الثقافة وفرادة الهويَّة
في يوم الوطن
د. جاسر بن سليمان الحربش
الرئيس التنفيذي لهيئة التراث
نحتفل في 23 سبتمبر الموافق للأول من الميزان باليوم الوطني لتوحيد المملكة، مسيرة من النماء والمجد، بدأت منذ إعلان الملك المؤسِّس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، طيب الله ثراه، توحيد البلاد عام 1932م في مرسوم ملكي، لتبدأ رحلة الازدهار والنمو التي تشكَّلت بعزيمة القيادة وطموح أبناء هذا الوطن المعطاء.
توحَّدت الأرض تحت راية التوحيد، وسكنت القلوب في جسد واحد يعبِّر عن الشكل الإنساني للوطن في حكاية تتجدَّد فصولها كل يوم، وصفحات تُسطَّر بالإنجازات في كل لحظة. تسعون عاماً من التكاتف والألفة والأحلام والوصول إلى منصات الصدارة على مستوى العالم، تراث ثقافي تناقلته الأجيال وفاءً للمكان وحفظاً لإرث الأجداد، عبر هوية سعودية عريقة التنوُّع تجتمع وتتناغم لتشكِّل صورة فريدة الأوصاف وواسعة الأفق.
في يوم الاحتفاء بالوطن، نستعيد الأمجاد ونجدِّد الولاء ونغوص في ذاكرة حيَّة وثرية رسمتها خطوات الرجال الذين مهَّدوا الدروب بمرونة تُذيب الصخر ونخوة ترفع الرأس، ومنحونا التراث وديعة للأجيال المقبلة بكل ما يحتويه من العادات والتقاليد والقِيم والآداب والمعارف المادية والحسية، متضمناً القصص والحكايات الشفهية والأساطير والأشعار والألعاب والأغاني والأمثال والفعاليات والفنون والحِرف، واللباس وأدوات الزينة والأكلات الشعبية والقهوة العربية والتراث العمراني، ولكل من هذه العناصر ملمس خاص وتفاصيل تعبِّر عن الثراء المناطقي والتنوُّع الملهم للثقافة السعودية.
وفي الواقع، يُعدُّ التراث السعودي عنصراً أساسياً في تكوين الثقافة السعودية عبر امتلاكه خصوصية تراكمية تتطوَّر وتحافظ على تكوينها الأساسي، أصالة وحداثة في الوقت نفسه تظهر على صورة نمط حياة وسلوك فطري وعفوي للمجتمع السعودي. ويبدو الاختلاف في كل سمة من سمات التراث السعودي مصدر قوة استجابة للظروف الطبيعية للمكان والمناخ والجغرافيا. ويأتي تقسيم مناطق المملكة إلى 13 منطقة، تتباين كلٌّ منها في المناخ والبيئة والتراث وحتى في العادات والتقاليد، ليكون دليلاً على تعدُّد الوجهات والمظاهر التراثية الثقافية.
وتأتي نهضة التراث السعودي اليوم في التنبُّه له وملاحظة قوالبه والتعاطي معه وليس في استعماله باعتباره موجوداً وفاعلاً فقط، ولكنه لم يخضع للدراسة والتطوير والمراجعة من قبل، حتى قرَّرت المملكة إحداث نقلة نوعية بتحويل النظرة إلى التراث الوطني ليكون مصدراً للاعتزاز ورافداً اقتصادياً إضافة إلى دوره في ترسيخ الانتماء والمواطنة، بدءاً من امتلاك رؤية فاعلة للنهوض بالتراث الوطني، مروراً بدعمها المتواصل لكافة الجهود الدولية المعنية بحماية التراث العالمي، وصولاً إلى خطوات فاعلة وملهمة، يساندها فوز المملكة العربية السعودية للمرَّة الأولى بعضوية لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونيسكو”، وذلك بعد أيام من عضويتها في المجلس التنفيذي للمنظمة في العشرين في نوفمبر 2019م، ليكون ذلك بمثابة تأكيد دولي على المكانة المتميِّزة التي حققتها المملكة في مجال الاهتمام بالتراث الوطني، وكذلك إشارة إلى دعم المملكة للمنظمات الدولية والإقليمية العاملة في مجال حماية التراث وصوْنه وتطويره.
ويضاف إلى ذلك تسجيل خمسة مواقع تراثية سعودية في قائمة التراث العالمي باليونيسكو، وتسجيل منظمة اليونيسكو في فبراير 2019م الجمعية السعودية للمحافظة على التراث “نحن تراثنا” منظمة دولية غير حكومية في مجال التراث، لتصبح بذلك ثاني منظمة سعودية غير حكومية تُسجَّل لدى اليونيسكو، والأولى عربياً في مجال التراث. وقبل ذلك عضوية المملكة في اتفاقية التراث العالمي منذ عام 1978م، كجزء من الالتزام بدعم الجهود الدولية لحماية مواقع التراث البحري والعجائب الطبيعية حول العالم.
وقد تكفَّلت رؤية المملكة 2030 بعناية خاصة بالتراث الوطني، بغية تحقيق تنمية شاملة متكاملة في جميع المجالات وعلى المستويات كافة. وبذلك تطوَّرت النظرة إلى التراث الوطني وأصبحت أشمل مما كانت عليه. فإلى جانب دور التراث في ترسيخ الانتماء الوطني وتعزيزه لدى المواطن، أضحى له دور اقتصادي مهم، وبما يثبت أهمية إحياء مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي وتسجيلها دولياً، وتمكين الجميع من الوصول إليها بوصفها شاهداً حياً على إرث السعودية العريق، وعلى دورها الفاعل، وموقعها البارز على خريطة الحضارة الإنسانية، خصوصاً لأن المملكة أرض الكنوز الثقافية والتراثية التي احتضنت عديداً من الحضارات الإنسانية والغنية بإنسانها وتاريخها، ونتج عنها تراث بأوجهه المادية وغير المادية المحفّزة على العناية والتطوير والاكتشاف، وفي مجالات عدَّة تبرز بشكل ملموس من خلال مهرجان الجنادرية وسوق عكاظ وغيرها من المناسبات الثقافية الوطنية.
ويعكس هذا الاهتمام بالتراث صورة أكبر لنهضة ثقافية شاملة تعيشها المملكة في العهد الزاهر تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد الأمين – حفظهما الله – وفي ظل الرؤية الطموحة، رؤية السعودية 2030، التي تؤمن بقوة الثقافة وقدرتها على تحقيق التنمية المستدامة، وبناء مستقبل غني تنمو فيه مواهب الإنسان وتحقِّق أحلامه وطموحاته.
.. وفي يوم الوطن..
العمارة نافذة التاريخ الوطني
د. سمية بنت سليمان السليمان
الرئيسة التنفيذية لهيئة فنون العِمارة والتصميم
بمناسبة اليوم الوطني التسعين لتوحيد المملكة العربية السعودية على يد المؤسِّس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيّب الله ثراه -، يسعدني أن أنتهز هذه الفرصة للتعبير عن مدى فخري واعتزازي بإنجازات هذا الوطن المعطاء، وأعبِّر أيضاً عن فائق امتناني لكوني أعيش في المملكة العربية السعودية وفي ظل قيادتها الحكيمة.
تعيش المملكة اليوم نهضة ثقافية وحضارية بلغت مستوىً عالياً من الازدهار في شتَّى القطاعات الثقافية تحت إشراف وزارة الثقافة التي صمَّمت مشروعاً للنهوض الثقافي بمعايير عالمية مواكبة للمرحلة الراهنة للفنون الإبداعية. وبقراءة الواقع الثقافي اليوم، أستطيع القول إن المملكة أحرزت تقدُّماً ملحوظاً في مدة وجيزة، عملت خلالها على إنشاء البُنى التنظيمية للقطاعات الثقافية، ووضعت الأساس للانطلاق بمجهودات إبداعية وتقنية عالية المستوى بتضافر جهود المبدعين السعوديين في كافة التخصصات الثقافية.
العمارة ليست صناعة فقط، بل هي فن ومكوّن اجتماعي وحضاري أيضاً. وعند مقارنة الشواهد المادية التي يصنعها الإنسان، تأتي العمارة في مقدِّمتها بوصفها الشاهد الحضاري الأوسع حضوراً في حياة المجتمعات بالمقارنة مع وسائل التعبير الثقافية الأخرى، وتجسِّد الهوية البصرية الأوضح لأي دولة أو مدينة. وضمن هذا السياق، تسعى العمارة والتصميم بفنونها لما هو أكثر من هوية بصرية، لأن طريقة تشكيل المدن وتخطيطها تؤثر على طريقة تفاعل البشر مع بعضهم فيها، إلى جانب تسهيل الحياة اليومية وحل المشكلات البيئية والاجتماعية التي يفاقمها التوسُّع العمراني والزيادة السكانية وطبيعة المناخ والتضاريس.
وقد فطنت المملكة لأهمية العمران ودوره منذ عقود سابقة، وبدأت بإدراجه في البرامج التعليمية للدراسة في جامعاتها، كما وضعته ضمن خطط رؤية 2030 التي تدعو إلى المحافظة على الهوية كمكوّن أساسي للتطوُّر الاجتماعي والاقتصادي، لترسيخ الهوية الثقافية للمملكة، ولتحسين جودة الحياة والمشهد الحضري بشكل عام. ويأتي إنشاء وزارة الثقافة لهيئة متخصصة تحت اسم “هيئة فنون العمارة والتصميم” كمؤشر كبير ومهم لما يحظى به هذا القطاع من اهتمام على أعلى المستويات، انطلاقاً من الإيمان بأهمية العمران وضرورة دعم القطاع وتطويره وتمكين المواهب الوطنية المتخصصة فيه.
إن التطوُّر المتنامي الذي يشهده الوطن في ميادين العمارة والتخطيط الحضري، وارتفاع مستوى الاهتمام به، وإنشاء هيئة متخصِّصة فيه لرعايته وتنميته، كلها علامات على النهضة الثقافية التي يعيشها وطننا الغالي في ظل رؤية الخير والنمو؛ رؤية السعودية 2030 التي قرنت التطوُّر المادي والاقتصادي بالتطوُّر الإنساني، وأولت المجالات الإبداعية عناية كبيرة لانعكاسها المؤثر على مسيرة التنمية الحضارية.
في يومنا الوطني المجيد لا بدَّ من أن نُدرك أبعاد هذه النهضة الثقافية، ولا بدَّ من أن نستذكر معاً – كمهتمين بالعمارة – شكل هذا المكان والتحوُّلات التي مرَّ بها وطننا الغالي على امتداد أيامه، لأن هذا التذكر – أو الوعي – جزء تاريخي مهم ونقطة أساسية ننطلق منها في رحلة بناء المستقبل. إن دراسة المكان بتشكلاته العمرانية المختلفة عنصر مهم في دراسة التاريخ الوطني بمختلف اتجاهاته المادية وغير المادية.
لقد تميَّزت كل منطقة من مناطق المملكة قديماً بطرازها المعماري الخاص الذي يعبِّر عن ذائقة فنية متفرِّدة تعتمد على مواد بناء وأساليب تطوَّرت محلياً، وخلقت حلولاً معمارية تناسب الظروف البيئية لكل منطقة باختلاف مناخها وتضاريسها ومواد بنائها، من منازل الطين وحتى القصور والصروح المشيَّدة بالحجر إلى البناء الإسمنتي، ومن نمط البناء “المجتمعي” إلى ممارسة العمل المعماري “المحترف”، حيث أدَّت التحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية إلى تغيُّر شكل العمران منذ ذلك الحين وحتى الآن، مثل ظهور النفط الذي كان منعطف التحوُّل الأهم في شكل العمران، وظهور تصاميم معمارية لا تمثِّل منطقة بعينها ليطغى وهج التجديد على الساحة، وموجة التمدُّن في الانتقال من الريف والبادية إلى المدن الكبرى وغيرها من الأسباب التي لا يتسع المجال لذكرها.
لهذا كله تُعدُّ قراءة العمران وتأمل تفاصيله وسيلة لمعرفة هوية الوطن، وهوية الإنسان الذي صنع هذه التنويعات العمرانية العديدة. ودورنا في هيئة فنون العمارة والتصميم أن نعمل انطلاقاً من هذه الهوية الوطنية وندعم طموحات المعماريين الرامية إلى تعزيز هذه الهوية وتنميتها وتطويرها، وذلك لمواكبة النهضة الثقافية الشاملة التي يعيشها الوطن الغالي في مختلف المسارات الإبداعية، والتي تنهض على جهود مبدعي الوطن ورؤاهم الطموحة نحو وطن معطاء مؤثِّر ومُلهم ومتقدِّم حضارياً وثقافياً وإنسانياً.
اترك تعليقاً