تدور في أجسامنا – من دون أي إحساس منا أو شعور- الكثير من التفاعلات والعمليات المعقدة، التي يكشف العلم الحديث النقاب عنها بين فينة وأخرى، لتضاف إلى القائمة الطويلة من الحقائق الخفية التي يبطنها جسم الإنسان، وما حواه من عجائب الخلق وأسراره. ومن بين مفردات الظواهر الفسيولوجية الفريدة التي لا تزال محط أنظار الباحثين حتى يومنا هذا، يبرز لنا مصطلح “الالتهاب”، وهي كلمة ذائعة الصيت، وتكاد تظهر على ألسنتنا وألسنة مَنْ حولنا على نحو شبه يومي، إذ قلما نجد شخصاً من حولنا لا يستذكر تجربة إصابة جسمه بالالتهاب بأي شكل كان من أشكاله.
الالتهاب عملية فسيولوجية بالغة التعقيد، وتتحدث عنها سطور المراجع والقواميس العلمية بالعديد من التعريفات ذات الصيغ المتباينة. إلا أن ثمة قواسم مشتركة تجمع بين هذه التعريفات، لتفصح عما يصول ويجول من معركة حامية الوطيس، تدور رحاها في أنسجة أجسامنا، ونجحت عدسة المجهر في الكشف عن جانب من أسرارها بعد أن كانت لغزاً من الألغاز، عصياً على الفهم والإدراك.
والالتهاب ردة فعل فسيولوجية، وجزء من منظومة دفاعية كبيرة، تقدح زنادَها أجهزةُ الجسم، وتظهر في صورة سلسلة من التفاعلات المعقدة التي تتوالى تباعاً. وهو استجابة طبيعية تبديها الأنسجة التي تهبّ للدفاع عن أجسامنا عقب تعرضها لأي شكل من أشكال الأذى – وما أكثرها- الذي يعترض سير الحياة الطبيعية، أياً كان نوعه أو مصدره، بغية التخلص منه، وكبح جماحه.
وقد أفادتنا كثيراً عدسة المجهر في كشف النقاب عن جوانب كثيرة من أغوار عملية الالتهاب المجهولة التي تتعاقب فصولها المسرحية في غيابات أجسامنا، من دون أن يكتب فصل تلك المسرحية الأخير، وليس له أن يكتب طالما أن في الجسد روحاً وحياة، وطالما أن في عروقه دماً يجري.
أسباب إصابة الجسم بالالتهاب
يتعرض جسم الإنسان في أثناء حياته اليومية إلى أشكال عديدة من الرضوض والإصابات المختلفة التي يتراوح أثرها في صحة أجسامنا بين الخفيف العابر، والشديد المؤذي.
وقد يعتقد بعضهم أن إصابة أجسامنا بالالتهاب ناتج عن سبب وحيد هو غزو الجسم بالميكروبات ودخولها إلى أجهزته، إلا أن هذا من المفاهيم الخاطئة السائدة. فحقيقة الأمر أكبر من ذلك بكثير، إذ تكاد تكون عملية الالتهاب جزءاً من أية إصابة تعترض طريق أجسامنا، وما مهاجمة تلك الكائنات الحية المجهرية لأنسجة أجسامنا إلا سبباً واحداً ضمن قائمة الأسباب الطويلة المحفزة لحدوث الالتهاب.
تمر عملية الالتهاب بسلسلة من العمليات المعقَّدة التي ينشأ عنها سيناريو حافل بالأحداث المتعاقبة التي تهدف في المحصلة إلى حماية الجسم من الضرر الذي يُتوقع حدوثه عقب تعرض النسيج إلى مسبب الالتهاب
يمكننا عموماً تقسيم أسباب حدوث الالتهاب في الجسم إلى أسباب حية، وأخرى غير حية. ونعني بالأسباب الحية دخول كائن مجهري (كالبكتريا أو الفيروسات مثلاً) إلى الجسم، وهو السبب الرئيس لحدوث الالتهاب، وتسبب هذه الكائنات الحية المجهرية -في العادة- التهاباً حاداً يستدعي تدخلاً علاجياً سريعاً.
وثمة في المقابل أسباب أخرى غير حية تثير سيناريو الالتهاب في الجسم، وتضم تلك الأسباب قائمة طويلة من الإصابات التي قد تعترض حياتنا اليومية. ومن أمثلة عناصر هذه القائمة: تَعَرُّض الجسم للرضوض بأشكالها المختلفة، وللتيار الكهربائي، ولجرعات عالية من الأشعة أو ضوء الشمس، وإصابة الجلد بالحروق أو تَعَرُّضه للصقيع، أو للمواد الكيميائية كالأحماض أو السموم، والتعرض لمصادر الحرارة المرتفعة، ودخول الأجسام الغريبة إلى الجسم (كالأجسام الصلبة الصغيرة أو ذرات الأتربة مثلاً)، كما أن هناك أسباباً مجهولة وراء حدوث الالتهاب، ولم يكشف نقابها العلم الحديث بعد، رغم ما أتيح له من إمكانات.
ما الذي يحدث تحت عدسة المجهر؟
تمر عملية الالتهاب بسلسلة من العمليات المعقدة التي ينشأ عنها سيناريو حافل وغني بالأحداث المتعاقبة التي تهدف في المحصلة إلى حماية الجسم من الضرر الذي يُتوقع حدوثه عقب تعرض النسيج إلى مسبب الالتهاب أياً كان.
وتشير الأبحاث إلى أن وجود مسبب الالتهاب هذا يؤدي إلى إثارة النسيج وإفراز بروتينات وأجسام مناعية، بالإضافة إلى تحرر وسائط كيميائية ذات طابع خاص في النسيج المصاب. ويعقب ذلك مسلسل من الأحداث يبدأ بتوسع الأوعية الدموية المفاجئ، الذي يصاحبه تدفق الدم بكميات كبيرة نحو مسرح الأحداث، وزيادة تسرب هذا الدم عبر مسامات الوعاء الدموي المتوسعة حاملاً معه الخلايا المناعية المختلفة، وهو ما يفسِّر سبب ظهور العضو الملتهب باللون الأحمر، وارتفاع درجة حرارته عند لمسه، وزيادة حجمه، مقارنة بحاله قبل حدوث الالتهاب.
وتؤدي زيادة حجم النسيج الملتهب (أو تورمه كما تسميه المراجع العلمية) إلى الضغط على نهايات الأعصاب المستقرة في منطقة الالتهاب وتحفيزها، ويترافق ذلك مع ظهور الألم الذي تختلف حِدَّته وفقاً لشدة الالتهاب، وما تشهده الساحة من صراع بين طرفَي النزاع. كما أن وراء تفاقم الألم سبباً آخر هو تحرر بعض المواد الكيميائية في الوسط الملتهب، مثل مادة “براديكينين” ومادة “هستامين”.
وسرعان ما تتفاعل خلايا الدم المناعية مع مسبب الالتهاب بغية القضاء عليه، والحد من شراسته وتأثيره الضار في نسيج الجسم. وتأتي خلايا الدم البيضاء في رأس قائمة الخلايا المناعية التي تدخل ساحة الالتهاب. ويلي ذلك إفراز مواد كيميائية مختلفة بغية تجنيد مزيد من تلك الخلايا، وجذبها نحو ميدان النزاع.
ولخلايا الدم البيضاء هذه أشكال ووظائف متعددة، منها ما يُسمّى بالخلايا “البالعة” (Phagocytes) التي تحيط بمسبب الالتهاب إحاطة السوار بالمعصم، فتفقده طاقته التخريبية، وقد عُرِفَتْ باسمها هذا لما تمتلكه من خواص التهام البكتريا والميكروبات الأخرى وحطام الخلايا الميتة، نظراً لإفرازها إنزيمات خاصة ومواد حمضية تساعدها في مهماتها المناعيــة في هضم مسببات الالتهاب تلك.
ويصحب السيناريو السابق حدوث عملية مناعية أخرى فريدة من نوعها، وتسهم في إنجاح مسلسل الالتهاب هذا، وتحقيق أهدافه، إذ يؤدي وجود الميكروبات ونواتج تحطم الخلايا ومثيرات الالتهاب المختلفة إلى تحفيز عملية كيميائية تدعى “الانجذاب الكيميائي” (Chemotaxis) التي يحدث فيها جذب خلايا الدم البيضاء نحو هدفها المنشود، وهو النسيج الملتهب.
ولمشاهدة الأثر الناجع لعملية الالتهاب، ومراقبة فاعليتها عن كثب، تم في تجربة حقن فأر في المختبر بجزيئات مادة الكربون في مجرى الدم، ثم أخذتْ عينات عشوائية من هذا الدم بغية فحصها لمعرفة مصير هذه الجزيئات الضارة، وقد لوحظ تنظيف أثر معظمها سريعاً خلال زمن وجيز من البدء بالتجربة، وقد صفي الدم تماماً من تلك الجزيئات خلال نصف ساعة تقريباً، وعزي نجاح تلك المهمة إلى ما حصل في جسم الفأر من تنشيط مفاجئ لعملية الالتهاب.
وهنا يبرز سؤال يطرح نفسه بقوة، وهو: طالما أن عملية الالتهاب سرعان ما تنشط في أجسامنا عقب تعرضها لأحد مثيرات الالتهاب التي ذكرت سابقاً، فلماذا إذاً يسوء أمر بعض الحالات المرضية، وتظهر في الجسم أعراض العدوى والإصابة بالالتهابات الناتجة عن دخول الميكروبات في أجسامنا؟ ألا تكفي تلك التفاعلات المعقدة لوقاية الجسم من التأثيرات الضارة لغزو تلك الكائنات المجهرية؟
وللإجابة عن تلك التساؤلات علينا أن ندرك أنه لولا تطور تفاعلات الالتهاب تلك التي أوجدها الخالق تعالى في أجسامنا لفتك بنا أي كائن مجهري ينجح في اختراق أجسامنا مهما صغر حجمـه وضعفت قوته.
إذاً فتفاعلات الالتهاب لا غنى عنها في برنامج حماية أجسامنا ووقايته من الكثير من الأمراض، إلا أن ما يحدث في بعض الأحيان أن يهاجَم الجسم بجرعات عالية من الميكروبات الشرسة التي تفوق قوتها قوة أجهزة الجسم الدفاعية، فتنجح في التحايل على حاجز الخلايا المناعية وتخطِّيه. كما أن إصابة الجسم ببعض الأمراض ذات الطابع الشديد يوهن جهاز المناعة، ويضعف قدراته الهجومية، وهو سبب رئيس آخر تفشل معه وسائل دفاع الجسم، فيغدو حينها التأثير المناعي لعملية الالتهاب ضعيفاً ولا يرقى إلى درجة من القوة التي يصمد بها أمام هجوم تلك الأحياء المجهرية. ومن أمثلة الأمراض الموهنة لصحة الجسم عموماً، ولصحة جهاز المناعة على وجه الخصوص: داء نقص المناعة المكتسبة المعروف، والداء السكري، والإصابة بحالات سوء التغذية.
سيناريوهات محتملة مقبلة
ما إن تنتهي المعركة، وتضع الحرب أوزارها، وتفرغ خلايا الدم البيضاء من مهامها الموكلة إليها بمهاجمة مثير الالتهاب الذي دخل النسيج المصاب، حتى تظهر في ساحة الوغى نتائج تترتب على طبيعة المواجهة التي دارت بين الطرفين.
وتعتمد نتيجة الأمر هنا على نوع العدو الغازي، وطاقته التخريبية، وحجم قواته من جهة، ومدى فاعلية وسائل الدفاع وصمودها أمام الأعداء من الجهة المقابلة. وثمة في النهاية سيناريوهات مختلفة تفسر لنا نتائج الصراع النهائية.
والسيناريو المحتمل الأول هو تماثل الجسم للشفاء التام، وعودة النسيج الملتهب إلى سابق عهده الذي كان عليه قبل أن يصاب بالالتهاب. ويحدث ذلك في حال انتصار مناعة الجسم، ونجاحها في القضاء على مسبب الالتهاب، وهنا يعود الوعاء الدموي الذي تمدد إلى وضعه الطبيعي، ويقل حجمه، ويقل معه تدفق الدم نحو الخلايا التي سيعاد ترميمها من جديد، لتستعيد وظائفها التي خُلقتْ من أجلها ثانية.
أما الاحتمال الثاني فهو أن يطول أمد الالتهاب مدة أطول من ذي قبل، نتيجة الشراسة التي يبديها مثير الالتهاب القوي، فتضعف هنا وسائل دفاع الجسم التي سترهقها المعركة قبل أن يكون النصر حليفها، لتنجح في النهاية في القضاء على سبب الالتهاب. ومحصلة هذا السيناريو أن يصاب النسيج المتعافي بما يُعْرف بالتليف (fibrosis)، الذي يمتاز بتكون ندبة في النسيج المصاب تدل على ما دار تحته من معارك حامية الوطيس.
ومن السيناريوهات المحتملة أن تهاجِم الجسمَ ميكروبات ذات بأس شديد، تتفاعل معها بقوة خلايا الدم المناعية، مما ينتج عنها موت أعداد كبيرة منها، وتراكم حطامها مع مخلفات خلايا النسيج المتأثر، ومحصلة ذلك تكون الخرَّاج (Abscess)، وهو تجويف يمتاز بتجمع القيح والخلايا الميتة، وقد يستدعي تدخلاً جراحياً لإفراغ محتوياته الضارة.
ويحدث في آخر فصول المسرحية المحتملة أن يستمر بقاء مسبب الالتهاب مدة طويلة تفشل معها وسائل المناعة في القضاء عليه قضاء تاماً، ويتحول الأمر حينها إلى حالة تعرف بالالتهــاب المزمـن، وهي ظاهرة مرضية يصحبها دمار الأنسجة المصابة بصورة تدريجية.
وسائل علاجية مساندة
تستدعي بعض حالات الالتهاب -ولا سيما القوية منها- تقديم بعض الدعم العلاجي لها بغية مساعدة الجسم في القضاء على مصدر الأذى الذي أحاط به.
وثمة عديد من وسائل العلاج الداعم تلك، ومن ذلك: الخلود إلى الراحة، وتخفيف حركة العضو المصاب، واستخدام كمادات الماء البارد بغية تخفيف تورم الأنسجة وتقليل درجة ما يشعر به المريض من الألم.
كما يفيد رفع الجزء المصاب بالالتهاب نحو الأعلى قليلاً، ولذلك أثر ثابت أيضاً في تخفيف حدة الألم والورم.
لولا تطور تفاعلات الالتهاب تلك التي أوجدها الخالق تعالى في أجسامنا لفتك بنا أي كائن مجهري ينجح في اختراق أجسامنا -مهما صغر حجمه وضعفت قوته
وتستدعي الجروح بذل عناية خاصة في موضع الإصابة، كأن يتم تنظيفها وتعقيمها على نحو مستمر. كما يوصى بوصف مسكنات الألم بأنواعها المختلفة، للتخفيف من حدة شكوى المريض. وتستدعي من جهة أخرى بعض الالتهابات إعطاء مضادات حيوية مناسبة، ويحدد ضرورة ذلك الطبيب المعالج.
وكثيراً ما يحتاج الأمر إلى تدخل جراحي لإزالة ما تراكم في النسيج المريض من الخلايا الميتة والمفرزات والسموم، إذ إن بقاءها يؤخّر الشفاء، ويفاقم الحالة. وللجراحة استخدام آخر يكمن في معالجة الخراج بشقه وإفراغ محتوياته من القيح والمفرزات.
وأخيراً، فإن لتناول أقراص الفيتامينات والمعادن أثرٌ ثابتٌ في تعزيز مناعة الجسم، ودوراً في تقوية قدراته الدفاعية والهجومية.