حياتنا اليوم

إلى المستمعين فقط
هذا صوت الراديو يحييكم

  • tv
  • Radio-01
  • Radio-02

تعرف الأجيال الحديثة ماذا كان يعني الراديو لآبائهم وأجدادهم مطلع القرن الماضي. ولا يبدو الأمر مقنعاً حين يجادل أحد في شراء راديو أو يشير إلى موضوع في الإذاعة. وقد يستخف أبناء اليوم بجمهور الراديو ومحبيه.
هنا يستعيد فريق تحرير القافلة مزايا عصر الراديو وبرامجه.. وربما عودته الجديدة!

حين تكون العين في صحوتها الأولى تغالب النعاس تحت أجفان مغلقة، تكون الأذن في حالة صحو كامل، فتدفع اليد نحو جهاز الراديو الصغير المستلقي على الوسادة، لتبدأ رحلة السماع اليومية بأنغام الصباح الأولى، التي غالباً ما تختارها الإذاعات الناجحة من بين مقطوعات موسيقية هادئة، أو مقطوعات غنائية هادئة وقصيرة، بعيداً عن نماذج الغناء المطوّل أو الغناء الصاخب.

وتستمر رحلة الاستماع بعد ذلك داخل الحمام (إذا كنت عاشقاً للراديو) أو داخل سيارتك، إذا كنت متوجهاً إلى مركز عملك، فإما أن تتابع الاستماع إلى موسيقى وأغاني الصباح الهادئة السريعة الخفيفة، تماماً كوجبة الطعام الصباحية، أو تبحث بمؤشر المذياع عن نشرة إخبارية تضعك في دقائـق قليلة أمــام ما يحــدث في العــالم، القريـب منك والبعيد.

ومع أن نشرة الأخبار التلفزيونية تتفوق بإسنادها الخبر إلى الصورة الملونة الواقعية المباشرة في معظم الأحيان، فإن ميزة النشرة الإخبارية الإذاعية، خاصة في لحظات ما قبل الظهر، أنها تضع أمامك المعلومات نفسها، ولكن بمزيد من الهدوء الذي يترك لخيالك تصور المشاهد التي تتحدث عنها الأخبار. لذلك يردد الخبراء كثيراً عبارة تؤكد أن لحظات المساء المبكر هي لحظات الذروة في المشاهدة التلفزيونية، لأنها اللحظات التي تتوج النشاط الإنساني اليومي، وتسبق لحظات الاسترخاء فيما قبل النوم. أما اللحظات الأخرى من النهار فما زال الراديو سيد الموقف فيها.

مادة الغناء والموسيقى، ما زالت في الراديو تستحوذ على رصيد يحتفظ به هواة متذوقون، فالأغنية التلفزيونية تعتمد الحركة والرقص والصخب والألوان والزركشة، مما أوجد تمايزاً حقيقياً بين الرصيد الغنائي والموسيقي الإذاعي، والرصيد المقابل في التلفزيون، حيث ما زالت الغلبة في القيمة والجودة للرصيد الإذاعي. غير أن من أكثر ما يشد الأذن إلى المذياع، ذلك الفن الذي ينفرد به الراديو، وهو فن التمثيليات الإذاعية، فهو فن تتركز كل مزاياه وكل صعوباته الكتابية والتمثيلية والإخراجية في نقطة واحدة هي حاسة السمع.

ومع أن ذلك يعد مصدر الصعوبة فيه، إلا أنه مصدر مزية خاصة لا تجدها إلا في التمثيليات الإذاعية، فلأن كاتب النص يتوجه بقلمه إلى الأذن وحدها، والممثل يتوجه بنبرات صوته إلى الأذن وحدها، والمخرج يتوجه بتحريك النص والممثل والمؤثرات الصوتية كلها باتجاه الأذن وحدها، فإن هذه الخصوصية تحرض في الكاتب ملكات خياله الفني كاملة، وتستنفر الممثل ليستخرج من أعماق أحاسيسه وأعماق نبراته الصوتية كل ما يستطيع أن يلوّن به النص، ويجسد كل أبعاده، من خلال منبع واحد هو الحنجرة، المتوجهة إلى مصب واحد هو الأذن. كل هذه الفنون الإذاعية تجعل الراديو أشبه بالكتاب، ولكنك تطالعه بالأذن لا بالعين، كما أن كل صفحة من صفحاته تنقلك إلى موضوع آخر وأفق آخر، مما يسهل عليك تقليب “الصفحات”، كلما أمر مزاجك بذلك، لا فرق بين أول الكتاب وآخره، بطريقة لا تنقطع المتعة معها بل تتواصل.

هناك سرٌّ ما، قد لا تكفي مقالات التحليل العلمي وحدها للكشف عنه، لعله سر جاذبية الأذن، الذي يغلب سر جاذبية العين. التلفزيون عندما يخاطب العين بالصورة الملونة المتحركة، عن أي حدث إخباري أو ثقافي أو ترفيهي، لا يترك للمشاهد مساحة ـــ ولو ضيقة ـــ لتسريح خياله ومشاعره الخاصة، ولكنه يكشف له عن كل شيء، بفضائحية كاملة (إذا صح التعبير) وبلا أي حرص على الخيال الخاص للمشاهد، وذوقه الخاص، وخلفياته الثقافية الخاصة، إضافة إلى أحاسيسه ومشاعره.

أما أذن المستمع المشدودة إلى جهاز الراديو، فتدخل مع ذلك الاختراع القديم، (الذي لم تتوقف أشكاله الجديدة عن التطور حتى أصبحت بحجم علبة الثقاب، ترافقك إلى الحمام وإلى الشارع ووسادة النوم)، تدخل الأذن مع هذا الجهاز القديم – الجديد في علاقة حميمة لم يستطع التلفزيون (مهما صغر حجمه) اقتحامها، ناهيك عن إلغائها. ولعل من المواقع السحرية النادرة لمتعة الاستماع إلى الراديو، السيارة، التي ينشدُّ فيها سمعك إلى محطات الإذاعة المختلفة، بينما يبقى بصرك سارحا فيما حولك من مشاهد متغيرة، يمارس مهمة التأمل، ومهمة الالتزام بشروط سلامة القيادة .

هذه العلاقة الحميمة ما زالت قادرة (برغم كل ما طرأ على فنون الإنتاج التلفزيوني من تطور) على أن تأخذ خيال المستمع وأحاسيسه إلى مجالات ما زال التلفزيون عاجزاً عن ارتيادها، ولعله سيبقى من هذه المزايا للراديو:

– نشرة للأخبار يمكنك الاكتفاء بموجزها.

– أغنية قصيرة أو طويلة، أو مقطوعة موسيقية، يمكنك الاسترسال معها ما شاء لك مزاجك، والانتقال إلى غيرها بسلاسة وأنت مغمض العينين.

– نص أدبي مكتوب أو حوار في قضية تهمك متابعتهما متحرراً تماماً من كل ما يفرضه الإخراج التلفزيوني من إبهار، غالباً ما يشغلك عن الموضوع الأساس الذي ترغب التركيز في متابعته.

أنت مع الراديو سلطان زمانك، تتصل بالعالم عبر حاسة واحدة من حواسك: السمع الذي يصبح قناة تصلك بالعالم كله ولكنها تترك لك كل مشاعرك الداخلية وأحاسيسك وانفعالاتك الوجدانية، وخيالك. تترك كل ذلك ملكاً شخصياً لك لا يقتحمه عليك أحد، تصله أنت بما تشـاء من بث إذاعي هادئ الصوت في غالب الأحيـان، بل هامس النبرة إذا شئت (هذا مستحيل في التعامل مع التلفزيون) وتقطع الاتصال في أية لحظة تشاء وبهدوء ودون أي جهد أو انفعال، منتقلاً إلى اتصال آخر، أو مُخْلِداً إلى نوم بوسعك أن تتسلل إليه رويداً رويداً، وصوت الراديو يهدهد لحظات غفوك الأولى، ويغلفها بمشاعر الخدر اللذيذ، وقد يؤدي لك دور المنبه في صباح اليوم التالي، إذا لم تمتد إليه يدك، لإقفاله قبل النوم.

– التلفزيون .. الجليس اللجوج
كم مرة يتنبه صاحب البيت وضيوفه إلى أن تبادل الحديث كان صعباً، بل مستحيلاً مع الصخب والضوضاء الخارجة من الشاشة التي تشد حواسهم، فيضطرون في نهاية الأمر إلى ضغط زر الموجة وإطفاء التلفزيون .. ثم يعدلون جلستهم .. يتنفسون الصعداء ويستأنفون الحديث. وكم من الناس خفّض صوت التلفزيون وترك صورته لإكمال عمل ما!
في الحالتين التلفزيون هو الجليس اللجوج أبداً.

– مشاهدون ومستمعون
مع ظهور التلفزيون تحول الناس من مستمعين إلى مشاهدين، وتحولت برامج ما يطلبه المستمعون إلى ما يطلبه المشاهدون ، واليوم يتبادلون الحديث عما شاهدوه أمس وليس عما سمعوه أمس من الراديو. جمهور التلفزيون جماعة وجمهور الراديو أفراد، لكن بقليل من البحث نكتشف وجود مستمعين للراديو في غفلة من الآخرين. إنهم مستمعون سرّيون، شكّل الراديو جزءاً مهماً من متعهم الحميمية الخاصة التي
لا يفصحون عنها إلا بعد استجواب!.

– روتين الدوام التلفزيوني
المشهد يتكرر يومياً: الدخول إلى المنزل، الجلوس أمام التلفزيون بعد التزود ببعض المسليات، تستمر الجلسة التي لا تنتهي إلا بالنوم. ألم يدخل التلفزيون غرف النوم؟ ومع اتساع الاختيار يزداد هذا الروتين ضراوة، ملغياً كل اهتمام أو التفات إلى شأن آخر، فكم من عمل أو موعد تأجل وكم من متع خسرناها: تبادل الحديث، الألعاب المنزلية، شؤون البيت، القراءة، وما أدراك ما خسارة عادة القراءة!

– سمعاً ونظراً!
تكمن سطوة التلفزيون في أنه يشدّ النظر إلى جانب السمع، على العكس من الراديو الذي يشغل حاسة السمع فقط. ولسبب ما يبدو الراديو أقرب للقراءة من التلفزيون وكأن الاستماع يُدخل الأفكار إلى العقل والقلب بل كأن أحداً يقرأ عليك و أنت تتأمل!
أخيراً … ما بالك بالمكفوفين وضعاف البصر الذين
لا سلطان لهم على التلفزيون…:؟!

– فضائيات ما قبل الفضائيات!
تفخر المحطات التلفزيونية بأنها تحولت إلى فضائيات، في حين أن المحطات الإذاعية فضائية منذ زمن بعيد. لسبب ما نرى المحطات التلفزيونية متشابهة في الأسلوب والمضمون، فقيرة في الابتكار، و هو ما لم تكن تواجهه المحطات الإذاعية التي كانت تحتفظ بشخصية أكثر خصوصية، ربما لأن فضاء اختياراتها أوسع وهي ليست مضطرة للحشو أو الاستعراض وحديثها ومحدثوها أكثر لباقة ودقة، وبرامجها جلسات أُنس ممتعة حيث لا أضواء ولا حركة كاميرات أو جبال ديكور، ويمكن إعادة بث البرامج بسهولة ولو بعد سنين. لقد استمرت الإذاعات في تقديم جرعات ثقافية رفيعة بينما غرق التلفزيون في ساعات بث زائدة .
وربما نستطيع تشبيه الأول بالتصوير الملون والثاني بالتصوير الأبيض والأسود، واليوم تعود صورة الأبيض والأسود لتحتل المكانة التي تستحق كصورة تتمتع برونق لم تستطع الصورة الملونة أن تحظى به!

– مع الراديو
يشكل الراديو صديقاً وفياً خفيف الظل تحصل معه على متعة بأقل كلفة .. بطاريات رخيصة .. مرونة في الموقع والحركة .. حيّز أقل وخيارات أكثر. كما كان الراديو يحتل مكاناً طبيعياً في البيت مغنياً ومطرباً أو متحدثاً لبقاً أو معلماً لطيفاً يقودك بلا كلل لعالم غني بالمعارف والمتع. والمستمع العريق يحتفظ دائماً بقائمة خاصة من البرامج والمحطات في أوقات مختارة.
فالقاهرة مثلاً لسهرات الأغاني، و(هنا لندن) للأخبار والتحليلات، أما إذاعتي المحلية فهي لأخبار وبرامج بلادي المنوعة. وكثيراً ما عشق الناس مذيعين ومذيعات من أصواتهم .. بعضهم صدم عندما شاهدهم في التلفزيون أو التقاهم شخصياً و الأذن تعشق قبل العين .. !!

العودة بقوة
راديو الإنترنت:
يلتقط البث الإذاعي المباشر من الإنترنت كما يمكنه التقاط البث المحفوظ سابقاً على الشبكة

الراديو الفضائي
يلتقط البث الإذاعي من الأقمار الصناعية ولأنه رقمي يتيح الفرصة لأكبر عدد من المحطات للبثّ بوضوح تام

سكوت .. استماع .. شيء من التاريخ
الولايات المتحدة، مطلع القرن العشرين .. سدّد الجمهور المحتشد نظرات متجهمة لرجل يقف في قفص الاتهام، بينما دوّى الصوت الصاخب لممثل الادعاء وقد أمسك في يده بأنبوب زجاجي منتفخ محشو بالأسلاك: سيدي القاضي .. حضرات المستشارين، لقد غرر هذا المتهم بعشرات الأشخاص الذين ساهموا معه في شركة لإنتاج جهاز (راديو) لنقل الموسيقى والصوت عبر الهواء.. إنني..

هكذا وبحرارة تم استقبال أول صمام زجاجي سيكون له الفضل في انطلاقة البث الإذاعي وتحويله من مجرد نظريات وتجارب علماء إلى حقيقة مسموعة .. فالمحكمة على أي حال أدانت الرجل (دي فورست) وأقرت بإعادة أموال المساهمين الذين خدعهم.

بدأ الراديو مسيرته على حياء ولمعات من هنا وهناك لعلم الفيزياء. افترض ماكسويل نظرياً وجود الذبذبات التي تصدر عن أي توتر كهربائي مسافرة في الفضاء، وجرب هيرتز الفكرة على المحك في عام 8881م. ماركوني أرسل موجات الراديو عبر المحيط الأطلنطي ونقل الصوت من بريطانيا إلى أستراليا في عام 4291م .. و (دي فورست) أنشأ إذاعة. وفي العشرينيات نفسها ظهرت محطات الإذاعة.

في السنوات الأولى للإرسال الإذاعي كان من المألوف حتى في مدن عريقة مثل لندن ونيويورك أن ينتظر الناس وهم في كامل زينتهم بدء بث السهرات الموسيقية في المناسبات الاجتماعية ليستمتعوا بالرقص حيث دأبت المحطات على تقديم سهرات غنائية تمتد لساعات طويلة.

في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية عرف الراديو الاستخدام الواسع في مجال الدعاية السياسية، وبالتدريج كسب الراديو أراضيَ جديدة بينما استمر تطوره التقني بعد اختراع الترانزيستور في معامل بل الأمريكية في أواخر الأربعينيات فأصبح الراديو أصغر حجماً وأكثر كفاءة وأقل استهلاكاً للطاقة. كان الراديو الترانزيستور أعجوبة تلك الأيام.لم يتوقف تطوره حتى بعد دخولنا عصر البث الرقمي..

أضف تعليق

التعليقات