لأن الإصدار المحتفى به هو الأحدث في سلسلة إصدارات للعمل نفسه بدأت على الألواح الطينية في الألف الثاني قبل الميلاد، ولأن محتواه يمثل باكورة الأعمال الأدبية في تاريخ الإنسانية، كان على حفل توقيعه أن يرتقي إلى مثل هذه المكانة. وبالفعل، فإن احتفاء جمعية الثقافة والفنون بالدمام بصدور “ملحمة جلجامش” التي ترجمها إلى العربية الأستاذ عبدالله جمعة، تجاوز إلى حد بعيد المألوف في حفلات توقيع الكتب، ليشكِّل حدثاً ثقافياً متكاملاً وقائماً بحد ذاته، تكوَّنت عناصره من إضاءات أدبية ونقدية مكثفة، وكلمات في الأساطير والتاريخ والترجمة وصناعة الكتاب، ليتناغم كل ذلك مع معرض فني ومشهد مسرحي..
يقول الكاتب الإنجليزي الشهير جورج برنارد شو: «الآداب الكلاسيكية هي الآداب التي يتمنى الجميع أن يكونوا قد قرأوها، ولكن قلائل هم الذين يقرأونها فعلاً..». وعلى الرغم مما في هذا القول من نكهة ساخرة أو مبالغة، فهو صحيح إلى حد ما. فثمة هوة تفصلنا عن آداب الحضارات القديمة، تعود في جزء منها إلى شيء من الشك في قدرتنا على استيعاب خطابها الأدبي المصاغ بمزاج ولغة ابتعدا عن مزاجنا ولغتنا، وربما أيضاً إلى الاعتقاد بأنه طالما أن هذه الأعمال موجودة منذ ألف أو ألفي سنة، فلا داعي للهفة إلى قراءتها، إذ إن بضع سنوات إضافية لن تقدِّم ولن تؤخر..! ولو كان ممكناً اختصار مجريات «أمسية ملحمة جلجامش» بكلمات قليلة، لقلنا إنها ردمت هذه الهوة عند الحاضرين. إذ تجلَّت هذه الملحمة أمامهم كعمل أدبي لا يزال في ريعان الشباب، قادر على إثارة الأسئلة، القديمة منها والمتجددة، ويحفِّز على قراءته أسوة بقمم الآداب المعاصرة في العالم. وقبل الجولة على الإضاءات الكثيرة التي حفلت بها هذه الأمسية، لا بد من وقفة سريعة أمام العمل المضاء..
من الطين إلى الورق
بعدما دُفنت ملحمة جلجامش في باطن الأرض لأكثر من سبعة وعشرين قرناً، خرجت إلى النور في القرن التاسع عشر، عندما عثر المنقِّبون في العام 1853م، على مكتبة الملك أشور بانيبال في أطلال مدينة نينوى بالعراق، وكانت من جملة اللقى اثنتا عشرة لوحة مسمارية تحمل النص «الأكمل» لهذه الملحمة. واكتشفت بعد ذلك نسخ أخرى من هذه الملحمة باللغة البابلية تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وعثر منقبون على أجزاء منها في بلدة مجدو بفلسطين تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ترجمت هذه الملحمة إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والجورجية والفنلندية في النصف الأول من القرن العشرين، ولاحقاً إلى الروسية والدانماركية والهولندية، ومرات عدة إلى الإنجليزية أيضاً. أما في البلاد العربية، فكان عليها انتظار عالم الآثار العراقي طه باقر مع زميله السيد بشير فرنسيس ليترجماها وينشراها في مجلة سومر في عام 1950م استناداً إلى الترجمة الإنجليزية التي وضعها ألكسندر هيدل في عام 1946م، لكنه عاد ليترجمها عن اللغة الأصلية ولينشرها مستقلة للمرة الأولى عام 1961م، وهو العام نفسه الذي شهد صدور ترجمة جديدة إلى الإنجليزية وضعتها نانسي ساندرز ونشرتها دار بانغوين. والترجمة الأخيرة بالذات هي التي اعتمدتها الجامعة الأمريكية في بيروت، وفرضت قراءتها على طلابها، وكان من بينهم عبدالله صالح جمعة الذي سيعرفه الجميع لاحقاً رئيساً لأرامكو السعودية.
يقول الأستاذ جمعة في مقدمة الكتاب إنه بدأ ترجمة هذه الملحمة إلى اللغة العربية عام 1970م. لتأثره بالأبعاد الإنسانية لهذا العمل الأدبي، وشعوره «بأن هذه القصيدة الملحمية التي كتبت أصلاً باللغة السومرية، لا بد وأن تكون قد كتبت بلغة شعرية راقية ليكون أثرها كبيراً بين قرَّائها، وهذا ما لم ألمسه في الترجمة الإنجليزية للملحمة التي اعتمدتها للترجمة إلى العربية».
وعلى مدى نحو ثلاثة عقود، وبتقطع بسبب موجبات العمل، كان جمعة يعيد النظر في ترجمته ويُدخل عليها كثيراً من التغييرات والتعديلات «في اللغة وليس في المضمون.. محاولاً وضع النص الشعري في ثوب جديد، مستفيداً من غِنى اللغة العربية وجمالها». ولأن ترجمة السيدة ساندرز «تقدم قصة جلجامش بسرد مُطَّرد (…) استناداً إلى ترجمات متعددة لألواح الملحمة من اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية (…) وهو نص نثري متصل يقدِّم للقارئ غير المتخصص في علوم الآثار، نصاً يستطيع معه أن يقوِّم الأفكار المطروحة في العمل الأدبي» فإن اعتماد جمعة على هذا النص دون غيره يشكِّل انتصاراً للبعد الأدبي لهذه الملحمة، وهو ما يهمنا أكثر من غيره كقرَّاء في يومنا هذا. وهذا ما دفع الذين اطلعوا على هذه الترجمة إلى الإلحاح على الكاتب أن ينشر كتابه للجمهور العام، بعد أن كان ينوي الاقتصار على توزيع نسخ محدودة على بعض الأصدقاء والمقرَّبين فعهد بمهمة إخراجه ونشره إلى الفنان المعروف الأستاذ كميل حوا.
مدخلنا إلى عالم جلجامش
بدأت الأمسية بمشهد مسرحي مونودرامي أخرجه وأداه الفنان راشد الورثان، الذي جسَّد شخصية راوية للتاريخ، يحكي قصة الملك جلجامش، وتنقلب شخصيته أثناء المشهد ليصبح هو جلجامش نفسه. وبأداء رفيع المستوى، كان صوت المؤدي يتحوَّل في لحظات معيَّنة إلى صوت معلِّق على الأحداث يفسِّر خبايا السرد. وفي لحظات أخرى يتحوَّل إلى صوت متحدث مجهول وعميق يخاطب جلجامش.. وتحالف الاقتدار على هذه الدرامية الصوتية مع تجهيز خشبة المسرح بسينوغراف تعبيري استحضر صور عشتار وأنكيدو وجلجامش، إضافة إلى ملابس الراوي، في نقلنا خلال خمس عشرة دقيقة إلى مناخ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد. فشكل ذلك ما يشبه تهيئة نفسية للحاضرين تسهل عليهم الغوص في عالم هذه الملحمة، وفهم الإضاءات الفنية والنقدية والعلمية التي تلت.
مع الكتاب صناعةً
إن كان المشهد المسرحي هو المدخل المناخي الأول إلى عالم «ملحمة جلجامش» فإن تناول الكتاب كمنتج فني، وهو أول ما يطالعه القارئ، شكَّل المدخل الثاني، خاصة وأنه جاء بشكل يحاكي روحية مضمونه. إذ ليس من المعتاد أن يأتي إخراج الكتب معبراً عن شخصية النص بالشكل الذي جاء فيه هذا الكتاب. فعشرات الملاحم صدرت عن دور نشر عربية وعالمية بكتب عادية، بأحجام وحروف عادية.. لكننا هنا في هذه الحالة أمامنا وضع آخر، كتاب كل تفصيل فيه بلا استثناء مشبع بروح الملحمة القديمة. وفي هذا ما يدل على الشأو الكبير الذي بلغه فن إنتاج الكتاب في المملكة في وقتنا الحاضر.
فحول إخراج الكتاب، تحدث مصممه الأستاذ كميل حوا، الذي عزا اعتماد الشكل الطولي غير المألوف إلى رغبته في تمثيل العلاقة العمودية بين بطل الأسطورة بالقدر والسماء من جهة، والبئر العميق الذي يغطس فيه بحثاً عن عشبة الخلود.
وحول اختيار الورق ذي اللون الترابي والملمس الخشن نسبياً قال: «إن الصدف تلعب أحياناً دوراً يكمل جمال العمل ورونقه.. فبعد فترة وجيزة من بداية عملنا على إخراج الكتاب، إذ بشركة ورق ترسل لنا عينة لصنف جديد من الورق لونه كالطين اليابس، وكأنه أعد خصيصاً لكتاب جلجامش.. وجاءت سماكة الكتاب وغلافه ليعزِّزا الإحساس بصلابة لوح الطين وملمسه».
ومن أقوى العناصر الإخراجية والفنية في تصميم الكتاب، كانت هناك اللوحات الإثنتا عشر التي تزيِّن صفحات الكتاب. والتي حظيت أصولها بمعرض خاص بها في تلك الأمسية.
هذه اللوحات هي بريشة الفنان عمر صبير، الذي استوحاها من فقرات محددة ومفصلية من هذه الملحمة، وجاءت لغته التعبيرية أنيقة وفجة في الوقت نفسه، تعكس بشفافية فائقة خشونة ذلك الزمن الغابر وقسوته، ومن أجل تأكيد الإحساس بأن في هذه الملحمة نوعاً من بداية خروج شعب إلى النور وكأنها لحظات الفجر الأولى للبشرية، ومع المناخ المُعتم للمشاهد، تقرّر جعل لمسات بيضاء قليلة ضمن المشاهد وكأنها فتحات نور أو انعكاس لأول أشعّة النهار. وهذه اللمسات البيضاء لا يمكن أن تكون موجودة عادة حين يكون لون الورق نفسه غير أبيض، فليس في الطباعة بشكل عام طباعة للون الأبيض. مما اضطر المطبعة بالتالي أن تطبع لوناً أبيض بشكل استثتائي، مستخدمة في الطبعة الخاصة أسلوب الطباعة الحريرية.
ومن عناصر التكامل الرئيسة مع هذه الرسوم، هناك الحرف الخاص الذي صممه الخطاط مأمون محيي الدين، لاستخدامه في كتابة الاستشهادات والنصوص البارزة، مستوحياً إياه بشكل واضح من الكتابة المسمارية القديمة بما فيها من خطوط مستقيمة وزوايا حادة. وما بين الخطوط المسمارية والرسوم العنيفة، جاءت صفحات مطلية بالسواد لتحافظ على مناخ الظلمة الطاغي على الملحمة، والذي يلف ماضيها الغابر.
ثلاث رؤى نقدية من ثلاثة مداخل
عندما اعتلى الدكتور سعد البازعي المنصة ليلقي كلمته، عرف الحاضرون أنهم باتوا أمام متن نص الملحمة. وحسناً فعل الدكتور البازعي عندما ركز في كلمته على إيضاح أمر التبس على كثير من القرَّاء عندما وقع نظرهم على الغلاف وقرأوا تحت العنوان «ملحمة جلجامش» عبارة «قراءة خاصة» وليس ترجمة عبدالله صالح جمعة. وهذا ما أشار إليه البازعي في بداية كلامه بقوله: «يربك عبدالله جمعة قارئه حين يشير على غلاف إصداره إلى أنه «قراءة خاصة»، ليتبع ذلك في مقدمته بالقول إن الإصدار «ترجمة» فهل قصد المماهاة بين القراءة والترجمة؟ وما دلالة ذلك؟ هل أراد أن يقول لنا إن الترجمة هي في نهاية المطاف قراءة خاصة؟».
وفي مقارنة سريعة ما بين ترجمة طه باقر وترجمة عبدالله جمعة، رأى البازعي أن الأول بحرصه على الأمانة العلمية لمحتوى الألواح السومرية ومنهجه التوثيقي وكثرة الهوامش، خفف من خصوصية القراءة من ناحية، وبرر إعلان جمعة بأن سعيه مختلف عمن سبقه، الأمر الذي يتضح من قراءة النص في عربية تستمد خصوصيتها من بلاغة القرآن الكريم تارة ومن توسل روح الشعر العربي تارة أخرى، ومن جزالة اللغة الأدبية الموروثة تارة ثالثة، لتصبح الترجمة أو القراءة الخاصة مشروعاً يبتعد عن الترجمة بمفهومها السائد ليقترب مما يمكن أن ندعوه تعريباً لـ «جلجامش» بالمعنى الأوسع والأعمق للتعريب، أي إضفاء روح الثقافة العربية على ذلك العمل الموغل في العراقة السامية القديمة.
وبعدما ذهب البازعي إلى حد القول إن في هذه القراءة الخاصة خروجاً واضحاً وشبه معلن على النص الأصلي بسبب وجود مسحة قرآنية في النص الجديد، الأمر الذي ربما فهمه البعض أنه نقض لإعلان جمعة في مقدمة كتابه أن التعديلات والتغييرات الكثيرة التي أدخلها على الكتاب كانت في اللغة وليس في المضمون، عاد البازعي وقال «إنه من المبالغة القول إن اللغة القرآنية حاضرة في كل مكان من النص. فالترجمة هنا تسعى إلى شعريتها أيضاً عبر لغة جزلة ومتماسكة وموقعة بالوزن حيناً وبالجناس حيناً (سيدة الحب والدعة، والحرب والمعمعة)، لغة يسعى من خلالها المترجم إلى إعادة كتابة الملحمة من منطلق أن ترجمة الشعر لا تكون بالتتبع الحرفي وإنما بالتمثل المستمد من خصوصية اللغة المنقول إليها بحيث ينسى القارئ أنه يقرأ نصاً مترجماً. وفي هذا تتبع الترجمة مبدأ سائداً لدى كثيرين هو أن أفضل الترجمات ما ينسيك أنه ترجمة، وهذا دون شك هو من أكثر منطلقات الترجمة الأدبية حضوراً إن لم يكن أكثرها».
بعد هذه النظرة الأدبية المعمقة إلى الترجمة، قارب الدكتور سعيد السريحي في كلمته جانباً آخر من مضمون الملحمة، ومن زاوية أقرب إلى الفلسفة منها إلى الأدب. إذ رأى أن «النص التاريخي لجلجامش لم يكن وليد فكر يتخبط في المساحة الرمادية بين الأسطورة والتاريخ، بقدر ما كان نتاجاً للحظة تسعى لكي ترصد التحوُّل من الأسطورة إلى التاريخ». واصفاً إياها بـ «لحظة اكتشاف الإنسان لبشريته، ومن ثم سقوط ذاك الإنسان وحيداً في العالم… فوقتها كان انقطاع الحبل السري الذي يربط الإنسان بالوجود من حوله، فبات عليه أن يؤسس لنفسه وجوداً خاصاً به على الأرض التي لا مناص له من أن يعيش عليها ويموت فوق ترابها وهنا نلمس شيئاً من فلسفة الوجود».
ومن النقد الأدبي والفلسفي انتقل الباحث البحريني محمد الخزاعي بالحاضرين إلى مجال مختلف تماماً، ولكنه نظرياً، لا يقل أهمية عن سابقيه، إذ بات يشكل أحد عناصر علمي التاريخ والآثار في العصر الحديث، وهو الاعتماد على النصوص والملاحم القديمة أو الانطلاق منها، لإجراء عملية تقصي معاصرة إما لحقائق تاريخية غير مؤكدة حتى الآن، أو لتسجيل الاكتشافات الأثرية.
فكما كانت إلياذة هوميروس دافعاً أشعل حماسة علماء الآثار في القرن التاسع عشر للبحث عن مدينة طروادة البائدة، وتحققت بفعل هذه الحماسة اكتشافات أثرية بالغة الأهمية في محيط بحر إيجة. يبدو أن «ملحمة جلجامش» تُلهب اليوم طموحات البحاثة وعلماء الآثار في المنطقة بحثاً عن الأماكن التاريخية التي قد تكون قد شكلت مسارح فصولها.
وفي هذا المجال لفت الخزاعي إلى «أن الحضارة السومرية التي توسطت حضارات العالم القديم كانت تمتد جنوباً إلى ما كان يُعرف بحضارة دلمون، وأن ملحمة جلجامش كان مسرحها مدينة أوروك السومرية.. ومن هنا فإنه يفترض أن البحر الذي ارتاده جلجامش في رحلته بحثاً عن زهرة الخلود التي قيل إنها كانت تنبت في قاع البحر كان بالقرب من البحرين».. وأورد الخزاعي سلسلة من الاستشهادات النظرية حول دلالات مسميات الأماكن، في محاولة منه لأن يثبت (أو يرجّح) أن رحلة جلجامش امتدت حتى جزيرة دلمون، وأن البحر الذي غطس فيه لاقتلاع عشبة الخلود ما هو إلا بحر البحرين في الخليج العربي..
بعد هذه النظرية التي تبقى برسم الباحثين وعلماء الآثار لتأكيدها أو نقضها، عادت الأمسية إلى «ملحمة جلجامش، قراءة خاصة». فألقى صاحبها كلمة مختصرة ذكَّر فيها بدوافعه إلى ترجمتها، وبأمور سبق له أن أوردها في مقدمة الكتاب، شاكراً كل الذين عاونوه على إنجاز هذا العمل، لافتاً بشكل خاص إلى مساهمة الأستاذ محمد عبدالحميد الطحلاوي القيِّمة «الذي كانت له ملاحظات قيِّمة على ما كان في النص من هفوات».
وبموازاة تجوال الحضور على المعرض الذي ضمَّ لوحات الفنان صبير والخطاط محيي الدين، وعلى أنغام عزف على آلة «القانون» للعازف عبدالعزيز أبو السعود، وآلة «الشللو» للعازف حمد خليفة، وقَّع عبدالله جمعة نحو 300 نسخة خلال الحفل، ذهب ريعها لصالح برنامج القارئ الصغير الذي تقدمه الجمعية للأطفال.