تترك زيارة الشيخ علي بن أحمد ملا، مؤذن الحرم المكي الشريف، لديك انطباعاً بأنك قمت بمقابلة فنان متعدد المواهب، فقد درس علي ملا الفنون التشكيلية في معهد التربية الفنية بالرياض، ثم تخرج من جامعة أم القــرى بمكة المكرمة عام 3041هـ. التــحق بســلك التدريـــس منــذ العـــام 0931هـ (1791م)، مدرساً فنياً، ثم عيّن موجهاً فنياً مع استمراره في التدريس. وأثناء عمله مدرساً أشرف على الفرق الكشفية لخدمة الحجيج وجمعية التصوير الفوتوغرافي، وكذلك على اللجنة الإعلامية في مدرسة عبدالله ابن الزبير المتوسطة، التي عمل بها حتى تقاعده مؤخراً. وإلى جانب ذلك، فللشيخ علي معرفة جيدة بصناعة الفضيّات اكتسبها منذ صغره.
حتى لا يضيع التراث
يهتم الشيخ علي ملا -الذي التقته القافلة في منزله بحي العوالي وفي (مكبرية) المؤذنين- كثيراً بالتحف والمصنوعات اليدوية القديمة، ويحتفظ بالعديد منها في منزله. يهوى التصوير وجمع الطوابع والنقود المعدنية، وهو عضو الجمعية العمومية لجمع الطوابع بالرياض، وعضو جمعية البريد المركزي بمكة، وعضو الجمعية السعودية للكشافة العربية، كما يحتفظ في منزله بمقتنيات أثرية عدة بعضها من أعمال والده الفضية. ويقول: إنه يُكوِّن بجمع هذه الأصناف البنية الأساسية لإنشاء متحف صغير يتركه لأبنائه وأحفاده «حتى لا يضيع التراث». ولكن قبل ذلك كله، فإن لدى الشيخ علي ملا ملكة صوتية متميزة، فصوته جميل، قوي وعذب يطرب المؤمنين بصوت الحق المنطلق من بيت الله الحرام في مكة المكرمة.
كبر علي ملا وتعلم في محيط الحرم المكي الشريف، فقد ولد بحارة «سوق الليل» المجاورة للحرم في مكة المكرمة عام 6631هـ، ونشأ بها ودرس الابتدائية بالمدرسة «الرحمانية» التي تقع في المسعى داخل الحرم ثم انتقل إلى حي «القرارة» المجاور أيضاً للحرم، وأكمل دراسته المتوسطة في الرحمانية المتوسطة التي تقع بسوق المعلاة. بعد ذلك درس المرحلة الثانوية في مدارس معهد العاصمة النموذجي بالرياض.
تراث الأذان في الحرم
ليس غريباً على علي ملا أن يُؤذّن في الحرم، فهو ابن إحدى عائلات المؤذنين المعروفة في الحرم المكي الشريف ومن هذه العائلات: الريس، البصنوي، شاكر، معروف، فيدا، خوج، الرمل، المؤذن، العباسي، وتأثر بهم خاصة عمه وأبناء عمومته، كما تأثر بالشيخ حسن لبني، إضافة إلى والده الشيخ أحمد ملا وعمه الشيخ عبدالرحمن ملا وخاله الشيخ عبدالحفيظ خوج وجده لأمه الشيخ عبدالله خوج، وكلهم من مؤذني الحرم. التأثّر لم يكن محصوراً على المؤذنين من عائلته المباشرة أو فقط بمن هم في مكة، بل تأثر أيضاً بالشيخين الأخوين، عبدالعزيز وعصام بخاري، من مؤذني المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة.
صعد علي ملا المنبر صغيراً ليؤذن لصلاة الفجر في الحرم المكي للمرة الأولى وهو ابن الثالثة عشرة بعد أن تعلم وتدرب على إجادة الأذان في منارة باب «زيادة»، ثم من بعد ذلك في منارة باب «المحكمة». يقول عن ذلك: «كان المؤذنون يتدربون في منارة باب زيادة التي تعد بمثابة مدرسة للمؤذنين».
في البداية، نظراً لتأثره بعمه وأبناء عمومته من المؤذنين، كان يتبعهم إلى الحرم، ثم يقوم بمحاولات للأذان من منارة كان يطلق عليها اسم «الصنجة»، أي الطرشة، لأنها كانت بدون مكبرات صوت، فلا يسمعها من رواد الحرم إلا من بجوارها. وقد عين مؤذناً رسمياً في المسجد الحرام عام 5931هـ بتشجيع من والده وعمه.
كان في الحرم آنذاك سبع منارات جميعها صنجاء، ولذلك كان ينطلق الأذان من كل منارة بصوت مؤذن من إحدى عائلات الأذان في مكة، فيبدأ مؤذن آل الريس أولاً ثم يتوالى الأذان بعد ذلك بتتابع، الهدف منه إسماع الجميع لعدم توفر مكبرات الصوت حينها. ولكن هذا النظام استمر حتى بعد استخدام المكبرات، وحتى قرار توحيد الأذان في المسجد الحرام في أذان واحد في التسعينيات الهجرية، وتمّ على إثره انتقال جميع المؤذنين إلى «المكبرية» التي يتجمع فيها المؤذنون في الحرم حتى اليوم.
وقد أذن الشيخ علي ملا في غير الحرم في موسم الحج ومناسبات مختلفة بالمشاعر المقدسة وفي مسجد قباء بالمدينة المنورة وفي افتتاح مسجد خادم الحرمين الشريفين في مدينة كاراكاس الفنزويلية، وقرأ القرآن في مراسم افتتاح المسجد. وأذن كذلك في افتتاح مساجد خادم الحرمين الشريفين في أدنبرة الاسكتلندية، ولوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأمريكية وبجبل طارق الشهير الفاصل بين المملكة المغربية وأسبانيا.
الصلوات الخمس في الحرم تقسّم على جميع مؤذني الحرم الذين يبلغ عددهم حالياً خمسة عشر مؤذناً، وقد وصل عددهم في وقت سابق إلى 22 مؤذناً، بحيث يتواجد ثلاثة منهم في كل فرض صلاة. يقول الشيخ علي: «كل مؤذن منا عنده ثلاثة أيام يعمل فيها أساساً عدا أيام التغطيات. حسب جدولي أُؤذن لصلاتي المغرب والعشاء كل ليلة جمعة، بالإضافة إلى صلاة الفجر والظهر يوم الجمعة. كما أؤذن للمغرب والعشاء ليلتي الاثنين والأربعاء». أما في تكبيرات وتهليلات يومي عيد الفطر والأضحى، فيمر مكبّر الصوت (الميكروفون) على جميع المؤذنين بالتوالي.
في هذه الأيام، يتم اختبار المؤذنين الجدد على أساس سماع الصوت من قبل شيوخ الأذان على الطبيعة وفي شريط مسجل ليتم تقويم المؤذن على أساس من هذا الاستماع. يقول الشيخ علي معلقاً على ذلك: «المؤذن داعية يدعو الناس إلى المسجد لأداء الصلاة، فسماع الأذان بصوت جميل يقرّبه للنفس. وليس للأذان مقامات موسيقية كما يظن البعض، ولكنها أساليب وطرق تميّز أصحاب كل أذان عن سواهم، وهكذا تأتي الفروق والمسميات مثل الأذان المكي والأذان المدني».
يمكن سماع صوت الشيخ علي الآن على كثير من أشرطة الكاسيت التي تباع قرب الحرم، وفي بعض المحطات الفضائية وفي بعض الساعات المنبهة أيضاً، ولكن كل ذلك دون أن يستأذنه أحد في استخدام صوته. ويوشك الشيخ علي أن يفرغ من تأليف كتابين يعمل حالياً عليهما، أحدهما عن تاريخ الأئمة والمؤذنين في المسجد الحرام، والآخر عن أسماء حارات مكة القديمة وشعابها وبيوتها القديمة.
وأخيراً لا يعتبر مؤذن الحرم المكي الأذان وظيفة، فالتقاعد منه، في رأيه، يأتي مع الوفاة أو حدوث عارض يمنع من أدائه.