّت محله مقاييس مختلفة تماماً تتمثل بشكل خاص في القدرة على تحقيق إنجاز ضخم لصالح المجتمع أو الوطن، اعتماداً على الإرادة والحكمة والتخطيط والجهد الكبير حتى ولو خلا هذا الجهد من كل مظاهر القوة الجسمانية. ولعل أوضح مثال يمكن إعطاؤه هنا هو غاندي، قائد الثورة الاستقلالية في الهند، والذي ينظر إليه شعبه على أنه البطل القومي الأول من دون منافس قريب.

والواقع أن لكل شعب من شعوب العالم بطله القومي الأول الذي جسَّد طموحات هذا الشعب في وقت من الأوقات، وحقق له ما عجز أسلافه من القادة عن تحقيقه. فالسعوديون يتطلعون إلى الملك عبدالعزيز، رحمه الله، كبطل تاريخي لتمكنه من تحقيق وحدتهم الوطنية التي كانت تبدو شبه مستحيلة التحقيق في ذلك الزمن، ولوضع هذه البلاد الموحدة على طريق النهضة الحضارية الكبرى التي ما كانت ممكنة لولا إنجازاته الشخصية. وبالنظرة نفسها يتطلع الأمريكيون إلى رئيسهم الأول جورج واشنطن قائد ثورتهم الاستقلالية عن إنجلترا، كما يتطلع الفرنسيون إلى شارل ديغول قائد المقاومة الوطنية ضد الاحتلال النازي.

وفي مقابل مثل هذه البطولات التاريخية غير المثيرة للخلاف، تنتاب الشعوب في بعض الأوقات، ولأسباب غامضة ومعقدة جداً، الرغبة في صناعة بطل بناءً على الوعد فقط. فتلتفّ حول هذا البطل وتقدمه على غيره، ولكنها سرعان ما تنفضّ من حوله بمجرد تبخر الوعد. كما هو الحال مثلاً في شخصيات قومية من أمثال أدولف هتلر وبنيتو موسوليني اللذين كانا «بطلين» ما بين عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، والأشهر الأخيرة منها.

والواقع أن الإنجاز الفعلي للوعد وإن كان ضرورياً في معظم الحالات لرفع شخص إلى مستوى البطل القومي الأول، فإنه لا يبدو شرطاً في حالات أخرى. فالشهداء الذي يسقطون وهم يسعون إلى الوفاء بهذا الوعد، يُرفعون في حالات عديدة إلى مستوى الأبطال القوميين. ومن أشهر الأمثلة المناضلة الفرنسية جان دارك التي قادت ثورة ضد الإنجليز في القرن الخامس عشر، ولكنها سقطت في قبضتهم، وأعدموها حرقاً، ولكنها تحوَّلت إلى رمز للسيادة الوطنية الفرنسية حتى يومنا هذا.

وحتى من فرنسا نفسها، قد يكون هناك مثل أشهر، ألا وهو الإمبراطور نابليون الأول الذي بعدما قاد بلاده في سلسلة من الانتصارات والإنجازات، هُزم شرَّ هزيمة في معركة واترلو (1815م)، ومات بائساً في المنفى، ومع ذلك بقيت صورته كواحد من أكبر الأبطال التاريخيين في بلاده، وجمَّلها الفنانون كما لم يجمِّلوا صورة أي قائد آخر.

وبشكل عام، يحظى الأبطال القوميون بأعلى مستويات التكريم من شعوبهم، فتطبع صورهم على عملاتها الوطنية، وتنشرها في العالم من خلال طوابع البريد التذكارية والتكريمية، وتطلق أسماءهم على الشوارع والساحات، وحتى على المدن وأحياناً على البلدان، كما هو حال سيمون بوليفار محرر أمريكا الجنوبية من الاستعمار الإسباني. إذ ما من دولة هناك إلا وتضم عشرات الشوارع والقرى والمدن المسماة «بوليفار»، حتى أن دولة كاملة حملت اسمه: «بوليفيا».

البطل في الرياضة
قد تكون البطولة في عالم الرياضة آخر وريث على قيد الحياة لمفهوم البطولة الإغريقية. والأمر يبرر أو يفسر، بأكثر من سبب، منها «بطولات» الألعاب الأولمبية القديمة التي كانت تمجد القوة الجسمانية المدنية الجاهزة لأن تنقلب عسكرية في أي وقت تدعو الحاجة، وأيضاً لأن التفوق الرياضي يبقى في عصرنا كما كان، قائماً على أساس التفوق الجسماني.

صحيح أن عالم الرياضة هو سخي اليوم في توزيع ألقاب البطولة (عندما يحصل الأمر على مستوى النادي أو المحلة الصغيرة)، ولكن هناك أسماء كثيرة، تنتزع الاعتراف العالمي ببطولتها. ألا يتطلع العالم بأسره إلى الملاكم محمد علي كلاي على أنه بطل؟ أو إلى لاعب كرة القدم البرازيلي بيليه على أنه كذلك؟

وعلى الرغم من الابتعاد المستمر للرياضات الحديثة عن شروط وماهية الرياضات التقليدية، حتى أن بعضها يقوم على المهارات الذهنية أكثر مما يقوم على القوة البدنية، فإن كل فائز هو بطل.

أي أن الرامي ببندقية صيد على الأطباق الطائرة هو «بطل» مثل رامي السهام في الألعاب الأولمبية القديمة أو في ميدان المعركة. وهكذا انفتحت قائمة أبطال الرياضة لتضم شهيرات من الإناث مثل العداءة المغربية نوال المتوكل، أو لاعبة الجمباز الرومانية ناديا كومانيتشي.

البطل في الأدب والسينما
ثمة مقارنة في عالم الأدب والسينما وفي حديثنا عنهما اليوم، هذا الحديث الذي بات يشكِّل المناسبة الكبرى التي تجعل كلمة «بطل» تقفز على ألسنتنا. نستخدمها للإشارة إلى الشخصية المحورية في القصة، سواء أكانت هذه الشخصية تتحلى بمواصفات البطولة التقليدية أو ببعضها، أم كانت مجرد لص أو قاتل. فمن أين أتت هذه التسمية؟

لا شك في أن «بطل» الفلم السينمائي، هو ابن «البطل» الروائي، الذي هو بدوره ابن «البطل» المسرحي. فلو راجعنا المحتوى العام للمسرحيات التي ظهرت خلال العصر الكلاسيكي في القرنين السابع والثامن عشر، لوجدنا أن معظمها كان يتمحور حول شخصيات قيادية مميزة تواجه تحديات مصيرية مثل هاملت وماكبث عند شكسبير، وأكثر من ذلك عند المسرحيين الفرنسيين من أمثال كورناي وراسين اللذين استوحيا معظم موضوعات مسرحياتهما من التراث الكلاسيكي اليوناني وأبطال إلياذة هوميروس. أي أن في شخصيات هذه المسرحيات كان ثمة ما يربطها بمفهوم البطولة التقليدي. ومن المسرح انتقلت عادة تسمية الشخص المحوري في العمل الأدبي إلى الرواية، ومن الرواية إلى السينما.

ولكن ماذا عن الأدب والسينما في خدمة البطل ومفهوم البطولة، بعيداً عن التسمية اللفظية لأصحاب الأدوار الرئيسة فيهما.

يستحيل تعداد الأعمال الأدبية والفنية التي تناولت سير الأبطال ومجَّدت أعمالهم. فهي بدأت قبل ملحمة جلجاميش والإلياذة، ولم تنته مع دان براون. ولكن ما لا بد من الإشارة إليه، هو أن الأدب بما فيه من ألوان مختلفة (حكاية، قصة، رواية، مسرحية) كان دائماً القناة الرئيسة التي تمر بها شخصية البطل في طريقها إلى وجدان العامة. وطالما سعى الأدب إلى التجميل والحذف والإضافة بهدف الإقناع والترويج وضمان القبول عند العامة.

فهل كان أخيل وسيماً مثل الممثل براد بيت في فلم طروادة، أم كان قبيحاً تملأ الجروح والبثور وجهه؟ ليس للفرق في هذا المجال أي أثر على منجزات هذا البطل، ولكن ألا يفضل الناس الشخص الوسيم على القبيح؟

ففي عالم السينما، تبدو صناعة التجميل في ذروتها عندما يتعلق الأمر بالبطل. ألا تؤكد ذلك المبالغات التي تتجاوز حدود الممكن (حتى بالنسبة إلى الأبطال) في أفلام الحركة (Action) التي صارت تحظى بقنوات تلفزيونية لا تعرض غيرها، والأفلام الحربية حيث ترى أفراداً يتمكنون من القضاء على كتائب كاملة من جيوش الأعداء أو على عصابات كاملة لم تتمكن فيالق الشرطة من القضاء عليها؟

الفارق الأساسي الوحيد ما بين صورة البطل في الأدب وعلى شاشة السينما، هو أن الأول يعيش في الوجدان أكثر ومرشح لأن يدخل الذاكرة الجمعية عند الناس، أما البطل المصنوع سينمائياً، فغالباً ما يقتصر دوره على الإمتاع المؤقت، ننساه بعيد انتهاء عرض بطولته على الشاشة.

البطل في الأسطورة..
عوليس، أخيل، الملك آرثر..

لا يمكن الحديث عن البطل والبطولة من دون أن نتوقف عند الميثولوجيا الإغريقية، بأبطالها الأسطوريين «الخارقين» الذين نقشوا مجد أمتهم في الصحائف والحجارة، حتى أن قصصهم ارتحلت عبر العالم، لتتداخل مع أساطير البطولة في الأمم الأخرى.
لنا في يوليسس أو أدويسس حكاية تتضافر فيها كل عناصر البطولة من القوة والشجاعة والحرب والنصر وقهر العقبات والانتقام قبل استعادة مجد ضائع. كان يوليسس (أو «عوليس» كما يُشار له بالعربية)، ملكياً إغريقياً أسطورياً على عرش مملكة إيثاكا -نسبة إلى جزيرة إيثاكا اليونانية في البحر الأيوني- خُلِّد كأحد أبطال حرب طروادة التي سُطِّرت فصول منها في ملحمة «الإلياذة» للشاعر اليوناني الملحمي هوميروس، كما كان بطل «الأوديسة»، الملحمة الشعرية الأعظم في تاريخ الأدب الغربي لهوميروس أيضاً التي روت وقائع عودة يوليسس إلى وطنه بعد الحرب، في رحلة من التيه والضياع والأسر امتدت سنوات عشر، وقفت قوى الطبيعة مع البطل تارة وعاندته تارة أخرى. اكتسب يوليسس مكانته في سجل الأبطال الأسطوريين لدوره الاستثنائي في حرب طروادة، من خلال قصة «حصان طروادة» الشهيرة التي رواها الشاعر الروماني فيرجيل في ملحمة «الإلياذة» الشعرية.
كان يوليسس صاحب فكرة الحصان، وهي فكرة دفع ثمنها ربما لاحقاً ذلك أنه أمضى سنوات عشر في رحلة ضياع، وكشف للذات، واختبارات صعبة لحنكة الملك وشغف البطل قبل أن يعود إلى مملكته أخيراً، ليستحق أن يُنتخب كأسطورة دخلت الشعر والنثر العالمي في أكثر من تأويل.
لكن البطولة والمأساة قرينان، ونهاية الحكاية مفجعة كما اقتضى عرف البطولة. هل تذكركم حرب طروادة ببطل آخر منتخب؟ ماذا عن أخيل؟ لقد كان الشخصية المركزية في «إلياذة» هوميروس والمحارب الأعظم كما جاء في تضاعيف الملحمة. كان أخيل وسيماً فاتنا، والوسامة سمة الأبطال التاريخيين إذ إن الشجاعة وحدها لا تكفي! كان منيعاً، كما صورته الأسطورة الإغريقية، لكن ثمة نقطة ضعف واحدة ستطوي صفحة البطل، إنها في كعبه.
وها هو سهم مسموم، يقال إن باريس الطروادي، سدده إلى كعب أخيل قضى على البطل أخيراً. من هذه الحكاية، استعنا بـ»كعب أخيل» كي نصف نقطة ضعف المرء، التي ابتلي بها حتى أعظم الرجال وأشجعهم وأكثرهم عصياناً على الهزيمة!
ونمشي قروناً لنقف عند مقتطف يسير من صفحات ملك إنجلترا آرثر؟ كثيرون قرأوا عنه، أو سمعوا به، لكن قلة هم من يعرفون أن آرثر ملك أسطوري! والخيال، الذي يرافق حكاياته أكثر بكثير من الحقيقة، هذا إن كان ثمة حقيقة في القصة! بحسب الروايات التي سجلت في القرون الوسطى والحقبة الرومانسية، قاد آرثر حملة الدفاع عن بريطانيا ضد الغزاة الساكسونيين في أوائل القرن السادس للميلاد. ثمة من يرى أن آرثر لم يكن ملكاً وإنما قائد حربي، ولا يزال المؤرخون حتى عصرنا هذا مختلفين بشأن هويته وحقيقته، ومن الصعب جداً تمييز حدود الخيال عن الحقيقة.. لكن الحقيقة هي أن آرثر يحتل مساحة احتفائية عظمى في الفولكلور الإنجليزي، وثمة مخزون شعري وسردي هائل يسرد حكاية الملك المغوار. ولولا آرثر، لنقص إرث كتاب ومؤرخين عظام أمثال جيوفري مونماوث، الذي جمع حكايات آرثر في كتابه الشهير «تاريخ ملوك بريطانيا»، في القرن الـ 12، والشاعر الفرنسي كريتيان دو تروا، الذي دشن ما بات يعرف بـ «نوع الرومانسية الآرثرية» في الأدب، والشاعر المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير، بالإضافة إلى شعراء أمثال روبير دو بورون ريتشارد بلاكمور وألفريد لورد تينيسون وويليام ويردزويث وعشرات آخرين.

«يا بطل..»
كلمة يوجهها الأهل إلى أي من أبنائهم، وفي كل مناسبة يقوم فيها هذا الابن بعمل يستحق المديح، إما لما مثَّله من جرأة وشجاعة، أو من استعداد لتأدية خدمة للآخرين طوعاً. ويمكن أن يشمل ما قام به الفتى واستحق عليه التحية أي عمل، بدءاً من ذهابه عدواً إلى الجيران كي يعود حاملاً بعض السكر أو البن لوالدته التي تحتاجه لضيوفها، أو سجَّل هدفاً في مباراة في المدرسة، أو عبر الشارع لينقذ طفلاً قد تصدمه سيارة مسرعة عابرة، أو أجاب إجابة جيدة عن سؤال طرحته معلِّمة الصف.
وقد يدرك من يخاطب الفتى بهذا النعت المحبب، أو لا يدرك، أن ما فعله إنما يعبِّر عن «فعل تربوي اجتماعي قومي»، من النوع الذي تمارسه الشعوب مع أولادها كي تهيئهم للقيام بمهام تنتظرهم في لحظات الخطر أو الحاجة، وتتطلب منهم ممارسة روح البطولة هذه.
وكثيراً ما يقال «شكراً يا بطل». والشكر هنا بقدر ما هو فعل ذوق هو كذلك جزء من التهيئة. فالفتى يعرف أنه حين يقوم بعمل البطولة سوف يعترف له به ومع الاعتراف شكر وإكبار.
وهذا القول ليس من بدع الحياة المعاصرة، وليس أسلوبًا من أساليب التنشئة الحديثة ولكنَّه يُلبِّي حاجة إنسانية طالما سعى إليها المرء ، كبيراً كان أو صغيراً إرضاء لذاته، وليس أدلّ على ذلك من قول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:
إذا القومُ قالوا مَن فتًى؟ خِلْتُ أنني
عُنيتُ فَلَمْ أكْسَلْ ولم أتَبَلَّدِ

اللابطل
بموازاة شيوع استخدام كلمة بطل في الإشارة إلى الشخصية المحورية في أي عمل أدبي أو فني، أدَّت الدراسات المدققة لهذه الشخصيات لغربلتها عن بعضها إلى استنباط تعبير «اللابطل» (Antihero)، وذلك للإشارة إلى هذه الشخصيات المحورية عندما تفتقر إلى صفات البطولة التقليدية وقيمها.
فالشخصيات «اللابطلة» صارت تشكِّل جزءاً أساسياً من عالم الأدب الغربي ظهر في رواية الإسباني سيرفانتس «دون كيخوتي» (1605م).
وتُعد شخصيات مثل إيما بوفاري في رواية «السيدة بوفاري» لفلوبير (1857م) وشخصية ليوبولد بلوم في «أوليس» (1922م) لجيمس جويس، من أبرز صور «اللاأبطال» في الأدب.
ولا يجب الخلط بين «اللابطل» وشخصية «الشرير» في الرواية، فالإثنان مختلفان تماماً. إذ إن «اللابطل» ليس شريراً، إنه إنسان عادي يعمل بوحي من القيم السائدة، ولكنه يفتقر إلى الشجاعة والاستقامة، والنبل، فيعكس بضعفه وارتباكه، اضطراب الإنسان المعاصر في تعامله مع القيم والفضائل الاجتماعية التقليدية.

البطل..
في التراث العربي

تعامل العرب منذ القدم مع البطولة، باعتبارها واحدة من أسمى الصفات، ونظروا إليها من أكثر من زاوية، فالإعلاء من شأن البطولة هو إعلاء لشأن الفروسية والشجاعة والإقدام، وهي صفات ظلت مطلوبة في أوساط «القبيلة» العربية المهددة دائماً بالغزو والسلب.

فالبطل في نظر أبناء القبيلة ضرورة أساسية من ضرورات وجودها والدفاع عنها، ولم يتعاملوا مع البطولة بالتعميم، بل ذهبوا إلى إيجاد تعريف واضح للبطل المنشود، وتعريف للصفات الواجب توافرها فيه.

كان البطل في نظر القبيلة العربية سيدها وفارسها وحامي حماها. إنه شخص كريم ذو مروءة وصاحب رأي سديد وقادر دائماً على اتخاذ الموقف المناسب في المكان والزمان المناسبين. ولم تغفل تلك التوصيفات الإشارة إلى القوة الجسمية والشكل الخارجي لجسم البطل، واشترطوا أن يكون قادراً على قيادة الخيل واستخدام السلاح لكي يكون قدوة لغيره من الفرسان.

ربما يكون العرب قبل الإسلام قد بالغوا في تقديم تعريف للبطل، بسبب حاجتهم للرمز الذي يدافع عنهم ويوفِّر لهم أسباب الحياة الكريمة. وكان سادة القبائل العربية وفرسانها يتسابقون للحصول على هذا اللقب أو الاقتراب منه، لأن ذلك سينقل سيرتهم وأفعالهم إلى القبائل الأخرى، عبر الشعر والروايات الشفوية، ويمنحهم مكانة اجتماعية مرموقة وسط أهلهم، ما يجعلهم مهابين ويجعل حدود قبائلهم محصنة من الغزاة وقطاع الطرق.

واقتصر توصيف البطل عند العرب في الجاهلية على السادة الأحرار، ولم تذهب القبائل العربية إلى تقديم هذا اللقب للنساء والعبيد. وتظل قضية الشاعر والفارس الأسود عنترة العبسي قصة استثنائية في حياة العرب قبل الإسلام، فلم يتم الاعتراف به كبطل، رغم حمايته للقبيلة وإنقاذ سمعتها، إلا بعد أن اعترف شداد بنسبه، ليكون البطل حسب التقاليد السائدة معروف الأصل والانتماء.

وحمل إلينا التراث العربي القديم صوراً كثيرة عن فرسان أبطال خلدت قصائد الشعراء أفعالهم وسيرهم، وهم يدافعون عن الحق والفضيلة ويقدمون نموذجاً يكاد يكون مثالياً للشخصية العربية في تلك المرحلة.

الصعاليك.. بطولة مثار خلاف
وهناك نموذج آخر لهذه البطولة جاء إلينا من التراث أيضاً، وهي بطولة ظلت مثار خلاف في التاريخ العربي، عبَّر عنها «الصعاليك»، وهم فرسان أشداء، خبرتهم الحياة العربية في الصحراء وتحدث عنهم الرواة والشعراء. وصارت أسماء مثل عروة بن الورد، والسليك بن السلكة وتأبط شراً وغيرها حاضرة في الذاكرة العربية. إنهم «أبطال» تميزوا بالفروسية والشهامة والكرم، ووضعوا لأنفسهم قانوناً خاصاً بهم في الحياة، يتمثل في اقتطاع جزء من أموال الأغنياء، ولو بالقوة، وتوزيعه على الفقراء والمحتاجين. وشكل الصعاليك ظاهرة استثنائية في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العربية في تلك المرحلة، حتى صار بعض الشعراء العرب في العصور اللاحقة يتمثلون سلوكهم الاجتماعي.

ويرى متخصصون في علم الاجتماع أن ظاهرة «الشطَّار والعيارين» التي يحمل أفرادها بعض سمات البطولة، وانتشرت في عدد من الدول والولايات الإسلامية بعد ضعف الدولة العباسية، وخاصة في عهد المماليك، قد استندت في جانب من سلوكها العام إلى ما وصل إليهم من تراث الشعراء الصعاليك، مستفيدين كذلك من ثقافة وتجارب الشعوب غير العربية التي دخلت الإسلام، في تكريس مثل تلك الظاهرة وتعميمها في الحياة العامة، ووجود أدوات في السلطة توفر لهم الدعم والحماية والشرعية.

توصيفات كثيرة للبطولة قدمها التراث العربي، حتى أن نسبة واسعة من الناس تتطلع إلى شخصية «حاتم الطائي» على أنه «بطل» بسبب ما وصل إلينا من روايات، قد يكون مبالغ في بعضها، عن كرمه ومروءته التي لم تعرف مثيلاً لها على أطراف الصحراء.

وفي الشعر العربي
لم يغادر البطل وعي الشعراء العرب وقصائدهم منذ فجر التاريخ، فصارت ظاهرة التغني بالبطولة والفروسية والكرم والشجاعة وغيرها من مفردات الحياة العربية، حاضرة بشكل قوي في القاموس الشعري العربي، منذ امرئ القيس وحتى اليوم. ولذا يستحيل علينا أن نعدد حتى أبرز ما قالوه في بطولاتهم والبطولة عموماً، كما جرت العادة في ملفات «القافلة»، لأن المختارات وحدها قد تملأ مجلداً ضخماً. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أبرز العناوين العريضة التي يمكن أن تجمع تحتها ما قاله كبار الشعراء في البطولة.

فالدارسون لشعر البطولة العربية، أو ظاهرة البطل في الشعر العربي، قديمه وحديثه، يجدون صورتين واضحتين، لا تتقاطعان مع بعضهما وقد تكمل إحداهما الأخرى.

الصورة الاولى هي أن يقوم الشاعر الفارس بالإعلان عن فروسيته وشجاعته وسمات بطولته بنفسه ومن خلال قصائده، وهي صورة تستند إلى بعض الوقائع على الأرض، وإرادة هؤلاء في أن يتناقل الآخرون هذه القصائد وترويجها، ليتم من خلالها ترويج صفات البطولة لهؤلاء الشعراء الفرسان.

يقول الشاعر عنترة العبسي:
ملأت الارض خوفاً من حسامي
وخصمي لم يجد فيها اتساعا

وفي موقف مشابه يقول شاعر العربية المتنبي:
الليل والخيل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فيما يذهب الشاعر الفارس أبو فراس الحمداني حتى وصف أهله وقومه المحاربين بالقول:
ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر

ومثل هذه المكانة لا تتحقق إلا بشروط البطولة والفروسية والكرم والمروءة والشجاعة والأخلاق.

وفي صورة شعرية تعلي من شأن البطولة والفروسية يقول الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدا

وهذا قرار لن يأخذه أو ينفذه إلا الأبطال الفرسان حيث كان الشاعر أحدهم، واستشهد في معركة حامية دفاعاً عن وطنه عام 1948م.

الصورة الثانية وهي أن يذهب شعراء آخرون لتخليد صورة البطل في قصائدهم، سواء كتبوا عن أبطال معروفين بأسمائهم، أو عن البطولة بشكل عام، من أجل تعميم هذه الصورة بين الناس.

وفي قصيدة ذائعة الصيت للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان يقول فيها متحدثاً عن الفدائي – البطل، الذي احتل مساحة واسعة في وعي الجمهور:
هــــــو بالبــــــــــــاب واقـــــــــــــــــف والـــــردى منــــــه خائــــــــف

وخلال اندلاع الثورات الاستقلالية ضد الاستعمار الأجنبي لبعض البلدان العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وجدنا الشاعر القروي (رشيد سليم الخوري) يمجِّد القوة كما لم يمجدها شاعر آخر بقوله:
تسلَّحوا واستعدوا للدهر سلماً وحرباً
فالليث ظفر وناب لولاهما كان كلباً

وفي الزمن العربي المعاصر صار الشهيد هو البطل الذي لا ينازعه حضور في وعي الناس، وقد امتلأت صفحات ديوان الشعر العربي بقصائد لا حصر لها تتحدث عن الشهيد والشهادة، باعتبارهما صورة عالية المقام من صور البطولة والفداء، التي تتراجع أمامها صور كثيرة تتحدث عن البطولة والأبطال في التاريخ العربي، وقد توقف كثيرون أمام قصائد الشاعرة العربية الخنساء التي قالتها في أخيها «صخر» لترسم له صورة متكاملة من البطولة التي تحدث عنها العرب على مر الزمان، إذ تقول في مطلع إحدى قصائدها:
أعيني جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر الندى

البطل في اللغة
أجمعت قواميس اللغة العربية، القديم منها والحديث، على تقديم تعريف يكاد يكون موحداً للبطل، وقد اتفقت معظم التعريفات على وصفه بالشجاعة والإقدام والجرأة والسبق والإيثار.
وفي التعريف أيضاً أن البطل جاء من الإبطال والإزاحة والمحو السلبي، فيقال بطل الشيء يبطل إبطالاً، والبطل هو الشجاع الذي يبطل جراحته ولا يكترث لها، ويقال للرجل بطل وجمعها أبطال وللمرأة بطلة، ويقال أيضاً بطل الشيء بُطلاً وبطلاناً أي ذهب ضياعاً، وبطل دم القتيل، أي ذهب دمه بُطلاً إذا لم يؤخذ له ثأر ولا دية. ويرتبط البطل اصطلاحاً بمعناه اللغوي ارتباطاً وثيقاً، وجاء في المراجع العربية أنه يتسع اتساعاً حتى يتجاوز الوقوف عند الغلبة على الأقران في جانبها الحربي، ليشمل البطولة النفسية والخلقية والاجتماعية، ولتكون السجايا الرفيعة والشمائل الأصيلة ومكارم الأخلاق قوامها.
ويرى متخصصون أن البطولة في التراث العربي هي جزء من تكوين الإنسان، ويحرص هذا البطل على تقديم صورة تليق به في مجتمع يقدر البطولة عالياً ويجاهر بشأن من يتمتعون بها.

«البطل ذو الألف وجه»
من بين مئات، وربما آلاف الدراسات التي تناولت مفهوم البطل، تحتل دراسة الكاتب الأمريكي جوزف كامبل مكانة بالغة الأهمية.

ففي هذه الدراسة التي نُشرت للمرة الأولى عام 1949م، وأعيد طبعها عام 1968م، وأخيراً العام الفائت، يتناول كامبل بالتحليل كل الأبطال الذي حفظ لنا التاريخ ذكرهم من مختلف الثقافات والحضارات، ويكشف عن القواسم المشتركة بينهم، معتمداً على نظريات علماء الاجتماع وعلم النفس (حتى فرويد)، ليصوغ في النهاية الصورة النموذجية للبطل.
وقد أثرت دراسة كامبل للبطل في أعمال معظم الأدباء والفنانين الأمريكيين، منذ أن ظهرت وحتى اليوم. حتى أن المخرج جورج لوكاس، اعترف صراحة وعلناً بفضل دراسة كامبل، على سلسلة الأفلام الشهيرة التي أخرجها بعنوان «حرب النجوم».

البطل في السيرة الشعبية
بعد الشعر، قد تكون السيرة الشعبية المجال الأدبي الأبرز الذي تناول البطولة ومفاهيمها، حتى يمكن القول إن هذا اللون الأدبي العربي الذي لم تعرفه الثقافات الأخرى، تمحور جملة وتفصيلاً حول البطل وبطولاته. ومن أشهر السير التي سمع بها الجميع، إن لم يكونوا قد قرأوها، هناك سيرة عنترة بن شداد، وسيرة الزير سالم، وسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة الظاهر بيبرس… ومن العناوين المؤلفة من أسماء الأبطال، يمكن التكهن بمحتوى هذه السير.

إن كل واحدة من هذه السير الشعبية هي عبارة عن سلسلة من عدة مجلدات. شهدت ظهور نواتها الأولى في وقت مبكر، وظلَّت (طوال العصر الوسيط) تشهد إضافات جديدة. فأبطالها يتسمون بالقوة والشجاعة والفروسية والكرم والمروءة والإيثار وباقي الصفات الحميدة اللازمة للبطل المتفوق. ولهذا ما كان الحكواتي في العصر الوسيط يجد حرجاً في الإضافة على النص الذي بين يديه، وفي تضخيم الوقائع والأرقام التي كانت مضخمة أصلاً على الأرجح.

ولو أخذنا السيرة الشعبية للظاهر بيبرس مثلاً، لوجدنا أن وصف المعارك والبطولات يحتل نحو ثلث عدد صفحاتها البالغ نحو أربعة آلاف صفحة.. في حين أن أعمال الشهامة والمروءة والمهارة ومواجهة الصعاب تشكِّل لوحدها ثلثاً ثانياً.

لقد لعبت هذه السير الشعبية دوراً مهماً في العصر الوسيط على صعيد الترويج للقيم الأخلاقية الحميدة، وللشجاعة والإيثار. حتى أن النواة الأولى لسيرة الملك الظاهر، تبدو وكأنها كانت موجهة لتحريض العامة ضد أسرة قلاوون.

لقد اختفت السيرة الشعبية في العصر الحديث، حتى أن قراءة القديم منها لم تعد شرطاً ثقافياً.. فنشوء المدن الحديثة سلب الصحراء اتساعها وطريقة حياة أهلها، صورة البطل. والإعلام الحديث جرَّد قصور القادة من الغموض المغذي للخيال.. ناهيك عن تغير نمط الحياة جملة وتفصيلاً بفعل الدور المتزايد للمجموعة على حساب دور الفرد، وللعقل والعلم على حساب المغامرة.

أضف تعليق

التعليقات