مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2020

مدينة الخمس عشرة دقيقة


إننا نعيش حياة محمومة بالتنقل، ولا يبقى لنا سوى القليل من الوقت لقضائه مع عائلتنا وأصدقائنا. ووسائل النقل التي نستخدمها تلوث الهواء. ولكن، ماذا لو تمكنَّا من إيجاد وضع مختلف جديد نستعيد فيه وقتنا وصحتنا ورفاهيتنا وحتى مجتمعاتنا؟ هذه هي الفكرة وراء مفهوم مدينة الخمس عشرة دقيقة، التي هي في أساس حركة حديثة متنامية لجعل حياتنا أريَح وأقل توتراً وأكثر استدامة.
أول من طرحت هذه الفكرة هي عمدة باريس آنا ماريا هيدالغو التي أرادت أن تحوِّل المدينة إلى مجموعة من الأحياء الصديقة للبيئة، ولكن مدينة الخمس عشرة دقيقة انبثقت في الأصل من رؤية وضعها البروفيسور كارلوس مورينو من جامعة السوربون، كحل لارتفاع نسبة التلوث في مدينة باريس.
تقول الفكرة، باختصار، إن الضروريات الحضرية اليومية يجب أن تتوفَّر لأي شخص على مسافة 15 دقيقة سيراً على الأقدام أو بالدرَّاجة، بحيث تتجمع الخدمات الأساسية كالعمل والسكن والتسوق والتعليم والرعاية الصحية في دائرة قريبة، بالإضافة إلى توفر الخدمات التكميلية بما في ذلك مراكز النسخ والطباعة ومتاجر اللوازم المكتبية وخدمات الشحن، وشركات المحامين، والخدمات المصرفية ومراكز اللياقة البدنية والمطاعم والمقاهي ومراكز الترفيه الأخرى.

عمدة باريس آنا ماريا هيدالغو


والجدير بالذكر أنه لا يوجد شيء جديد فعلاً في المفهوم الأساسي الذي تركِّز عليه مدينة الخمس عشرة دقيقة. إذ كان دعاة التجديد الحضري، لا سيما الناشطة والمؤلفة الكندية جين جاكوبز، قد نادوا بتقريب المسافات في المدن من أجل جعلها أكثر حيوية. كما كان النشطاء الداعين للمحافظة على التراث يحاولون الترويج لإعادة تنشيط الأحياء المحلية بالسعي إلى إعادة طريقة الحياة إلى ما قبل ظهور المتاجر الكبيرة والتسوق عبر الإنترنت والطرق السريعة.
أما الآن فهناك حاجة لإعادة الاهتمام بمبدأ تقريب المسافات في المدن وتسليط الضوء على فكرة مدينة الخمس عشرة دقيقة، القديمة الجديدة، لأنها في أساسها دعوة لإخراج الناس من سياراتهم والتعامل مع أزمة المناخ المُلِحَّة. كما أنها دعوة أيضاً للتعامل مع واقع جديد فرضه فيروس كورونا الذي غيّر الصورة وأوجد مسألة مُلِحَّة أخرى وهي خطورة استخدام وسائل النقل العامة وضرورة الابتعاد عن أماكن الاكتظاظ. وكما كتب المؤلف والصحافي الأمريكي باتريك سيسون فإن “تغيير إيقاع المدن وتبني مفهوم مدينة الخمس عشرة دقيقة قد يكون الطريقة الأكثر إيجازاً وجاذبية للتعافي الاقتصادي من جائحة كورونا”.
وإذا كان هناك درس واحد يمكن تعلمه من جائحة الكوفيد – 19، فهو فوائد المرونة. إذ في غضون أشهر قليلة، قمنا بتحويل منازلنا إلى أماكن عمل، والمطاعم إلى مخازن للطعام، والحدائق إلى مستشفيات، والفنادق إلى أماكن للحجر الصحي، وأجهزة الكمبيوتر المحمولة إلى مدارس. وبالتأكيد نستطيع، في السنوات المقبلة، معرفة كيف يمكننا إعادة تنظيم مدننا بطرق لم نكن نعلم بوجودها. وهذا هو في الأساس ما تشير إليه فكرة مدينة الخمس عشرة دقيقة. فالمدن ليست مساحات جامدة بل نصوص طيعة يمكننا إعادة كتابتها عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “مدينة الخمس عشرة دقيقة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *