لم تنعم المكتبات العربية في تاريخها، وخصوصاً في حاضرها، بالرعاية التي حظيت و تحظى بها مثيلاتها في بلدان الغرب المتقدم. وما فتئ المشتغلون بشؤون المكتبات والمعلومات يشعرون بالتخلف والقصور. ففي فترة ما قبل التطورات التكنولوجية والإلكترونية الحديثة كان التخلف ظاهراً، إذ دأب العاملون في المكتبات على اقتباس وتطبيق ما كان يتم إنتاجه من نظم في الغرب على المكتبات العربية، بينما عانت الإسهامات العربية في هذا المجال من الندرة، ربما باستثناء ما جاء به من المملكة العربية السعودية، الأستاذ ناصر السويدان، والمتعلق برؤوس الموضوعات حيث أسس أسلوباً موحداً لتبويب الكتب العربية.
وقد أصبح هذا الشعور بالتخلف والقصور أشد وطأة وقسوة في الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي عند إدخال أنظمة المعلوماتية الإلكترونية الحديثة، فقد أيقن صناع المعلومة العربية أن هذه الأنظمة تختلف اختلافاً جذرياً عن سابقاتها التقليدية وتتصل بالعقلية والسلوك والعلاقات الاجتماعية، أي أنها تتصل بما هو خارج طاقاتهم وإمكانياتهم على التغيير.
ففيما يختص بالمكتبات، فإن أنظمة المعلوماتية هي مجموعة من الوظائف المتعددة الاختصاصات، المتداخلة والمترابطة فيما بينها بشكل تسلسلي حيناً ومتواز أحياناً أخرى. إطارها برنامج إليكتروني يتوخى تخزين المعلومات والقيام بعمليات متنوعة ذاتية الحركة لتسهيل عملية الوصول إلى المعارف وإدارتها.
وبما أن هذه الوظائف تتعلق باختصاصات متنوعة وكثيرة كعلم الكومبيوتر والمطبوعات والمعلوماتية على أنواعها وعلم المكتبات التقليدي والخطط المنطقية والإحصاءات، بالإضافة إلى الثقافة العامة القادرة على فهم مختلف الموضوعات وعلاقة بعضها ببعض وبعلم المشتريات والاقتصاد والمحاسبة، فإن الفريق المثالي لإدارة وتشغيل هذه الأنظمة إنما يكون بشخص واحد قادر على القيام بكل هذه الاختصاصات. وبما أن ذلك متعذر الوجود، وجب أن يكون هناك فريق من العاملين متجانس ومتعاون يقوم مقام هذا الفرد الواحد.
والحال أن هذه الأنظمة المعلوماتية هي أحد رموز الحضارة والثقافة الغربية، بل إنها تمثل العصارة الفكرية والعلمية لعقود من الأبحاث والتجارب والمؤتمرات والمنشورات التي كانت تتدفق كالطوفان في كثير من هذه المجالات. إن هذا الفريق العامل هو نفسه، رغم أن نشوءه سابق لذلك، أحد الظواهر الأساس لهذه الإفرازات الحديثة، بل إن هذا الفريق يُختزل بالخصائص الكثيرة التي يتمتع بها في كثير من المجالات، ابتداء من الإدارة الحديثة وانتهاء بعلم النفس الفردي والاجتماعي، الحضارة المعاصرة. فمن السمات الأساسية، التي يتمتع بها هذا الفريق المفهوم الحديث للتراتبية، التي أصبحت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة وأصبحت أيضاً شديدة الحركة وقابلة للتغير. كما يمتلك هذا الفريق خصائص التعلم في العمل والتعلم المستمر والاعتماد على الإبداع الفردي والجماعي أكثر من اعتماده على تطبيق قواعد أوقوانين سابقة وجاهزة.
والاعتقاد السائد على نطاق واسع عندنا، حتى بين المشتغلين بالمكتبات والمعلوماتية، أن هذه الأنظمة هي نوع من الأولويات الجاهزة التي لا تتطلب سوى تحريك فأرة الكومبيوتر وهو اعتقاد خاطئ، فهذه الأنظمة ليست سلعة كباقي السلع التي اعتدنا على استيرادها، والتي يمكننا استعمالها دون معرفة تفاصيل بنيانها الداخلي. يجب على الفريق العامل أن يستوعب تركيب هذه الأنظمة الداخلية استيعاباً عميقاً بحيث يشعر بأنه هو نفسه من أنتج هذه النظم، فالمستهلك هنا يتماهى مع المنتج.
ربما كانت ظاهرة التماهي هذه من أهم ظواهر عصر المعلوماتية وإدارة المعارف. العولمة من جانب آخر لم تلغ المسافات الجغرافية فحسب، بل ألغت أوتلغي الفارق الكبير بين المنتج والمستهلك وإذا لم نتمكن من أن نأخذ مكاناً في هذه المعادلة، ربما أصبحنا خارج الحضارة. هذا في حين أن «المعرفة » عندنا بكل أسف مرتبطة بالمنصب أوالمركز أوالشهادة . والشهادة أصبحت بمثابة مادة من مواد التحنيط التي تعيق صاحبها عن التعلم المستمر وعن الإبداع وتحول دون تعاون صاحبها مع فريق العمل.
باختصار شديد، لقد فشلنا في تشكيل فريق عمل، فمحاولة تشغيل هذه الأنظمة بالعقلية والعلاقات الاجتماعية السائدة التي تُغلب – في أحيان كثيرة – اعتبارات معينة على اعتبارات العلم والمستوى المهني والثقافي والشعور بالمسؤولية الاجتماعية، ابتداء من أوقات الدوام وانتهاء بتغليب المصلحة الخاصة على نتائج العمل على صعيد المؤسسة والمجتمع، كل ذلك أدى إلى أوضاع مأساوية في مكتبات أهم المراكز الثقافية والتعليم العالي في منطقتنا العربية وأكثرها عراقة.